توأمة كفاح الشعب السوري حاليًا بجهاد الشعب الجزائري سابقا.. قراءة تاريخية
تاريخ النشر: 20th, December 2024 GMT
عندما انطلقت الثورة السورية المعاصرة ربيع العام 2011، كان رفعت مطالب الإصلاح السياسي، الحرية، الديمقراطية، وإنهاء الفساد والاستبداد، في مظاهرات سلمية حضارية، إلا أن رد النظام السوري بقيادة الرئيس المخلوع بشار الأسد كان قمعيًا وعنيفًا، مما أدى إلى تحول الاحتجاجات إلى صراع مسلح وحرب أهلية طويلة الأمد، لم تنته إلا بعد نحو 14 سنة، وقد كلفت الشعب السوري ثمنا باهظا على جميع المستويات.
ربما لن يكون من اليسير على السوريين ولا حتى على العرب والمسلمين والإنسانية، أن تنسى صور التنكيل والتعذيب والمعاناة التي تعرض لها الشعب السوري طوال هذه الأعوام، ليس فقط لحجم الكارثة التي عاشها السوريون وطولها الزمني، وإنما أيضا لبشاعتها حتى أن قصصها استحالت إلى وشم على جبين الإنسانية يصعب محوه مهما تقادم بها الزمن..
وما زاد من عمق المأساة السورية التي حملت الكثير من سمات المآسي التاريخية التي عاشتها شعوب عربية وإسلامية عانت القمع والاستبداد، سواء كان ذلك في العراق تحت الاستبداد أو في ظل الاحتلال الأمريكي الغربي بعده، أو في تاريخ الجزائر التي لا تزال تجربتها في مكافحة الاستعمار الفرنسي تمثل أحد أهم وأنصع الثورات الإنسانية بالنظر إلى عدالتها.. ما زاد من عمق المأساة السورية هو العجز العربي والدولي التام في نجدة الشعب السوري، حتى أمست شوارع عواصمنا العربية تعج باللاجئين السوريين في ظل مضايقات أمنية مشددة عليهم..
بل أكثر من ذلك، فقد عمد خصوم حرية الشعوب إلى وصم الثورة والثوار المنادين بالحرية والكرامة بتهمة الإرهاب، وهو ما أتاح الفرصة الكاملة للمستبد أن يستفرد بالشعب ويثخن في إيلامه وإيذائه بهدف إخماد مطالب التغيير والتوق إلى الحرية..
ومن هنا كانت حتى الكتابة عن الثورة السورية ومعاناة الشعب السوري محاطة بكثير من المخاوف والمحاذير، حتى من باب التأريخ لأكبرنكبة عاشها السوريون في تاريخهم المعاصر..
الكاتب والمفكر الجزائري الدكتور أحمد بن نعمان، كان واحدا من المقفين العرب الذين انحازوا مبكرا لثورة الشعب السوري، وقد رأى أن ثورة الشعب السوري ضد ما يسميه بـ "الاستحلال"، وهي صفة يطلقها على الأنظمة العربية المستبدة التي ورثت الاستعمار الغربي في حكم الشعوب العربية، كانت تشبه في كثير من أسبابها وأدواتها وأهدافها للثورة الجزائرية التي انتها في آخر المطاف إلى طرد المستعمر الفرنسي، وهو ذات ما انتهت إليه الثورة السورية التي أطاحت بنظام الأسد وأنهت بذلك حقبة تاريخية حكم فيها حزب البعث لما يقارب ستة عقود.
في هذه الورقة التي خص بها "عربي21"، يشرح أحمد بن نعمان أوج التشابه بين الثورتين الجزائرية والسورية على الرغم من اختلاف العدو..
