قراءة انطباعية للمجموعة القصصية (نفيسة)
تاريخ النشر: 6th, December 2024 GMT
أ.د. محجوب محمد آدم
إنَّ من حق الدكتور حسين حسن حسين أن أشكره على إهدائه لي مجموعته القصصية (نفيسة).. وتكاملت سعادتي بالإهداء مع عشقي الفطري لعالم الحكايات.. ولم أكن حفياً لتناولها بالدراسة.. أو تقريظها بإشادة ما تضمنتها من حسنات أو مزايا؛ بل كان في نفسي أن اكتفي بكلمات طيبات أجامل بها الحسين، على نحو ما يجامل كثير من النقاد في زماننا الأعمال الفنية والعلمية؛ خشية أن يخسروا أصحابها.
وكلما لهثت خلف كل حدث متطلعاً للمزيد فيما يرويه قطع حديثه ليبدأ في حكاية أخرى.. وعندما كان يلتقط الأشياء التي تناثرت من محفظة خاله الأعزب في خاتمة قصصه، كانت الساعة تشير عندي إلى السابعة صباحاً..
طوال هذه الساعات التي مرَّت؛ كنت أمام الحسين بجسمي وهو يلوِّن صوته وعباراته؛ بينما كنت أرابط بقلبي في قريته التي في خاطري أو قريتي، فهما سيان وكذلك مجمع قرانا.. وما ينثره من الأحداث لا تفارق قرانا، ولا تبعد عن محيط محدثي وصلاته إلا نادراً أو قل قليلاً..
حتى إنه لما نسي أن يخبرني في غالب حكاياته بأسماء من يتحدث عنهم، لم أطالبه بها، إذ لم يؤثر ذلك في متابعة أحداثهم، يكفيني أنَّه يحكي فيها عن جده وجدته وأخواله وخالاته.. أتراه جاء بسيرة أعمامه وعماته!! لا أذكر.. حتى عندما ذكر لي في نهايات حكاية أن اسم من يحكي عنه يحمل اسم (الفاضل) لم استسغ الاسم، ولم يضف لي جديداً.. بل إني لا أعرف أحداً في منطقتنا يحمل هذا الاسم الجميل.. وقد يكون!! ولا يتناسب مدلول الاسم مع مقاصد الحكاية، ولو جعل له اسم (فضل) لشفع له أن بعضاً من أهلنا يحملون هذا الاسم.. ولكن، طالما هو الذي نسبه إلى هذا الاسم، أو أنَّه شخص حقيقي يحمل هذا الاسم، فلم احتجاجي!!
ولفت نظري، وقد تتفق معي أن َّبعض من سماهم أو كانت المنطقة تسميهم في الواقع؛ كان بتأثير ثقافتنا في قرى شمال السودان، وارتباطنا في مرحلة تاريخية بأسماء سيدات آل البيت أو نقلاً عن أسماء السيدات ذات الصون والعفاف في المجتمع المصري.. ثم طغت أسماء المطربات فالممثلات... ولم يكن غريباً أن يطلق على مجموعته القصصية اسم (نفيسة) وهي كما في القصة سبعينية، ولها صداها ووقعها في مرحلة جداتنا، وإن جاء رسمها في غلاف المجموعة لعشرينية ترنو إلى الأفق البعيد، وتشمخ بأنفها العربي، وتقاطيع وجهها مع تناسب الأضواء والظلال.. ولم أقف طويلاً للبحث عما جعل الكاتب يتخذ هذا الاسم عتبة لمجموعته القصصية.. فلعله رآها ترمز إلى الكنداكات، حافظات التقاليد النوبية، أو رأى فيها شيئاً من روح الحكَّامات، ثم ناب عنها العسكر الذين وفدوا إلى القرية بحجة الحفاظ على أمنها، فلم تحتمل تدخلهم، وكان في ذلك نحبها، ولم يؤازرها غير شيخ البلد الذي اكتفى بالحزن عليها..
والكاتب لا ينسى في توثيق حياة القرية بهذا الأسلوب الفني الجميل أن يرمز بصورة أكثر وضوحاً إلى التحوُّل السياسي في قصتيه (يا للهول) و (ورطة عبد الرحيم)؛ في القصة الأولى تبرز شخصية شخص، شاء أن يقدمه دون أن يسميه، واكتفى بوصفه أنَّه « رجل من الغرباء الذين دخلوا البلد حديثاً « وأنَّه « يتميَّز بالجرأة والغلظة والدهاء، ومستعد أن يفعل أي شيء من أجل المال»، وبهذه الصفة يجنح لاستغلال حاجة الناس فيشتري جزءًا من أراضيهم، حتى اصبح صاحب أرض ثم صار يتمدَّد كنبت شيطاني، وهو ما مكَّنه أن يملي على كبير البلد وأهل القرية بنبرة متعجرفة تسيَّده للوضع في القرية..حينها سمع الناس صيحة كبير البلد وهو يصيح ( يا للهول)، ولكنه لم يجد من يقول له «ابكِ مثل النسا مُلكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال».
