دروس من مدرسة غزة
تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT
منى بنت حمد البلوشية
عندما أتحدَّث عن غزة العِزة أشعر وكأنّ دروس الحياة بأجمعها اجتمعت في هذا الشعب المقاوم، الذي جاهد وصبر وما زال يجاهد، الذي لم يكن سهلًا على إخواننا في غزة ما حدث لهم من سفك الدماء والشهداء الذين ارتقت أرواحهم إلى السماء، كم هو مؤلم لهم ما حدث من فقد وتشتت وضياع وهدم لبيوتهم وتجويع وكل هذا حدث في غضون 471 يومًا من المذابح والدمار، وقبلها بأعوام كثيرة، ورغم هذا لم تفتر يومًا همتهم للدفاع عن أرضهم وحريتهم، فسلام على الصامدين المجاهدين.
ألا تستحق غزة أن تكون مدرسة وتُلقِننا دروسًا في الحياة؟ فهي مثالًا حيًا للجهاد والصبر والحكمة والقوة، منذ أن وِلدنا وغزة وسائر فلسطين تقاوم وتحت الاحتلال الصهيوني الغاصب الذي انتهك الحقوق وسلب شيئًا ليس له، ما هي الدروس التي علمتنا غزة وستبقى معلقة في الأذهان؟ الدروس كثيرة وليتنا لا نغفل عنها ونجعلها دروسًا لنا وللأجيال القادمة.
بعد إعلان وقف إطلاق النَّار في غزة استعادت الأرواح أنفاسها قليلًا في سائر أنحاء فلسطين وعمّ الفرح الذي امتزج بالبكاء واستذكار ما حلّ بهم من فقد لأحبتهم وهدم لبيوتهم وللذكريات الجميلة التي كانت تجمعهم، رغم أنني قررت أن أكتب عن الدروس من مدرسة غزة إلا أن أناملي تقول في نفسها كيف ستكتبين تلك الدروس كلها وهل سيستوعب ذلك يومًا واحدًا وهل فعلًا يمكنني وصف ما حلّ بها، بالفعل لن أن أستطيع كتابتها في يوم واحد لأنها تحتاج الجهد والكثير مني، فهي كثيرة فالمدرسة الغزية علمتنا ما لم نكن نعلم عنه من قبل وأنضجت عقولنا وكبرنا معها.
غزة علمتنا جميعًا بأن من يُريد يستطيع بلا سلاح ولا قوة سوى قوة الإرادة للاستمرار، فكل شيء قابل لأن يتحقق حتى يأتي وعد الله عزوجل "لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا"، وأنّ الشدائد تربي المرء مهما كان كبيرًا أم صغيرًا فلا بأس فالحياة تحتاج لهذه الشدائد حتى يكبر العقل، ولكن لا أن يكبر قبل أوانه، فقد أظهرت المرأة الفلسطينية قوتها وأصبحت امرأة بدرجة امتياز مع مرتبة شرف ووسام يعلق على كتف كل امرأة منا نحن النساء فقد خاضت حروبًا لم تكن تعلم بأنها ستقف فيها وقفات فخر رغم كل الجراح والألم والفقد الذي حدث لها ورغم عدم قدرتها على تحمل ما خاضت ومخاض الألم كأنها ولادة متعسرة وأقسى من ذلك، إلّا أن إرادتها أقوى من كل شيء يثنيها لاستكمال مسيرتها.
وكيف للرجال حين طحنتهم الأيام ويكابدون مرارة كل شيء بلا استثناء وأصبحوا جبالًا وصناديد يضرب بهم المثل، فمن الذي يستطيع أن يهدم جبلًا تشبّع حتى أصبح متماسكًا لا أحد يجرؤ على هدمه من قساوة ما حدث لهم، أي تشبيه هذا الذي يحق لي أن أصف به قوتهم وقهرهم على العدو الغاصب.