من مواجهة الاستعمار إلى مقارعة الاستحلال
تحية من الشعب الجزائري المجاهد ضد الاحتلال الأجنبي سابقا.. إلى توأمه الشعب السوري ضد الاستحلال "العربي" حاليًا! وبالمقارنة تظهر الفوارق والقواسم بين الماضي والحاضر وبين الرجال والأحوال والتخاذل في المواقف مع الخيانة والتلاعب في التصريحات والأقوال المناقضة للأفعال...!!؟ إلى كل الأشقاء الأوفياء أتقدم بتعازيّ الحارة الصادقة، وأنعي لهم هلاك الضمير الإنساني، فضلا عن الإحساس الغريزي الحيواني، في صدور بعض العرب وكل الأعراب، ناهيك عن الأغراب الحاقدين، وخاصة أرباب الفيتو الظالم في بلدان العالم، من المنافقين المجرمين الذين يقولون عكس ما يفعلون بأحلافهم، و يصرحون بأفواههم و أبواقهم، إذا كان الأمر يتعلق بأشباه البشر أمثالنا من ضحايا إرهابهم المشروع، للدفاع عن النفس حسب معاييرهم في مجلس أمنهم المٌرعب لبني الإنسان من أمثالنا، الذين يلاحظ في سلوكهم صدق الإيمان، وفي قلوبهم عقيدة الطاعة لخالق الأكوان، القاهر لفراعنة كل زمان، ويشعرون بالعزة والكرامة، ويتوقون إلى تحرير الأوطان التي يؤمنون أن حبها والتضحية في سبيلها من الإسلام و الإيمان، ويعدون العدة المستطاعة حسب الإمكان، لجهاد الظلم والطغيان، في شام صلاح الدين وما جاوره من البلدان.!
وهذه التعازي أقدمها لنفسي أولا، ولكل من لم يشعر مثلي بأي عيد للأضحى، بل عيد للتضحية بالبشر في حمص وإدلب ودارياّ ودرعا وحلب والغوطة الآن وكل وطن الشعب السوري العظيم، الذي يضحي بأبنائه على كل شبر من ارض أحراره من أصحاب الأخدود الجدد، الذين قالوا منذ بداية المحرقة الصليبية الصهيونية المجوسية ضدهم على امتداد خمس سنوات، وقد أعلنوا في "أوراسهم" بمدينة درعا لكل العالم بأعلى أصواتهم: "يا الله، ما لنا غيرك يا الله.." "واحد واحد، الشعب السوري واحد.." مؤمنين بأن من يتوكل على الله وحده، مخيرًا أو مضطرًا فهو حسبه.
نظرا لطول مدة الثورة الجزائرية وعمقها وأصالتها واتساعها وعدد ضحاياها وقساوة قمعها وقوة عدوها وشراسة قمعه لها في مهدها في مقابل ضعفها وقلة يدها عدة وعتادًا وخبراء وجحافل وأمراء، فإننا يمكن أن نعتبرها كالخلايا الجذعية الجنينية في الكائن البشري ومقارنة بينها وبين الثورات العربية الحالية المنتصرة والجارية، فإنّ لكلّ واحدة منها شبها بثورتنا التحريرية في مرحلة من مراحلها التحضيرية والتصعيدية عبر سنواتها السبع الطوال التي لم تضارعها إلا الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال (وليس الاستحلال) كما هو واقع الحال بالنسبة لثورات الربيع العربي المقصودة بهذا السؤال.ولقد قلت شيئا مدونا منذ أكثر من خمس سنوات، مثلما أكتبه الآن لكم بعصارة قلبي، كأوسط الإيمان وأضعفه، والذي لم يترك لنا أعداء الله والأمة غيره في أوطاننا المستحلة لابتلائنا بحكمته البالغة.! فأجريت حينها مقارنة سياسية واجتماعية وجهادية وعسكرية بين ثورة الشعب الجزائري البطل سابقا، أو المثل التاريخي القديم، مع الموقف البطولي الراهن، والأسطوري النادر المثال للشعب السوري العظيم فعلا و وجدت عدة نقاط التقاء وتشابه، إلى حد التطابق أحيانا، بين ثورتي الشعبين الشقيقين المجاهدين المنطلقين من الصفر، والمعتمدين على الله وحده والإمكانات الذاتية ثانيًا عملا بقول العزيز الحكيم "وأعدوا لهم ما استطعتم!" ولم يقل: "وأعدوا لهم مثلما عندهم من سلاح وعتاد!؟".. والمقابلة منشورة بكاملها في يومية "الجزائر" ليوم 26 نوفمبر 2012مع الصحفي مصطفى بسطامي، ونعيد نشرها حرفيًا فيما يلي :شهدت بعض البلاد العربية "ربيعًا ثوريًا" أطاح ببعض الأنظمة الدكتاتورية هليصح، سيدي، أن نطلق على تلك الحركات "التحررية " اسم الثورات وما هيالثورة الأكثر شبها بالثورة الجزائرية في نظركم؟؟
الجواب: نظرا لطول مدة الثورة الجزائرية وعمقها وأصالتها واتساعها وعدد ضحاياها وقساوة قمعها وقوة عدوها وشراسة قمعه لها في مهدها في مقابل ضعفها وقلة يدها عدة وعتادًا وخبراء وجحافل وأمراء، فإننا يمكن أن نعتبرها كالخلايا الجذعية الجنينية في الكائن البشري ومقارنة بينها وبين الثورات العربية الحالية المنتصرة والجارية، فإنّ لكلّ واحدة منها شبها بثورتنا التحريرية في مرحلة من مراحلها التحضيرية والتصعيدية عبر سنواتها السبع الطوال التي لم تضارعها إلا الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال (وليس الاستحلال) كما هو واقع الحال بالنسبة لثورات الربيع العربي المقصودة بهذا السؤال.
