قراءة تأملية في النصّ القصصي “السودانيين ديل أساساً” لتاج السر الملك
تاريخ النشر: 17th, December 2024 GMT
إبراهيم برسي
١ ديسمبر ٢٠٢٤
نص “السودانيين ديل” لتاج السر الملك هو بمثابة متاهة سردية تنبض بالسخرية المتأملة والعبث الوجودي.
إنه نص مشبع بالرمزية، يتداخل فيه العمق بالسطح، ويأخذ القارئ في رحلة تكتنفها الخفة والثقل معًا، وفقًا لمفهوم ميلان كونديرا في روايته الشهيرة “كائن لا تحتمل خفته”.
النص، رغم عفويته الظاهرة ولغته العامية المقتضبة، يفتح أبوابًا واسعة للتأويل والتحليل، ويختبر المفاهيم الثقافية والهوية في ظل صراعات الفرد مع الجماعة، والانتماء مع الاغتراب.
يبدأ النص بنصيحة صادمة وعبثية في ذات الوقت: “أبعد من السودانيين ديل.”
هنا يكمن الثقل الوجودي؛ فكرة الهروب من الذات، أو بالأحرى من الآخرين الذين يعكسون الذات.
السودانيون في النص ليسوا مجرد كيان اجتماعي محدد، بل رمزية للهوية المعقدة والمتشظية.
النص يصور السودانيين كحالة سيولة ثقافية وهوياتية، متغيرة وغير متجانسة، حيث يُطلب من السارد الابتعاد عنهم ليس فقط كإجراء حماية بل كفعل لخلق مسافة من نوعٍ ما مع الواقع المأزوم.
هذه النصيحة، كما يروي السارد، ليست نصيحة فردية بل جزء من منظومة ثقافية قائمة على الشك والتوجس من الذات. العبارة التي تكررها الشخصيات حول “السودانيين ديل” تمثل نوعًا من “الهروب من الأصل” الذي وصفه كونديرا بـ”الخفة”، حيث يحاول الإنسان التخلص من أعباء الهوية وانعكاساتها الثقيلة على وجوده.
لكن هذه الخفة سرعان ما تصطدم بالثقل، ليس فقط في الإحساس بالانتماء بل في محاولات فهم الذات من خلال الآخر.
السارد ينطلق في رحلة عبثية للبحث عن “السودانيين ديل”، مستخدمًا لغة تمزج بين العامية والحكمة الساخرة، وكأنه يبحث عن ماهية لا يمكن الإمساك بها.
السودانيون يصبحون فكرة متغيرة، مرنة إلى حد أن “لكل منا سودانه الخاص الذي يخصه ولا يشبه سودان الآخرين.”
هذه المرونة أو “السيولة الثقافية” تسحب النص إلى بعد أكثر رمزية، حيث يتحول السودانيون إلى مجاز عن الهوية الفردية والجماعية التي تُعاد صياغتها باستمرار.
في وصفه للمواقف اليومية والتفاصيل البسيطة، يعكس النص نوعًا من الجمال الشفاف الذي يتماهى مع بساطة الحياة. لكن هذا الجمال مشوب بالمرارة، إذ يتحول كل وصف ساخر إلى نقد ثقافي لاذع.
على سبيل المثال، حين يُشير السارد إلى نقاشات “البني كجة” حول إعداد الأطعمة التقليدية، فإن النص يظهر جمال الحياة اليومية السودانية في سذاجتها المتقنة، ولكنه في ذات الوقت يبرز الغرابة الكامنة في هذه العادية.
كأن النص يقول: ما يبدو عاديًا هو في حقيقته مشحون بثقل المعنى. (المِش ده لسه ما استوى، الماعون لازم يكون خشب، ويتغطى بشاشة رهيفة، تكب الكمون والحلبة، وفص توم … وتنسى على كده، أساسًا)
الخفة تتجلى أيضًا في النبرة السردية الساخرة التي توازن بين السرد الجدي والنقد المتهكم.
في النص، تُستخدم مفردات يومية مثل “أساسًا” بطريقة تُظهر عبثية اللغة والمفاهيم، وتحوّل التكرار إلى أداة ساخرة. هذه الخفة اللغوية تتماشى مع الأسلوب السوداني التقليدي في المزاح الساخر، لكنها هنا تكتسب أبعادًا فلسفية عميقة.
النص يتعامل مع أزمة الهوية السودانية كمعضلة ثقافية وسياسية. من خلال توصيف السودانيين كمجموعة متصارعة داخليًا، يُبرز النص ثقل هذا الانتماء.
السوداني، وفقًا للنص، ليس مجرد فرد بل انعكاس لصراعات تاريخية واجتماعية تعبر عنها الشخصيات المختلفة في النص.
السارد يبحث عن السودانيين ولكنه لا يجدهم إلا في مواقف عبثية، كجماعة البني كجة المخمورة التي تهتف بشكل كورالي مع الأغنية في تناقض ساخر مع واقعها البائس.
