لجريدة عمان:
2025-12-12@15:03:43 GMT

الصين وصراعها مع مجتمع استهلاكي

تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT

إن أقل وصف تستحقه البراعة الهندسية التي تتمتع بها الصين هو أنها غير عادية. فمن البنية الأساسية عالمية المستوى والمدن الصديقة للبيئة إلى أنظمة الفضاء والقطارات فائقة السرعة، لعب تراكم رأس المال المادي المتقدم إلى حد الإبهار في الصين دورا مهيمنا في دفع اقتصادها إلى الأمام. لكن إنجازات الصين الهندسية المادية على جانب العرض لم تكن قابلة للتحول إلى جهود هندسية اجتماعية على جانب الطلب، وخاصة في تحفيز الطلب الاستهلاكي.

ينشأ هذا الانفصال عن النظام السياسي الصيني الحديث، الذي يؤكد على الاستقرار والسيطرة. ففي حين عمل هذا التركيز على تمكين الصين من أن تصبح «الـمُنتِـج الأساسي» على مستوى العالم، فأنها لم تكن ناجحة في الكشف عن الحمض النووي للمستهلك الصيني. تتناقض الهندسة الاجتماعية من خلال إملاءات الحكومة بشكل حاد مع الروح الفردية الطليقة القائمة على الحوافز والتي تشكل السلوك البشري وأنماط الاستهلاك في الغرب.

ومع بقاء حصة الاستهلاك الأسري في الناتج المحلي الإجمالي الصيني عند مستوى أقل من 40%، مقارنة بنحو 65% في الاقتصادات المتقدمة، فإن الصين ليس لديها إلا أقل القليل لتظهره مقابل خطابها الذي دام طويلا حول إعادة التوازن بقيادة المستهلك. الواقع أن التجربة الأمريكية، كما وَثَّـقَها جون كينيث جالبريث في كتابه «مجتمع الوفرة»، تفك شفرة الحمض النووي للمجتمع الاستهلاكي. وتشمل سماته الرئيسية الحراك الاجتماعي الصاعد في الدخل والثروة، والاتصالات المفتوحة ونشر المعلومات، والفردية وحرية الاختيار، وتقلص فجوة التفاوت في أنماط الحياة، ونقل الثروة بين الأجيال، وفي نهاية المطاف القدرة على انتخاب الممثلين السياسيين.

الواقع أن النزعة الاستهلاكية الغربية تشكل إلى حد كبير فرضية طموحة. وهذا يثير سؤالا جوهريا: هل النظام السياسي في الصين غير متوافق مع الثقافة الاستهلاكية الحديثة؟ يكتسب هذا السؤال قدرا أعظم من الأهمية في مواجهة السلطوية التكنولوجية الجديدة في الصين، والتي تبدو على خلاف مع الحريات الأساسية التي يستند إليها الاستهلاك. إذ تتناقض التطورات التكنولوجية الأخيرة في الصين (وخاصة في مجال التعرف على الوجوه وغير ذلك من أشكال المراقبة)، إلى جانب نظام الائتمان الاجتماعي والرقابة الـمُـحـكَـمة، تمام التناقض مع المجتمع الاستهلاكي كما نعرفه في الغرب. في نهاية المطاف، من الأسهل كثيرا حشد آليات الدولة لفرض النفوذ على المنتجين من السماح بالحريات الأساسية لتمكين المستهلكين. يعود هذا إلى أيام الجمهورية الشعبية الأولى، عندما كان المنتجون الصينيون خاضعين للسيطرة الصارمة التي فرضتها لجنة التخطيط الحكومية. ويَـصدُق هذا مرة أخرى اليوم حيث ارتد اتجاه قوة الصين الاقتصادية من القطاع الخاص الديناميكي الريادي إلى الشركات المملوكة للدولة. يتعارض إحكام الضوابط الحكومية على المجتمع الصيني على مدار العقد الماضي بشكل خاص مع هدفها المتمثل في تحفيز الاستهلاك.