ولذلك أستعين في الإجابة والمقارنة بالعودة إلى تشبيه الثورة الجزائرية بالخلايا الجذعية في بداية خلق الجنين، حيث أن كل خلية تتوزع منها خلايا نوعية مختلفة عنها تمامًا كخلايا المخ والقلب والكبد والدم والعين والعظم والظفر والجلد والشعر، التي تختلف في نسيجها ومادتها ولونها وصلابتها ووظيفتها اختلافا جذريًا وكليا مع تكاملها العجيب في الوظيفة الحيوية.. ومن هنا نجد شبيها لها في جميع الثورات الربيعية العربية في الأصالة والشجاعة والإرادة والتعبئة المادية والمعنوية والتصميم والقدرة الفائقة على التضحية ومجابهة كلّ الأخطار الداخلية والخارجية والمناورات والمؤامرات الدولية والثورات المضادة المحلية والجهوية والطوابير الخيانية من الجيران والأشقاء قبل الرفقاء والأعداء بحيث نجد لكل ربيع عربي خانة أو مكانة يملأها في الخريطة الثورية العربية والخريطة مُمتدة أمام القراء كالحصيرة، لكل ذي بصر منهم وبصيرة، ليدرك أن أهم هذه الثورات وأكثرها شبها بالثورة الجزائرية الماضية هي الثورة السورية الحالية أصالة وعمقا وشمولية وعنفاً وشراسة وبجميع المقاييس المتعلقة بمكانة العدو المادية وإرادة الثوار المعنوية ذات المرجعية الروحية التي تجعل الأغلبية مع الثوار والأقلية في صف النظام الحاكم مع خلل صارخ في توازن القِوَى من ناحية الأسلحة المادية والتعبئة العسكرية الأرضية والجوية باستثناء الروح المعنوية التي هي في صالح أصحاب القضية من الثوار والأغلبية الشعبية التي تجابه المدافع والطائرات بالبنادق الفردية مثلما كان عليه الشعب الجزائري الأعزل ضد الجيوش الفرنسية والترسانة الأطلسية (البحرية والبرية والجوية) ولا وجه للمقارنة بين شعب مصمم على الجهاد والتضحية في سبيل تحطيم أغلال الاستبداد والاستعباد وحكم ظالم غاصب بالوراثة لإرادة شعب تواق إلى الحرية والانعتاق وبذل أغلى الأثمان في سبيل كرامته والدفاع عن عرضه على أرضه كإنسان في حضارة هذا الزمان..
وعندي كثير من أوجه الشبه للمقارنة والمطابقة بين الثورة الجزائرية والثورة السورية لا أدري إذا كانت المساحة التي خصصتها جريدة "الجزائر" لهذا الحوار تسمح بذلك!؟ (الصحفي: تفضلوا.... ).... إنّ أهم أوجه الشبه التي أحصيتها إلى حد الآن بين الثورتين تتلخص في النقاط التالية:
الرصاص هو الذي يحسم المعركة.. وأذكر أنّ هذه العبارة قالها وزير الداخلية الفرنسي "فرانسوا ميتيران" في مدينة خنشلة بالأوراس يوم 15 نوفمبر سنة 1954 وقالها أيضا بشارالأسد في بداية الثورة في درعا (أوراس الجزائر) بأن الحسم سيكون على الأرض، وقد أكد هذا الموقف رئيس وزرائه المنشق الدكتور رياض حجاب في تصريح له في الأردن أثناء مقابلة أجرتها معه جريدة "الحياة" اللندنية في حينه.
1 ـ مشاركة المرأة السورية في الثورة جنبًا إلى جنب مع أخيها الرجل في كل الميادينوهو ما تميزت به الثورة الجزائرية بجميلاتها الخالدات جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل في جميع الميادين العسكرية والسياسية والفدائية والإعلامية ..
2 ـ العمق والشمولية لكل أنحاء البلاد وفئات العباد من كلّ الأعمار والمستويات، وهومايطبع الثورتين بطابع لا يخطئه نظر أيّ مُتتبع لتطور الأحداث في سوريا بجيشها الحرولجانها الشعبية، ومظاهراتها اليومية والأسبوعية في كل مكان.