الثقل يتجلى أيضًا في نقد النظام الاجتماعي والسياسي، كما في تحليل القائد العظيم لمشكلة السودان بالسودان ده مشكلتو كلها، في الشذوذ الجنسي أساسًا
“الشذوذ الجنسي” التي يستخدمها النص لانتقاد الانقسامات القبلية والعنصرية التي تعصف بالسودان. هنا، يعيد النص تعريف “الشذوذ” كمفهوم اجتماعي وليس جنسيًا، مشيرًا إلى انحراف المجتمع عن مساره الطبيعي بسبب تعصب هوياتي يفرّق بين “الشايقي” و”الجعلي” وغيرهما.
النص يعكس بوضوح أزمة الكراهية الذاتية التي تُخيم على الشخصية السودانية كما يصورها السارد.
السودانيون يهربون من أنفسهم ومن بعضهم البعض، وينبهرون بالآخر الأجنبي، كما في إشارة النساء اللواتي يفاخرن بصداقاتهن مع “المغاربيات والمصريات والأميركانيات”، بينما يُهملن بنات وطنهن. هذه الكراهية الذاتية تعكس انقسامًا داخليًا يجعل الفرد السوداني في حالة اغتراب دائم حتى عن أبسط مظاهر حياته اليومية.
في وصفه لهذه الكراهية، يقوم النص حالة سريالية مدهشة، حيث يصبح كل شيء جزءًا من اللعبة العبثية: كرة القدم أو (الدارفوري) والملعب الذي تم الحصول عليه بطريقة غير قانونية، بدفع رشوة (بلصة)، والموظف الذي يُسجن بسبب تورطه بالتعامل مع هذه الهوية التي تصر أن تصاحبها فوضاها أينما ذهبت، وحتى الحوارات العميقة حول أطعمة شعبية مثل “المِش”. كل ذلك يعكس صورة مجتمع يعيش في تناقض مع ذاته، حيث البساطة معقدة، والتفاهة مشحونة بالمعنى.
النص كما في صراع الروي لفرانسيس دينق لا يُقدم إجابات، بل يترك القارئ معلقًا بين أسئلة الهوية والانتماء. السودانيون فيه ليسوا كيانًا متجانسًا بل مجموعة من الرموز المتناقضة، أحيانًا ضحية وأحيانًا جاني.
في النهاية، يظل السودانيون ديل حالة وجودية معقدة لا يمكن القبض عليها بسهولة، كما لو أن تاج السر يدعونا للتأمل في عمقنا الداخلي: هل نحن السودانيون الذين نبحث عنهم، أم أننا نحاول الهروب من أنفسنا؟
Sent from Yahoo Mail for iPhone
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی النص التی ت ی النص
إقرأ أيضاً:
مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يختتم برنامج “تأهيل خبراء العربية في العالم” في جدة
اختتم مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية أعمال برنامج “تأهيل خبراء العربية في العالم”، الذي أُقيم في مدينة جدة، بالشراكة مع جامعة الملك عبدالعزيز ممثلةً في وقف لغة القرآن الكريم، في المدة من 04 إلى 31 مايو 2025م، بمشاركة “25” معلمًا ومعلمةً من معلمي اللغة العربية للناطقين بغيرها من “13” دولةً.
وجاء البرنامج ضمن جهود المجمع الرامية إلى تأهيل القيادات التعليمية المتخصصة في مجال تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وتمكينهم من أدوات التدريس، وربطهم بالممارسات الحديثة في المؤسسات التعليمية داخل المملكة العربية السعودية؛ دعمًا لنقل الخبرة وتوطين المعرفة في دولهم.
وجسَّد البرنامج التزام المجمع بتطوير كفايات تعليم اللغة العربية دوليًّا، وبناء جسور معرفية بين المملكة العربية السعودية والجهات التعليمية الخارجية، مع تأكيد أن المشاركة النوعية للمتدربين في البرنامج تمثل خطوةً مهمةً في تأهيل الصف الأول من قادة تعليم اللغة العربية عالميًّا.
اقرأ أيضاًالمجتمع“عبداللطيف جميل” و”أوبر” توقعان مذكرة تفاهم لاستكشاف فرص تطوير مستقبل قطاع التنقل في السعودية
وتضمن البرنامج خطةً تدريبيةً موزعةً على أربعة أسابيع، شملت محاضرات أكاديمية، ولقاءات تفاعلية تطبيقية، وزيارات ميدانية لعدد من الجامعات والمعاهد المعنية بتعليم اللغة العربية، إضافةً إلى أنشطة تقويم النظير، وتجارب تعليمية توثيقية قدَّمها المشاركون في الأسبوع الأخير من البرنامج.
وتناول البرنامج أيضًا موضوعات متخصصةً في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، شاملةً أساليب التقويم، وتطبيقات التقنية، واكتساب اللغة، والتواصل الثقافي, على نحو يسهم في رفع كفاية المشاركين، وتعزيز قدرتهم على تصميم محتوى تعليمي يتماشى مع احتياجات طلابهم في البيئات المختلفة.
ويُعَدّ هذا البرنامج أحد مشروعات المجمع في مجال بناء القدرات التعليمية المتخصصة، ضمن مساراته الإستراتيجية في تمكين اللغة العربية، ورفع كفاية المعلمين الدوليين، وتوسيع أثر برامج تعليم اللغة للناطقين بغيرها عالميًّا من خلال الشراكة مع الجامعات الوطنية والخبرات التعليمية السعودية.