ونرى في قصة عبد الرحيم الوجوه التي تتصدر مجالسنا، وتنعق بما لا تعي في منابرنا، ويسيرون في ركاب من يهتفون لهم..
عندما نقلب النظر في القصص الأولى (هدوم العيد) و(حمارة جدي) أو (خالي سعيد) أو القصة الأخيرة في المجموعة (سيرة حب!!)، فأغلب الظن أنَّك لن تلاحظ اختلافاً في شخصية الراوي أو أسلوبه في الرواية، فهو الذي يعرف تفاصيل كل الأحداث والوقائع، وستجد نفسك في إطار مكاني لا يتجاوز القرية، ويتعمد في تسليط الضوء على ممارسات الناس في حياتهم اليومية.. فالقصة الأولى في المجموعة أبطالها الراوي والجد والجدة وحياة الكفاف، والاعتماد على الدعم الخارجي الذي يتكلفه المغتربون من أبنائهم في الداخل أو الخارج، وتتفاعل في القصة الثانية مع حمارة الجد التي يصفها الراوي: بالحقارة ، المتعجرفة ، الكريهة، ستجد الناس أسرة واحدة في السراء والضراء، وليس من عجب في مشاركة الناس في ملكية بعض الحيوان، وإذا ما يممت برندة دكان القرية سترى فيها كبار السن وقد جلسوا يجترون ذكريات الإسكندرية وباشواتها وايام العز في مصر، ستقف على تفاصيل ترويض الحمارة، وستتزاحم صور الناس ومواقفهم في قصص المجموعة، وتتسرب إليك في انسياب حتى تجد نفسك بينهم، وتتعاطف مع أفرادهم وأخبارهم، وكأنك فرد من أفراد قريتهم ..
والاغتراب الذي يعلق عليه الشباب خاصة للخروج من مأزق ضيق اليد، ستجد في عرض الكاتب أو رواة بعض قصصه رنةً حزن، حين ينتقي منها صورها المقلوبة، فلا تجد لحليمة ذنباً عند زوجها صالح حين يبعث لها من بلاد الغربة بعد عشر سنوات من الغياب عنها ورقة طلاق.. ولم تهنأ قبل طلاقها كبقية النساء اللاتي اغترب أزواجهن.. ولم يجد صالح ما كان يأمله بعد زواجه من الشابة الجميلة من هناءة.. وفي قصة (غربة وطن) لم يستطع مجدي أن يقنع صلاح أنَّه صديقه، لما أصابه من تغير حتى بدا كما يقول كما لو كان هارباً من عالم الموتى بجسده النحيل وشعره الذي يشبه في بياضه القطن، بعدما كان حديث مجتمع الرياض بأناقته ووسامته.. ولم يمر على افتراقهما غير خمس سنوات..
استطاع الحسين في هذه القصص أن يضمك إلى ساحته، ويقنعك بما يرويه من الأحداث ويصور لك من المواقف والأشخاص، لا لطرافة ما يرويه فحسب، وما تقف عليه من الأخبار؛ بل ضف على ذلك تمكنه في أسلوب عرضه، وتسلسل حكاياته، تشعر به وكأنه يجلس أمامك يحكي .. فانسابت كلماته وتعابيره في عفوية مقصودة تصل إلى توظيف المصطلحات النوبية على نحو قوله :"علب الصلصة التي كانت تملأ طرقات القرية التي أدمن أهلها الدمعة (صلصن كرواد) " حفنة من الشكيم " .. ولا يجد غباراً في استخدام كلمات من قبيل: الفانلة، الباتا، الحلة، اللوري، المرتق، البستلة، تحش القش، وقد يجد في دارجيتنا السودانية ما يحقق مراده من التعبير على نحو : أعرفك طبعاً .. دا كلام يا راجل .. فيرد عليه الآخر : في ذمتك عرفتني يا صلاح ؟ وقد يزين وصفه بمثل قوله: نرجع لمرجوعنا .. وقفنا فين؟ أيو.. أيو.. وقد ترتفع لغته فتأتي في نحو قوله:"كانت العبرة تخنقه؛ فيستيقظ فزعاً ؛ مما زاد جده وجدته رهقاً ."ويقول في أخرى : أصبح كالسوق الضاج برواده.. وقوله : " لون لا يمكن وصفه بالبياض أو السمار، عوان بين ذلك .. مقتبساً من القرآن الكريم .. " ومع مرور السنوات كان سيل الخطاب يقل هديره " وتكاد روعة أسلوبه تتجسم في وصفه من نحو قوله: "شعرها الذهبي الذي ينسال شلالاً وهو يتعرج مع تضاريس جسدها اللدن " وترى جمال وصفه في مثل قوله: " وددت لو طرت لاحتضن جدتي، وأشم رائحتها التي تغالبها رائحة قش الجروف وسعف النخيل والخراف والماعز.. كوكتيل معتبر من الروائح يعطي جدتي نكهة خاصة".. ويستعين أحياناً بمثل قوله: "وعلينا أن نمسك الخشب.. كما يقول المصريون" .. سيكون خبطة الموسم ..