3 ـ الاعتماد على النفس وهو الطابع الذي ميّز الثورة الجزائرية التي كانت تدبر أمر تسليحها بكل الوسائل وهو نفس الشيء بالنسبة للشعب السوري الذي حرمه كل الأعداء من السلاح النوعي...
4 ـ خذلان بعض القوى العظمى للثورة الجزائرية مثلما خذلت بعض الدول العربية ذاتها بتصويتها ضد إدانة نظام الإجرام البعثي مرتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة! ولأول مرة تلتقي دول عربية مع "إسرائيل" في نفس الموقف ضد إدانة النظام البعثي على جرائمه التي أدانتها الجمعية العامة بأغلبية تجاوزت 90%.!
5 ـ استباحة كلّ شيء لا أخلاقي من اغتصاب وعقاب جماعي وقلع الأظافر للصغاروالكبار، من أجل قمع الثوار وإخماد ثورة الأحرار.
6 ـ انشقاق الوطنيين الأحرار من صفوف العدو في سوريا مثل هروب المجندين الجزائريين الوطنيين من الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، بعتادهم وأجهزتهم وخبرتهم لخدمة الثورة المباركة!
7 ـ التفوق المطلق للعدو من ناحية الطيران والأسلحة الثقيلة التي كان يتزوّد بها الجيشالفرنسي من ترسانة الحلف الأطلسي، مثل ما يتزود النظام السوري اليوم (بلا حساب)من ترسانة النظام الإيراني والعراقي والروسي وحزبهم المعتمد في لبنان.
8 ـ التفوق المعنوي والروحي والنفسي والجسدي للثوار السوريين مثل تفوق المجاهدين الجزائريين على جيوش فرنسا والحلف الأطلسي على امتداد السنوات السبع العجاف التي لم يكن مع الشعب الجزائري فيها إلا الله، كما يقول الشعب السوري اليوم في شعاره الذي تردده الجماهير دائمًا وهو (مالنا غيرك يا الله).
9 ـ كل الثورة الجزائرية كانت مبنية على التطوع في التجنيد والتمويل والتضحية بكلّ شيء في سبيل الهدف المسطر، وهو الاستقلال الوطني، ونفس الظاهرة التطوعية نجدها واضحة في الثورة السورية، حيث يتوافد على الجهاد آلاف الشبان من الداخل ومن الخارج رجالا وأموالاً وتصميم الجميع في قسمهم الجماعي (عند الانشقاق) بأنهم لن يخونوا العهد ولن يتوقفوا عن الثورة حتى يتحقق الهدف النهائي المتمثل في إسقاط النظام "التوريثوقراطي" و"التزويروقراطي" الفريد من نوعه في تاريخ الاستحلال العربي المعاصر !!.
والخلاصة التي يمكن أن تخرج بها هي أنّ النهاية ستكون واحدة بين الثورتين مهما طال الزمن مع فارق كبير لصالح الشعب السوري وهو أنّ عدو الشعب الجزائري في الماضي كان الاحتلال أما عدو الشعب السوري الحالي فهو "الاستحلال" وشتان بين الاحتلال الخارجي والاستحلال الداخلي الذي يكون الخصم فيه هو الحكم والمفعول به لغيره، هوالفاعل، بل هو القاتل لشعبه !!(انتهى هنا نص الجواب من مقابلة طويلة شملت عدة مجالات تهم حاضر الأمة..).