في عام 2013، بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، قدم الرئيس شي جين بينج حملة توعية «جماهيرية» لمعالجة أربع «عادات سيئة» ــ الشكلية، والبيروقراطية، والسعي وراء المتعة، والإسراف. اكتسب هذا الجهد، الذي كان يُنظر إليه في البداية باعتباره فرعا جانبيا من حملة مكافحة الفساد التي أطلقها شي، حياة خاصة به منذ ذلك الحين.

في عام 2021، ركز شي جين بينج على العادات السيئة، عندما لم تكتف حملة تنظيمية صارمة ضد شركات منصات الإنترنت باستهداف رواد أعمال صينيين مثل جاك ما مؤسس شركة علي بابا، بل استهدفت أيضا ما أسمته تجاوزات نمط الحياة المرتبطة بألعاب الفيديو، والموسيقى عبر الإنترنت، وثقافة المعجبين بالمشاهير، والدروس الخصوصية. تشير مثل هذه الهندسة الاجتماعية الموجهة من قِبَل الدولة إلى أن السلطات الصينية لا تتسامح كثيرا مع الشعور بالإمكانية والتفاؤل المتأصل في حمض المجتمعات الاستهلاكية الغربية النووي.

بوسعنا أن نجد مثالا آخر على هذا التناقض بين الطموح والعقلية التنظيمية في محاولات الصين المتكررة في التصدي للرياح الديموغرافية المعاكسة وراء انكماش قوة العمل، والتي من المقرر أن تتراجع حتى نهاية هذا القرن، بسبب إرث سياسة تنظيم الأسرة المهجورة الآن والتي كانت تقضي بإنجاب طفل واحد. مؤخرا، أعلنت الحكومة الصينية عن تدابير لتعزيز معدلات المواليد، بما في ذلك تحسين الدعم للولادة، وتوسيع القدرة على رعاية الأطفال، وغير ذلك من الجهود لبناء مجتمع «صديق لزيادة المواليد». لكن هذه لم يكن سوى أحدث حلقة في سلسلة من التدابير التي أعقبت تبني سياسة الطفلين في عام 2015 وسياسة الثلاثة أطفال في عام 2021. على الرغم من هذه الجهود، يظل معدل الخصوبة في الصين أقل كثيرا من معدل الإحلال (2.1 ولادة حية لكل امرأة حامل). وتشير بيانات استطلاعات الرأي إلى سببين: المخاوف بشأن ارتفاع حاد في نفقات تربية الأطفال ومعايير الأسر الصغيرة الراسخة ثقافيا. تؤكد هذه النقطة الأخيرة على الجانب السلوكي لهذه المشكلة ــ على وجه التحديد أن جيلا من الصينيين الأصغر سنا نشأ معتادا على الأسرة ذات الطفل الواحد. وهذه المقاومة البشرية لمحاولة الحكومة فرض ممارسات تنظيم الأسرة قسرا لا تختلف كثيرا عن استراتيجية بكين للدفع نحو زيادة الطلب الاستهلاكي.

يتمثل المفتاح لإطلاق العنان لإمكانات المستهلك في الصين في تحويل الخوف إلى ثقة، وهو التحول الذي لا يتطلب أقل من تحول جوهري في العقلية التي تؤطر عملية صنع القرار في الأسر ذاتها. ولكن هنا على وجه التحديد تعثرت الحكومة. ذلك إن تحفيز السلوك البشري يختلف جذريا عن إلزام البنوك التي تديرها الدولة بزيادة الإقراض لمشاريع البنية الأساسية أو إلزام الشركات المملوكة للدولة بالاستثمار في العقارات. أعترف بأنني أقدم منظورا غربيا لمشكلة صينية، وقد علمتني التجربة أن مثل هذه المشكلات تحتاج إلى دراسة من منظور الصين ذاتها. وحتى برغم هذا، فإن زيادة الاستهلاك تمس جوهر التجربة الإنسانية: فهل من الممكن أن تزدهر ثقافة استهلاكية ذات خصائص صينية تتناقض مع الروح الطموحة التي تقوم عليها المجتمعات الغربية؟ ربما يتوقف الحل النهائي لمشكلة نقص الاستهلاك المزمن في الصين على هذه الاعتبارات العميقة للسلوك البشري. وقد ألمح اجتماع عقد مؤخرا في إطار مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في الصين إلى حافز استهلاكي كبير آخر قادم. ولكن إذا ظلت السلطات الصينية ثابتة في إحكام السيطرة على المعايير الاجتماعية والروح الإنسانية، فإن كل التحفيز في العالم ــ من حملات المقايضة إلى إصلاحات شبكة الأمان الاجتماعي ــ قد يذهب سدى.

ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس في جامعة ييل والرئيس السابق لمورجان ستانلي آسيا، هو مؤلف كتاب «غير متوازن: الاعتماد المتبادل بين أمريكا والصين» والصراع العرضي: أمريكا والصين وصراع القوى. روايات كاذبة.

خدمة بروجيكت سنديكيت

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الصین فی عام

إقرأ أيضاً:

الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا

 

خالد بن حمد الرواحي

حين يصبح القياس هدفًا لا وسيلة أمام لوحةٍ إلكترونية مزدحمة بالأرقام والألوان، يقف مديرٌ يراقب مؤشرات خضراء ونسب إنجاز مرتفعة وتقارير أسبوعية محكمة. كل شيء يبدو متقنًا على الشاشة، فتعلو ابتسامة اطمئنان على وجهه. لكن حين يغادر مكتبه إلى الميدان، يكتشف صورةً أخرى: معاملات متأخرة، موظفين مرهقين، ومراجعين ينتظرون أكثر مما ينبغي. هناك فجوة صامتة بين ما تعرضه المؤشرات وما يعيشه الواقع؛ فجوة تختبئ خلف الأرقام وتُخفي الحقيقة بدلًا من أن تكشفها.

لم تكن المشكلة في الأرقام، بل في الطريقة التي صارت تُستخدم بها. فالمؤشرات التي صُمِّمت لتكون بوصلةً للتطوير تحوّلت تدريجيًا إلى غايةٍ في ذاتها. صار همُّ بعض المؤسسات أن ترفع النسب وتُحسّن الرسوم البيانية، لا أن تُصلح المسار أو تُشخِّص الخلل. وهكذا، تزداد الأشرطة الخضراء بينما تتراكم الشكاوى، وتُكتب تقارير النجاح في الوقت الذي يشعر فيه الناس أن شيئًا لم يتغيّر.

وفي أحد الاجتماعات، عُرض تقريرٌ يوضح أن المؤسسة عقدت خلال شهرٍ واحد 42 اجتماعًا مقارنةً بـ18 في الشهر الذي سبقه، فصفّق الحاضرون. لكن السؤال الذي لم يُطرح كان: ماذا تغيّر بعد كل تلك الاجتماعات؟ فزيادة اللقاءات لا تعني زيادة الفهم، وكثرة المؤشرات لا تعني تحسّن الأداء. ما يُقاس غالبًا ليس النتائج، بل النشاط؛ لا الأثر، بل الجهد المبذول.

السبب في هذا الانفصال بين الصورة الرقمية والواقع العملي أننا نقيس ما هو سهل لا ما هو مهم. فعدد الاجتماعات أسهل من قياس جودة القرار، وعدد المعاملات أسهل من فهم تجربة المستفيد. ولأن الأسهل يتغلب على الأهم، تمتلئ التقارير بالأرقام التي يمكن جمعها بسرعة، لكنها لا تشرح شيئًا عمّا يجري حقًا. إنها أرقام بلا روح؛ تصف النشاط بحماس، لكنها تصمت حين يُسأل عن المعنى والغاية.