إن هذه المجموعة القصصية أشبه بحفل عرس نوبي، يرتفع فيه التصفيق.. وتختلط فيه الأصوات والناس .. ويتصاعد الغبار.. ويردد الجميع مع مطربهم ما يمتعهم به من غناء، وهكذا ارتفع فرحي بها ..
husseinwardi@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذا الاسم
إقرأ أيضاً:
اليمن.. من أم الرشراش إلى حيفا.. قراءة في تحولات المشهد ودلالاته
“اليمن بركان نائم جنوب الجزيرة العربية، وإذا انفجر فسيجرف كل المنطقة”.
هذا ما قاله المفكر السياسي الكبير محمد حسنين هيكل قبل عشر سنوات، وتحديداً في العام 2015 مع بداية العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، في محاولة لتلخيص الأهمية الكبيرة التي يحتلها اليمن، والتغيرات التي يمكن أن يحدثها هذا المارد اليمني إذا خرج من محبسه، فهل كان هيكل “حوثياً”؟! أم أنه كان يرى بمنظوره الاستشرافي تحولات اللحظة الراهنة التي يصنعها اليمن؟.
تغير موازين القوى الإقليمية
الحقيقة أن المتأمل للتحولات التي صنعها اليمن منفرداً منذ التحاقه بمعركة طوفان الأقصى في أكتوبر2023 وحتى اللحظة، سيجد أنها جرفت ما صنعته الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة من توازنات قوى، وردع أمريكي، ومعادلات صراع، خصوصاً مع العدو الإسرائيلي، وكذا معادلة التفوق الإسرائيلي كقوة إقليمية في مواجهة كل الدول العربية، أو قل بمعنى أصدق عطلت مفاعيل تلك المعادلات والتوازنات، فاليمن المدمر والمحاصر لسنوات طوال، نهض من تحت ركام العدوان، ونزيف جراحاته الغائرة، ليساند المظلومية الفلسطينية، ويسطر تلك المواقف والأدوار التي أذهلت العالم، وعجزت عنها منظومة الدول العربية مجتمعة.
هذه الانبعاثة اليمنية القوية بإيمانها العميق بالله، المعتزة بقيادتها الاستثنائية وإرثها الحضاري والتاريخي قبل ترسانتها العسكرية، الراسخة بقيمها والتزامها الصادق بقضايا الأمة المركزية وعلى رأسها فلسطين، هي من صنعت تلك التحولات، وأعاقت التحالف الصهيو- أمريكي عن تحقيق أهدافه، وعن إرساء مرتكزات الشرق الأوسط الجديد على أرضية صلبة.
التصعيد اليمني وتناقضات المشهد
ففي الوقت الذي تزاحمت فيه بطريقة مذلة المنظومة الخليجية لاستقبال الرئيس الأمريكي ترامب، وتنافست على حشد كل ما لديها من ثروة لاسترضاء جلاوزة البيت الأبيض، الشريك الرئيس لمجرم الحرب نتنياهو في مذابح التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني، كان اليمن يُصعّد من هجماته الصاروخية لاستهداف عمق الكيان، متوّجاً هذا الإسناد الصلب بقرار حظر الملاحة في ميناء حيفا، وأمام هذه المفارقة الرهيبة برز الإسناد اليمني تعبيراً حياً عن تطلعات الشعوب العربية المقهورة، وحاجتها في لحظة انكسار حادة، إلى من يعيد لها الإعتبار، وفي تقديري أنّ هذا الأمر سيكون له أثره العميق في إعادة تشكيل الوعي العربي من جديد، وفي ترسيخ حقيقة أن الأمة العربية التي اختارها الله لحمل راية الإسلام كرسالة سماوية خاتمة، لابد أن تظلّ ولّادة مهما بلغ مستوى الخنوع، ففي اللحظة الفارقة يبرز من أصلها منْ ينهض بعبء المسؤولية كما فعل اليمن، ويُزيل عنها عار الخنوع، وشنار هذا الذل المستطير.