وقد قلنا في مقال آخر سنة 2016، بأن هناك نقطة اختلاف واحدة بين الثورتين، وهي هامة وفارقة، شرحناها بقولنا: "إن الشعب الجزائري كان مؤمنًا بالقضية، وموحدًا في جهاده ضد الاحتلال الأجنبي العسكري المادي الملموس، أما الكفاح الأسطوري للشعب السوري اليوم، فهو جهاد ضد "الاستحلال" المحلي المدسوس والمغروس، وشتان بين الاحتلال الأجنبي المحسوس و"الاستحلال" المستوطن بالوراثة في بعض العقول والنفوس، وكان برهاني وحجتي في ذلك لإثبات الفرق بين سهولة الاحتلال وصعوبة أو خطورة الاستحلال، لكل ذي حس وإدراك وبصر وبصيرة، تتمثل في تمكن الشعب الجزائري المؤمن بقضيته، من القضاء بالجهاد والاستشهاد على الاحتلال العسكري الأجنبي المادي والمحسوس في بضع سنين، ولكنه ما يزال إلى الآن يخوض معركته المصيرية الكبرى المعقدة ذات الجبهات المتعددة على أرض "الاستحلال" العقيدي والثقافي والسياسي والاقتصادي والهوياتي والانعزالي والانفصالي والإرهابي والانقلابي، الذي دام حتى الآن على الأرض أكثر من خمسين سنة، بإمدادات وتخطيطات أجنبية، وأدوات تنفيذية محلية، في مختلف الجبهات المتشابكة الأطراف والمتقاطعة المصالح والأهداف، على اختلاف الانتماءت والأحلاف المتبارية على الساحة، للبحث عن وجوه الاختلاف لتعميق الخلاف على حساب وحدة الوطن لصالح الأعداء الحقيقيين، في الخارج والداخل، من الفاعلين الدائمين ونواب الفاعل الموسمين!؟
كل الثورة الجزائرية كانت مبنية على التطوع في التجنيد والتمويل والتضحية بكلّ شيء في سبيل الهدف المسطر، وهو الاستقلال الوطني، ونفس الظاهرة التطوعية نجدها واضحة في الثورة السورية، حيث يتوافد على الجهاد آلاف الشبان من الداخل ومن الخارج رجالا وأموالاً وتصميم الجميع في قسمهم الجماعي (عند الانشقاق) بأنهم لن يخونوا العهد ولن يتوقفوا عن الثورة حتى يتحقق الهدف النهائي المتمثل في إسقاط النظام "التوريثوقراطي" و"التزويروقراطي" الفريد من نوعه في تاريخ الاستحلال العربي المعاصر !!.وبالمقارنة اليوم، مع الفارق الزمني بين احتلال الجزائر السابق واستحلالها اللاحق الذي ما يزال في عنفوان شبابه واستفحاله إلى درجة أن أصبحت معه بعض فئات الشعب ربما تترحم على أيام الاحتلال الأصغر وتقول: "ألا ليت الاحتلال يعود إلينا لنخبره بما فعل الاستحلال فينا!" فالشعب السوري الشقيق بدأ جهاده الأكبر والأعسر مباشرة ضد الاستحلال دون احتلال عسكري همجي استيطاني مباشر، وهو عكس ما وقع لنا نحن الذين انتقلنا من جهاد الاحتلال المباشر الذي دام سبع سنين ونصف، ليحل محله الاستحلال المستمر، كما هو ملاحظ حتى الآن، وما يزال على أشده بعد نصف قرن من التوقيع على "أوراق" الاستقلال!؟
ولقد أحدثت المستجدات الطارئة على الساحة الجزائرية السياسية والثقافية والاجتماعية ما جعلني أجزم بقولي، عن تجربة واقتناع بأنه لو كان عندنا في الساحة الوطنية مشاكل مصطنعة حول وحدة ومقومات الهوية الوطنية أيام الاحتلال مثلما نحن عليه الآن، لما ثار الشعب الجزائري المٌوحَد ضد الاحتلال ولما تحقق أي استقلال (على ما هو عليه من عدم استكمال...)، وكفى بن بولعيد وبن مهيدي وعميروش والحواس ولطفي وشعباني وكل الشهداء الأبرار والرجال الآحرار شر القتال!
وأسجل هنا للتاريخ بأنه لم يوجد من الشعوب الشقيقة التي وقفت مع الثورة الجزائرية وقوفا نموذجيًا في الصدق والإخلاص والتضحية الفردية والجماعية ضد الاحتلال أيام الجهاد الأصغر، أكثر من الشعب السوري الشقيق، ومعه الشعب الليبي العريق، وهذا مقارنة بالشعوب العربية الأخرى (مع كل ما في ذلك من فوارق نسبية...) ولا أقول الأنظمة العربية التي كانت لكل واحد منها حساباته الخاصة، علما أن كل الشعوب العربية، بدون استثناء، كانت متعاطفة بكل صدق مع مفخرة القرون الجهادية للأمة المحمدية التي حققت، بجهاد الجزائر أكبر انتصار للموحدين من أبناء الأمة الشاهدة ضد الأحلاف الصليبية الحاقدة... بعد الانتصار الساحق والباهر للناصر صلاح الدين قبل مئات السنين في قدس فلسطين!!
واليوم تحت قبضة الاستحلال، الذي هان أمام أهواله الاحتلال، لم تستطع الأنظمة العميلة والدخيلة أن تنصر الشعوب المستحَلة في بلاد الأشقاء مثل الشعب السوري والمصري وما جاورهما، في غزة وغيرها، بل تكبل حتى الأحرار من أبناء الوطن، وتمنعهم من مجرد التظاهر لنصرة أشقائهم، ولو بالتعاطف، على الأقل، كأضعف الإيمان.