غزة علمتنا أن من أراد أن يكون ابنه أو حتى هو حافظًا لكتاب الله عزوجل لن يثنيه شيئًا عن ذلك وإن كان تحت الأنقاض، فلم تتوقف حلقات تحفيظ القرآن الكريم ودروسها عن الاستمرار فقد كانت هي مصدر قوتهم التي هزموا بها العدو والمحتل الغاصب، فكيف لا يكون قوتهم مصدرهم الذي أمدهم الله ووعدهم بالنصر القريب "وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ" علمتنا غزة أن كل الماركات والترندات التي ينادي بها الكثيرون ويروجون لها، لا معنى لها إن لم يكن بهدف أمضي إليه، وأنها زائلة ولن تبقى على حالها.
غزة علمتنا قول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف"؛ لذلك لا بُد لأن يتسلح المرء بالقوة التي تجعله كل شيء يهابه والوقوف في وجه الظالم والمعتدي، وأن هذه الأمة تحيا بالدماء والدفاع المستميت فمع كل شهيد يخرج ألف رجل فمع كل دم وشهيد يولد ألف رجل.
غزة علمتنا كيف يكون الرضا في أشد المواقف وهي عند الفقد وكيف بشّر الله عزوجل الصابرين في كتابه العزيز والمواساة الإلهية لهم في قوله تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" وفي قوله تعالى: "أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ"، و"لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" هكذا هو المؤمن في جميع أحواله عليه بالرضا وعدم السخط؛ بل عليه أن يواسي نفسه ويلجأ لله عزوجل في كل أموره، فهذه هي التربية الإسلامية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم التي تأسسوا عليها والمواساة الإلهية لهم.
شكرًا لغزة ولدروسها التي لن تنسى مهما مر عليها الزمن، شكرًا لها لأنها علمت العالم أجمع أن الأزمات والشدائد تظهر المعادن، شكرًا لها لأنها علمتنا أن النصر فوق كل شيء وأن الأوطان غالية وليست لأحد إلّا لأهلها، فما زالت غزة تنتصر حتى يأذن الله تعالى لها بالنصر الكامل بخروج المحتل الصهيوني الغاصب من البلاد، فما زال الألم والفقد يكسو الوجوه والذكريات تلازمهم فعلى كل منا ألا يتوقف عن المقاطعة فهي سلاحنا الذي ما زلنا نحارب به الكيان الصهيوني، فلا تقع في الفخ أيها القارئ العزيز قاوم كرجال غزة وكن على العهد. شكرًا غزة وسيبقى للحديث بقية في قلوبنا وأعيينا إلى أن تُطهر الأراضي الفلسطينية عامة من دنس اليهود الصهاينة، فما زلنا نتعلم من مدرسة غزة ولن تنتهي الدروس؛ فالحرب لم تنتهِ بعد.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
من بغداد إلى القاهرة.. دروس الروح الأدبية في منافسات الشعراء
كان بين شاعري العراق الكبيرين جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي خلاف كبير وخصومة شديدة، ويردّ بعض الرواة هذا الخلاف إلى اعتداد الزهاوي بشعره وتعاليه على شعراء العراق الآخرين، وليس أدلّ على ذلك من قول الزهاوي في حضور الرصافي:
وللشعر في بغداد روحٌ جديدةٌ
وللشعر أعباءٌ أقومُ بها وحدي
وفي منتصف العشرينيات من القرن الماضي، يحدث أن يأتي لزيارة بغداد، وللإقامة فيها فترة من الوقت، المجاهد العربي التونسي عبد العزيز الثعالبي، وما إن يحطّ في الفندق الملكي حتى يتوافد للترحيب به معظم أدباء العراق.
أخذ أدباء العراق يعدّون العدّة لإقامة حفل تكريم للشيخ الثعالبي، وكان لا بد من مشاركة شعراء العراق الكبار في ذلك الحفل.