ها هو اليمن الكبير يحاصر منفرداً الكيان الصهيوني بحراً وجواً، مسجّلاً انتصارات متتابعة، فمن إغلاق ميناء أم الرشراش “إيلات” جنوباً بفعل الحصار الخانق على الملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي، مروراً بخوض معركة بحرية مباشرة مع البحرية الأمريكية انتهت بإجبار حاملات الطائرات الأمريكية على مغادرة البحر الأحمر، ثم تركيز الاستهداف على الوسط وتوجيه سلسلة من الضربات الصاروخية على مطار اللد “بن غيريون” بهدف حظر الملاحة الجوية التي تضررت بشكل كبير، وصولا إلى 19 أيار 2025 الذي أعلنت فيه القوات المسلحة اليمنية إدراج ميناء حيفا شمالاً ضمن بنك الأهداف، وحظر الملاحة إلى هذا الميناء الذي يتمتع بأهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة، باعتباره من أبرز مراكز الشحن في شرق البحر الأبيض المتوسط، والبوابة الرئيسية التي تربط الكيان بأوروبا، وأمريكا، وشرق آسيا، ويمر عبره بحسب بعض التقديرات حوالى 50 % من إجمالي واردات وصادرات الكيان الإسرائيلي، وتقدر حجم مناولة البضائع سنوياً بأكثر من 25 مليون طن.
إنّ حيفا ليست ميناءً استراتيجياً فحسب، بل هي بقعة جغرافية غنية بالعديد من الأهداف العسكرية الحساسة والمنشآت الصناعية الحيوية والمرافق الاقتصادية الضخمة، في مقدمتها ميناء حيفا الأكبر على مستوى الكيان، وقاعدة حيفا العسكرية، ومنشآت البتروكيماويات، وخزانات النفط، ومحطة حيفا الكهربائية، ومطار حيفا، ولأنها كذلك فإن التصعيد اليمني قد يتسع ليشمل كل هذه الأهداف الحساسة، فجولات الرصد التي قام بها حزب الله لم تُبْقِ منشأة حيوية في حيفا إلا وشملتها بالرصد الدقيق، وأتوقع أن هذا الحصاد الكبير بات في متناول القوات المسلحة اليمنية، الأمر الذي يضاعف من خطر التصعيد اليمني، ومن قدرته على توجيه ضربات قاصمة للعدو الإسرائيلي، ولا أظنه يُقْدم على كل هذه المجازفة مقابل الاستمرار في مغامرة فاشلة بقطاع غزة لن تحقق له ما عجز عن تحقيقه منذ بداية طوفان الأقصى.
يعترف بن يشاي المحلل في صحيفة يديعوت أحرونوت بمأزق الكيان قائلاً: “إن الضغط العسكري الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في القطاع حالياً، فقد كثيراً من فاعليته، فالعائد النسبي من كل جهد عملياتي من طرفنا يتناقص باستمرار”، وفي تقديري، إنّ هذا المأزق، مضافاً إليه مأزق الجبهة اليمنية وخطورة التصعيد الأخير باتجاه حيفا الغنية بالأهداف العسكرية والاقتصادية الحسّاسة، يجيبان عن التساؤل المحوري عن سرّ امتناع الكيان عن الرد على التصعيد اليمني واستعراض العضلات كما حصل في المرات السابقة؟!
بموازاة هذين المأزقين، هناك مأزق ثالث يتمثل في تصاعد الانتقادات الحادة لقادة الكيان من داخل المنظومة الغربية الحليف الاستراتيجي الوحيد لجناح الصقور بقيادة مجرم الحرب نتنياهو الذي يفقد السيطرة شيئاً فشيئاً على هؤلاء الحلفاء الكبار، وهناك منْ يرى أنّ تأثيرات هذه المآزق الثلاثة مجتمعة هي ما سيجبر الكيان الصهيوني على رفع الراية البيضاء والنزول من على الشجرة عبر تسوية سياسية تنتشل الكيان الصهيوني الغارق في مستنقع غزة منذ أكتوبر2023 م، وهو الذي تمكّن في حرب 1967 م من احتلال قطاع غزة وصحراء سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان في غضون أسبوع واحد.