بعيدًا عن مباريات كأس العالم في بلد المجرم الحاكم! علما أن أبناء الشعب السوري الشقيق كانوا متطوعين في جبهاتنا القتالية بأجسادهم وأرواحهم قبل أموالهم في نفس الخنادق مع المجاهدين الجزائريين، وأذكر منهم على سبيل المثال، الدكتور إبراهيم ماخوس الذي كان طبيبا في الجبهة الجهادية على الحدود الجزائرية الشرقية، وقد مات منفيا في الجزائر، التي عاد إليها لاحقا كلاجئ سياسي بعد انقلاب حزب البعث (الذي لا يؤمن بيوم البعث) و قد توفي رحمه الله هنا في الجزائر منذ أربع سنوات، قبل أن تستقل بلاده من الاستحلال، مثلنا بالضبط الآن!
وفي السياق المعاكس ذاته أذكر الكاتب والشاعر الجزائري مالك حداد، الذي قال في محاضرة له أثناء مهرجانات الشعب السوري الشقيق التي كان ينظمها في كل مدنه طوال سنوات كفاحنا المسلح، لنصرة الثورة الجزائرية، حيث قال في قلب دمشق: "إن مجرد وقوفي اليوم بينكم لأتحدث إليكم بالفرنسية، وأنا العاجز عن التعبير عن أفكاري باللغة العربية، يكفي برهانا لتعلموا إلى أي مدى كنا نحن الجزائريين ضحايا أبشع وأرهب محاولة من محاولات إفقاد الشخصية والهوية القومية في تاريخ البشرية!؟
ومما لا شك فيه، أن من أهم أهداف ثورتنا أن نعيد الكرامة للغتنا العربية، لأن ذلك يمثل رمز السيادة الوطنية وأضاف قائلًا: إن ما يفصلني عن وطني الجزائر الآن، ليس الجبال و لا البحار، بل هي اللغة الفرنسية.." وكتب يومها المرحوم الشاعر السوري سليمان العيسي، الملقب (بشاعر الثورة الجزائرية) قبل مفدي زكرياء عن مالك حداد رحمه الله قائلًا : "سأكتب عنك يا مالك، سأعجن بالحروف الخضر، كل عِطاش آمالك، سأكتب عنك أنشودة ترن بأحرف القرآن، بالأوراس مشدودة، بَلا يا شاعري، سأخط عنك غناءك الصامت، بحرف من شواظ النار بالعربية الحرة، ليصدح لحنك الخافت، لتعرف أننا أسرة، لتعلم أن أرضك يا أخي ارضي، ونبضك لم يكن يوما سوى نبضي...".
وقال في قصيدة أخرى أيضا بالمناسبة: "..وتبارى للردى أبطالها يدفعون العار عنا والهوانا، بأبي أوراس كم من شاعر لم يجد من هول ما ضحت بيانًا... ومضت سبع، وما من ثائر مل للهيجاء ضربا طعانا، ورمى جيش فرنسا حقده يطلب النصر ولو نصرا جبانا، وصلاح الدين من قبره قدم التاج لها والصولجانا، يا بني العرب بلغتم مثلها ورفعتم أبد الدهر لوانا، لا تظنوا أنها قد خمدت فأوار الشمس من بعض لظانا".
وأكتفي في ختام هذه الكلمة التأبينية على موت، أو قتل الضمير الإنساني، فضلا عن الديني والوطني والقومي في جماهير الأمة المحمدية المجوعة والمروعة والمضللة والموجهة إلى الانشغال بمضوعات ثانوية مصطنعة اصطناعا كما ذكرنا لإلهاء شعوبنا الطيبة إلهاء!
هذا دون الحديث عن نواب الفاعل وهم أصل الداء وأسباب الاستحلال والبلاء على رأس بعض الأنظمة العربية، المغربية والمشرقية، على حد سواء، والقامعة لكل الأحرار من شعوبها بربيعها وشتائها وصيفها وخريفها، وجنتها ونارها، وملائكتها وشياطين إنسها، في الخارج والداخل، من الفاعلين الرئيسيين المعتمدين، ونوابهم المستأجرين الموسميين..!