ويروي الأستاذ عبد الرزاق الهلالي قصة طريفة مرتبطة بحفل التكريم، وبطلاها الشاعران الكبيران الرصافي والزهاوي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأكاديمي العراقي عبد الصاحب مهدي: ترجمة الشعر إبداع يهزم الآلةlist 2 of 2قصص "جبل الجليد" تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخساراتend of listومختصر القصة أن اللجنة التي قامت على وضع برنامج الحفل ذهبت إلى الرصافي وطلبت منه أن يُسهم في تكريم الزائر المجاهد بقصيدة من عنده، فوافق، ولكنه سأل أعضاء اللجنة: هل فاتحتم الزهاوي بهذا الموضوع؟ فقالوا: لا، ولكننا سوف نفاتحه.
وهنا يقول الرصافي بروحٍ أدبية عالية:
سيسألكم الزهاوي إن كنتم فاتحتموني في الأمر أم لا، وإذا عرف أنكم قد فاتحتموني بالموضوع، فإنه سوف يردّ طلبكم ويعتذر عن المشاركة في تكريم الثعالبي… ولهذا أقول لكم: قولوا إنكم لم تفاتحوني… بل اكتفوا به وحده… وعند ذلك سيفرح وسيلبّي طلبكم.
وهنا يقول أحد الأعضاء القائمين على الحفل مستغربا: ولكن ماذا سنكتب في برنامج الحفل؟ هل نشطب اسمك يا أستاذ؟
فيُجيب الرصافي بروحٍ أدبية عالية، وبتواضع جمّ يحتوي على إنكار الذات من أجل المصلحة العامة: ليكن برنامج الحفل خاليا من اسمي.
وبعد أن يُلقي الزهاوي قصيدته، يُعلن عريف الحفل عن مشاركتي بهذه المناسبة.
إعلانويؤكّد الأستاذ عبد الرزاق الهلالي حدوث ذلك يوم الاحتفال، حيث ظل اسم الرصافي غير وارد في البرنامج، وما إن ألقى الزهاوي قصيدته قائلا:
وقفتُ وحيدًا بالعزيز أرحِّبُ
فأنشدُ للتكريم شعرًا فأطرِبُ
حتى وقف عريف الحفل قائلًا بلهجة كان قد اتُّفِق عليها:
والآن يتقدّم الشاعر معروف الرصافي الذي أبى إلا أن يشارك في تكريم الثعالبي، فيُلقي قصيدة بهذه المناسبة.
وهنا وقف معروف الرصافي منشدا:
أتونسُ إنّ في بغداد قومًا
ترفُّ قلوبهم لك بالودادِ
وما إن بدأ الرصافي بإلقاء قصيدته حتى نهض الزهاوي عن كرسيه منزعجا، وخرج غاضبا غضبا شديدا!
نبل الأدب الشعريوقفتُ طويلا عند هذه القصة الطريفة التي تدل بوضوح على تسامح الرصافي وإيثاره وتواضعه، فيوافق على شطب اسمه من برنامج الحفل، بل على عدم كتابة اسمه أصلا، وذلك لغايتين نبيلتين في نفسه: أولاهما إنجاح حفل التكريم للمجاهد الكبير الذي يحلّ ضيفا على بغداد، وثانيتهما حرصه على مشاركة زميله الزهاوي رغم ما بينهما من جفوة وخصومة، حتى لو أدى هذا الحرص إلى عدم ذكر اسم الرصافي في منهج الاحتفال.
استوقفني هذا الموقف الرائع من الرصافي لأقول في نفسي:
ليت أدباءنا وشعراءنا على طول العالم العربي وعرضه يأخذون درسا من معروف الرصافي، فيتخلّون عن حساسيتهم المفرطة، وتدابرهم العجيب، ومنازعاتهم الشللية، والأيديولوجية الضيقة الأفق.