ومع مرور الوقت، تنشأ حالة من الرضا الزائف، فيظن المسؤول أن الإنجاز متحقق لأن المؤشرات خضراء، بينما يشعر الموظف والمستفيد أن الواقع لا يتحرك. وهنا تكمن أخطر مشكلة: فالفجوة بين الشعور بالنجاح وتحقيقه فعليًا قد تبتلع أعوامًا من الجهد دون نتيجة، لأننا اكتفينا بقراءة الأرقام دون قراءة الحياة داخلها.

الحل لا يحتاج إلى ثورة في الأنظمة، بل إلى مراجعة في الفهم. فالمؤشرات ليست خصمًا، بل أداة حين تُستخدم بحكمة. المطلوب العودة إلى السؤال الجوهري: ماذا نريد أن نفهم؟ هل نبحث عن زيادة الأرقام أم عن تحسين الواقع؟ حين يكون الهدف واضحًا، يصبح القياس تابعًا له لا متقدمًا عليه.

ولعل الخطوة الأولى تبدأ بتقليل الأرقام لا زيادتها. فبدل عشرات المؤشرات التي تشتت الانتباه، يكفي اختيار خمسة مؤشرات تمسّ جوهر الأداء، مثل رضا المستفيد، ووقت إنجاز الخدمة، وجودة القرار، ومستوى التعاون بين فرق العمل. ومع الوقت، يتحوّل القياس من سباقٍ لملء الجداول إلى ممارسةٍ للتعلّم والتحسين، تُحرّر المؤسسة من عبء الشكل وتعيدها إلى روح العمل.

وفي سياق التحول الرقمي الذي تتبناه «رؤية عُمان 2040»، لا تكفي الشاشات الذكية ما لم تُترجم بياناتها إلى قرارات تُحسّن تجربة المواطن وترفع كفاءة الجهاز الإداري. فالرؤية لا تدعو إلى مزيدٍ من المؤشرات بقدر ما تدعو إلى حوكمةٍ أفضل للبيانات وربطها بما يعيشه الناس، حتى يصبح كل رقم خطوةً ملموسة على طريق التغيير، لا مجرد قيمة تُضاف إلى ملف العرض.

في نهاية المطاف، لا تُقاس المؤسسات بعدد الشرائح في العروض، ولا بكثرة المؤشرات التي تتلوّن بالأخضر، بل بما يتغيّر في حياة الناس. فالأرقام قد تمنح شعورًا بالنجاح، لكنها لا تصنع النجاح ذاته إلا إذا رافقها فهمٌ لما وراءها. وحين نضع الواقع قبل الرسم البياني، ونبحث عن الأثر قبل النسبة، يصبح القياس أداةً للتطوير لا غايةً للتزيين. وعندها فقط، تصبح المؤشرات شاهدةً على التقدم لا ستارًا يخفي هشاشة الإنجاز.

 

مقالات مشابهة

  • معهد التخطيط القومي يعقد برنامج خدمة مجتمع حولاستراتيجية مصر 2030 ومبادرة بداية لبناء الإنسان
  • وزير المالية: مستعدون للحوار الممتد مع شركائنا من مجتمع الأعمال.. والتحرك السريع لتحفيز الإنتاج والتصدير
  • ارتفاع وتيرة العمليات النوعية التي تنفذها أوكرانيا ضد روسيا
  • الملاعب الرياضية في مكة المكرمة.. وجهة الشباب لتعزيز النشاط البدني وصناعة مجتمع رياضي واعد
  • لا تصغروا اكتاف الأردن
  • الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا
  • التضخم الاستهلاكي بالصين يقفز لأعلى مستوى
  • النائب محمد رزق: حماية حقوق الإنسان مسؤولية جماعية وركيزة لبناء مجتمع عادل
  • جدل كبير بعد إدراج مباراة مصر وإيران في المونديال ضمن فعالية تخص مجتمع الميم
  • من هي المرأة التي أيقظت العالم بموقفها ؟