وأؤكد في الأخير، محاولًا التذكير والعزاء بالتعبير من خلال بعض هذه المقولات المنشورة بمناسبات مختلفة في أيام العيد الذي لم يأت بأي جديد غير التفنن في القمع والتعذيب والترويع والتجويع والترحيل والتشريد والقتل بالحرق والخنق بالغازات السامة المريعة (والمريحة نسبيًا)، والتدمير بكل أنواع الأسلحة المحرمة على البعض دون الأخر، والتي لا تنفد في مخازن الحلفاء والوكلاء لقهر الشعوب، حتى في أيام العيد و يقولون هل من مزيد.!!
وأريد أن أنهي موقفي الثابت والصادق بالخلاصة التالية: سيتخلص الشعب الشقيق المجاهد الشهم الكريم بإذن الله وأحراره من طغيان الوريث الجملكي العميل الزنيم وحمالات الحطب من أنسال أبي لهب والشيطان الرجيم رغم الفيتو الظالم المتحكم في رقاب المستضعفين في العالم.. والفضل والشكر لله وحده واعد المؤمنين بالنصر المبين بعد الابتلاء الشديد والتمحيص الدقيق لإيمان المجاهدين الصادقين والله لا يخلف وعده للمؤمنين الصابرين المحتسبين..
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير التاريخية الجزائر الثورات سوريا سوريا الجزائر تاريخ ثورات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب السوری الشقیق الثورة الجزائریة الشعب الجزائری الثورة السوریة ضد الاحتلال التی کان فی تاریخ فی سبیل أکثر من لها فی
إقرأ أيضاً:
قوافل الغضب التي هزّت عروش الصمت
بسم الله الرحمن الرحيم
#قوافل_الغضب التي هزّت #عروش_الصمت
دوسلدورف/ أحمد سليمان العُمري
في عالم يُحاصر الأطفال بين أنياب الاحتلال وأقدام الأنظمة العربية، انطلقت قافلتان: واحدة بحرية من أوروبا وأعقبتها أخرى برية من تونس؛ حملتا نفس الحلم: كسر الحصار عن غزّة، لكنهما اصطدما بنفس القسوة، قسوة تثبت أن الخيانة العربية والغطرسة الإسرائيلية وجهان لعملة واحدة. هنا قصّة أولئك الذين رفضوا أن يكونوا حرّاساً لهذا السجن الكبير.
مقالات ذات صلة لماذا يخفق القلب فرحًا أو حزنًا؟ وأيهما أشد وطأة؟ 2025/06/20الليلة التي غرق فيها الضمير العالمي
«تياغو» البرازيلي ذو العشرين ربيعاً لم يكن يعلم أن مشاركته في رحلة سفينة «مادلين» ستنتهي به في زنزانة إسرائيلية تحت الأرض. «كنا 12 ناشطاً فقط على متن السفينة»، يقول بصوت يرتجف، «عندما حاصرتنا الزوارق الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، وكأننا أسطولاً عسكرياً وليس متطوعين يحملون أدوية الأطفال».
بين الأمل والقمع
انطلقت السفينة من ميناء «كاتانيا» في جزيرة صقلية الإيطالية في الأول من يونيو 2025، تحمل على متنها ناشطين من جنسيات متعددة، بينهم الناشطة البيئية “غريتا تونبيرغ” والنائبة الأوروبية ريما حسن. كانت الشحنة رمزية بحجمها وعظيمة بأبعادها، تشمل مئات الكيلوغرامات من المواد الأساسية كالطحين والأرز وحليب الأطفال، بالإضافة إلى معدات طبية وأطراف صناعية وأجهزة تحلية مياه.
هدف الرحلة كان واضحاً: كسر الحصار البحري عن القطاع ونقل رسالة تضامن صامتة لكنها مدوّية، غير أن هذه المبادرة الإنسانية واجهت القسوة نفسها التي تحاصر غزّة، ففي التاسع من يونيو، وبعد ثمانية أيام من الإبحار، اعترضت القوات البحرية الإسرائيلية السفينة في مياه دولية. اعتُقل الناشطون، وتحولت رحلة الأمل إلى فصل جديد من الاعتقال والاضطهاد، حيث واجه الناشطون ظروفا قاسية من الحجز والتفتيش المشدد، في محالة واضحة لكسر إرادتهم ووقف صوت التضامن الدولي.
حيث يُسرق الحليب باسم السيادة
بينما كانت الناشط البرازيلي تياغو على متن السفينة يخترق البحر في محاولة مقدامة لكسر الحصار عن غزّة، جرى اعتقاله مع بقية زملاءه الشجعان بوحشية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسُجنوا في ظروف مهينة، دون أن يُراعى كونهم ناشطين إنسانيين؛ جاءوا بصفتهم المدنية لا كمقاتلين.