ليتهم يأخذون درسًا ليجربوا التحلّي بالإيمان، بالتواضع وإنكار الذات في سبيل إثراء الحركة الأدبية والإعلاء من شأنها، فيتنافسون بروح أدبية عالية على رفدها بشتى الأصوات والتجارب والإبداعات، وبخاصة على صعيد الشعر، إذ لا داعي إلى التزاحم على إمارة شعر وهمية، لا وجود لها الآن إلا في خيال شاعر مُصاب بالاستعلاء النرجسي، بعد أن انقطعت بين طموحه وغروره تلك الشعرة الدقيقة المُسمّاة بشعرة معاوية!
ما أحوجنا إلى أن نأخذ الدرس من موقف شاعرنا الرصافي، تاركين الزهاوي يخرج من صدور بعض الشعراء المعاصرين منزعجا وغاضبا.
أما الذين يُصرّون -وهم مُغرمون بالنجومية- على الاعتداد المتزايد، والادعاء الذاتي بحمل أعباء الشعر العربي، متمثّلين بقول الزهاوي:
وللشعر أعباءٌ أقومُ بها وحدي
فهؤلاء نقول لهم: لا تُبالغوا في تلميع أسمائكم تلميعا دعائيا.. فالذهب لا يُلغي دور المعادن الأخرى وأهميتها، ثم لا تنسوا المثل القائل: "ليس كل ما يلمع ذهبا".
نخلص من هذه الواقعة الثقافية إلى ضرورة تواضع الشعراء، وضرورة احترام الشاعر لمكان زميله ومكانته، فلا أحد منهما يُلغي تجربة الآخر، فلكلّ شاعر تجربته وشهرته وجمهوره.
قد تتولّد الغيرة لدى شاعر من شاعر آخر لما يلقى من حفاوة واهتمام، ولكن هذه الغيرة لا تصل إلى المعاداة أو مقاطعة الواحد منهما للآخر.
وهذا يُذكّرنا بموقف شاعر النيل حافظ إبراهيم من مبايعة الشعراء لزميله أحمد شوقي على إمارة الشعر العربي، لينال لقب "أمير الشعراء"، حيث في البداية تخلّف حافظ إبراهيم عن الحضور، معتقدًا أنه أحقّ باللقب من شوقي، فهو شاعر الشعب، وشوقي -في نظره- شاعر القصر.
إعلانولكن حافظ إبراهيم، حين شعر بإجماع الشعراء المجتمعين في القاهرة على مبايعة شوقي، راجع نفسه، وتذكّر المودة التي تجمعه بزميله أحمد شوقي، فسارع إلى الذهاب ليشارك في المبايعة، ويلقي قصيدة صادقة ورائعة، يُعلن قبلها عن المبايعة، قال فيها مخاطبا شوقي:
أميرَ القوافي قد أتيتُ مبايعًا
وهي وفودُ الشوقِ قد بايعتْ معي
رغم التنافس الخفي أو الظاهر بين الشاعرين شوقي وحافظ على صعيد الوصول إلى القصيدة الأقوى والأجمل، لم يكن هذا التنافس يؤدي إلى استعلاء أحدهما على الآخر كما حدث بين الرصافي والزهاوي، بل إن الود بينهما كان يقود إلى الممازحات الشعرية التي تأتي ثقيلة في بعض الأحيان، من دون أن تؤدي إلى خصومة، كما كان يحدث بين جرير والفرزدق في معارضاتهما الهجائية في العصر الأموي.
فهذا حافظ إبراهيم يهجو أحمد شوقي ممازحا:
يقولونَ إن الشوقَ نارٌ ولوعةٌ
فما بالُ شوقي أصبحَ اليومَ باردًا
فيردّ عليه أحمد شوقي هاجيا ومداعبا:
وحمَّلتُ إنسانًا وكلبًا أمانةً
فضيَّعها الإنسانُ والكلبُ حافظُ
ومع هذا، فإن أحمد شوقي لا يتردّد في رثاء زميله حافظ إبراهيم عند رحيله، بقصيدة مطلعها:
قد كنتُ أُؤثِرُ أن تقولَ رثائي
يا مُنصفَ الموتى من الأحياءِ