الرسائل والدلالات
لن أتوقف طويلاً عند المشككين الصهاينة بقدرة اليمن على استهداف ميناء حيفا، فالشواهد كثيرة والضربات الافتتاحية على حيفا والبحر الأبيض المتوسط بدأت منذ يونيو 2024 م، لتقدم تجربة كافية لقرار الحظر الجديد، كما أن المتتبع لجبهة الإسناد اليمنية، يجد أن اليمن يعتمد في تنفيذ قراراته على استراتيجية النفس الطويل، كما فعل في عملية حظر الملاحة في البحرين الأحمر والعربي التي بدأت بطيئة ثم تدرجت إلى أن وصلت إلى إغراق سفن بأكملها.
وأخيرا نذّكر بأن الترسانة اليمنية من الطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة والفرط صوتية كفيلة بإنجاز المهمة، وهي التي تحدث عنها نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس خلال خطاب ألقاه في حفل تخرج الأكاديمية البحرية الأمريكية في 23 مايو 2025، واصفاً معركة البحر الأحمر بالصراع الكبير مع الحوثيين، مضيفاً “يجب على المشرّعين وكبار القادة العسكريين أن يتكيفوا مع عالم تلحق فيه الطائرات من دون طيار والصواريخ المجنحة أضراراً بالغةً بأصولنا العسكرية” والحقيقة أن هذه الأصول الأمريكية لم تتضرّر إلا في البحر الأحمر، فهل وصلت الرسالة، واستوعب قادة الكيان الدروس التي خرج بها الأمريكي من الحرب مع اليمن؟
الأهم – من وجهة نظري – هو الرسائل والدلالات التي يحملها هذا التصعيد اليمني الاستراتيجي، وسأقتصر هنا على ثلاث دلالات من العيار الثقيل:
1 – نجح اليمن في الحظر الكامل للملاحة الإسرائيلية في البحرين الأحمر والعربي وإغلاق ميناء أم الرشراش “إيلات”، وصولاً إلى توسعة هذا الحظر ليشمل ميناء حيفا شمالاً، بعد تثبيت حظر جوي ناجح على مطار اللّد، وإجبار البحرية الأمريكية على الانسحاب من البحر الأحمر، والمثير للدهشة أنّ هذا الحصاد الكبير صنعه اليمن منفرداً، وعجزت عن بعضه الدول العربية مجتمعة وهي في ذروة الإجماع العربي خلال عقود الصراع مع الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي يجعل اليمن منفرداً بمنزلة منظومة عربية فاعلة لا تحتاج معها القضية الفلسطينية إلى تلك المنظومة العربية العاجزة عن حماية سيادتها أمام العربدة الصهيونية، فكيف بالدفاع عن القضية الفلسطينية.
2 – إن مشروع تصفية القضية الفلسطينية بزعامة قوى الاستكبار العالمي مآله إلى الفشل المحتوم، ما دام في الأمة العربية من يجرؤ على المواجهة المباشرة مع القوتين الأوليَين على مستوى العالم وفي المنطقة “أمريكا والكيان الإسرائيلي”، فالذي صنع هذه التحولات، هو منْ يملك القدرة على إفشال هذه المشاريع، ومعالجة المعضلة الصهيونية المزمنة من الجذور.
3 – إن الصراع الحقيقي مع العدو الإسرائيلي هو ما رأيناه في طوفان الأقصى، هذه المعركة الوجودية التي تدفع وبقوة إلى إعادة كتابة تاريخ مرحلة الصراع العربي الإسرائيلي، بتنظيراتها السياسية وشعاراتها الرنّانة التي دغدغت مشاعر الأمة العربية عقوداً من الزمن، لكنها لم تصنع نصراً واحداً مشرفاً، بل سلسلة من النكبات والنكسات التي انتهت بتداعي الجبهات العربية الواحدة تلو الأخرى في مستنقع الاستسلام والتطبيع، باستثناء القلعة السورية التي ظلت صامدة إلى الأمس القريب، ولذلك تآمروا لإسقاطها وتسليمها لداعش صنيعة الاستخبارات الأمريكية.
يبدو أن عمليات الجرف بفعل انفجار البركان اليمني كما تنبّأ بها هيكل، لن تتوقف حتى ينتهي اليمن الكبير من جرف كل ما هو مصطنع وطارئ على الجغرافيا العربية، ولا يشبه حضاراتها الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، فالمستقبل حافل بالكثير من التحولات التي ستعيد رسم خريطة المنطقة لتبدو بملامحها العربية الأصيلة.