معاناة هؤلاء الشبان بالرحلة وفي السجون الإسرائيلية لم تكن حدثًا معزولًا، بل امتداد لمعاناة غيرهم من الأحرار الذين لا ينتمون إلى هذه الأرض جغرافياً، لكنهم ينتمون لها أخلاقياً وإنسانياً.
من تياغو إلى ريما حسن، النائبة الفرنسية الفلسطينية التي لم تشفع لها حصانتها الأوروبية، مروراً بالناشطين بين تركي وألماني وإسباني وهولندي… الخ الذين اعتقلوا أو طُردوا أو شُوّهت سمعتهم لأنهم فقط تجرّؤوا على رفع علم فلسطين في عواصمهم.
وإن كانت يد الاحتلال قد امتدت في عرض البحر لتقمع من جاؤوا متضامنين، فإن اليد الأخرى، المخفية تارة والمكشوفة تارة أخرى، كانت تضرب على اليابسة. ففي مصر، تعرّض الناشطون من “مسيرة غزّة” للضرب والإهانة والتنكيل على أيدي قوات أمن بلباس مدني، في محاولة ممنهجة لإظهار أن الاعتراض يأتي من “المواطنين العاديين”، وليس من الدولة.
لقد لبس القامعون ثوب الشعب ليخونوا نبضه، وأوهموا العالم أن الشارع المصري – وهو الزخم العارم لفلسطين – قد انقلب على المبدأ. بينما الحقيقة أن اليد التي صفعت هؤلاء المتضامنين ليست يد الشعب، بل يد السلطة، وهي اليد ذاتها التي تصافح القتلة هناك، وتمنع المساعدات هنا، وتحاصر الفلسطيني في جسده ومعيشته وتُمعن في عزل كل من يحاول الوصول إليه.
بهذا المشهد، تتكامل المأساة مع الهزل، وتغدو الجغرافيا السياسية للمقاومة محكومة بمنظومتين: شعوبٌ تتقد بالشجاعة رغم البعد، وأنظمةٌ تشتغل لحساب الاحتلال وإن رفعت شعارات ضده. وهنا، كما يؤكّد الحال راهناً، فإن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يواجه مقاومة ضارية من أنظمة ترى في بقاء الاحتلال حماية لاستقرارها أو امتداداً لاستعمارها، أكثر مما ترى فيه جريمة تستحق المواجهة.
وفي ليبيا، حيث تسيطر قوات حفتر، كانت العراقيل بذريعة البيروقراطية والتعنّت الأمني في أقصى درجاتها، إذ منعت قوافل التضامن من المرور، وواجه ناشطون تحقيقات مطولة وإجراءات تعسفية، مما يعكس تنسيقاً أمنياً واضحاً وفاضحاً مع الاحتلال.
هذه التجارب المشتركة، من الاعتقال في سجون الاحتلال إلى التضييق في الحدود ومطارات الدول العربية والحدود البرية، تؤكّد حجم العقبات التي تواجه أي محاولة حقيقية لكسر الحصار وإيصال الدعم لغزّة، كما تؤكّد أن التضامن مع القضية الفلسطينية لا يزال يلقى مقاومة شديدة من أنظمة تحابي الاحتلال أكثر مما تُساند شعوبها في قضاياه المصيرية.
الرسائل التي كتبها الجلادون بتواطئهم
الرسالة التي كتبها الجلادون كانت واضحة، وإن اختلفت أيادي التوقيع عليها: حفتر قطع الطريق في الصحراء، والسيسي أطلق شرطته على المتضامنين مع غزّة في شوارع مصر ومطاراتها، يضربون، يرحّلون، ويقمعون كل من حاول أن يمرّ من بواباتهم بجوازه وكرامته.
أما إسرائيل، فكانت تشاهد من بعيد، مُطمئنة إلى أن الطرق إلى غزّة ما زالت مغلقة.
قافلة الصمود رغم عودتها اليوم لم تُكسر، عادت إلى تونس بجراحها وتحمل شيئاً أعظم من العبور: يقظة الضمير. لم تصل الشاحنات، لكن وُلدت إرادة جديدة، وكُسر الصمت، وإن لم تنجح سفينة ماديلين والصمود، فسيأتي بعدهما قوافل أخرى، بالآلاف، فإرادة الشعوب لا تنضب، وغزّة لا يمكن أن تُحاصر إلى الأبد.
إذا مُنعوا اليوم من العبور، فستُحوّل الأرض كلها إلى معبر؛ القوافل والسفن لم تمت، بل صارت فكرة لا تموت.