زهير عثمان

الأزمة السودانية هل هي معضلة المليشيات الإسلامية، ضعف القوى المدنية، ودور السلاح في صراع مفتوح فقط , تعالوا لنري ماذا هناك , يمر السودان بمرحلة تاريخية حرجة تتسم بتعقيد أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. إن الصراع المسلح الذي اندلع في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ليس مجرد نزاع عابر، بل يمثل ذروة أزمة تراكمت منذ عقود.

هذه الأزمة تعكس هشاشة الدولة الوطنية السودانية، وتداخل الدين والسياسة، وضعف القوى المدنية، وتصاعد دور السلاح كأداة لتحديد مسارات البلاد. في ظل هذه المعطيات، تتجلى المخاطر الجسيمة التي تهدد السودان، من الانهيار الكامل إلى التقسيم، وما يترتب عليه من تداعيات كارثية.
المليشيات الإسلامية ليست ظاهرة جديدة في السودان؛ فقد تأسست خلال حكم نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير (1989-2019) كوسيلة لترسيخ السيطرة السياسية والأيديولوجية. لعبت هذه المليشيات دوراً رئيسياً في قمع المعارضين، وتأجيج الصراعات العرقية والدينية، وتهميش الأصوات المعتدلة. رغم سقوط نظام البشير، لم تختفِ هذه الجماعات، بل أعادت تشكيل نفسها مستغلة الفراغ الأمني والاضطرابات لتوسيع نفوذها. تعمل المليشيات حالياً كطرف فاعل في الصراع السوداني، متحالفة مع بعض الفصائل المسلحة لتحقيق مكاسب سياسية وأيديولوجية. خطر هذه الجماعات لا يقتصر على الحاضر، بل يمتد إلى المستقبل، حيث تهدد بإعادة السودان إلى نموذج الاستبداد الديني وزيادة الانقسامات الاجتماعية.
على الجانب الآخر، تبدو القوى المدنية السودانية في حالة ضعف شديد، غير قادرة على التصدي لهيمنة السلاح أو تقديم بديل سياسي حقيقي. تعاني هذه القوى من انقسامات داخلية تعكس التناقضات الأيديولوجية والجهوية التي تعيق بناء تحالفات قوية. كما أن إخفاقها في تقديم رؤية موحدة لقضايا السودان الوطنية، وتراجع قدرتها على التعبئة الشعبية بعد ثورة ديسمبر 2018، جعلها عرضة للتهميش في ظل هيمنة القوى المسلحة. التحدي الأكبر أمام القوى المدنية هو إعادة بناء ثقة الشعب بها، وتوحيد صفوفها لتكون قادرة على قيادة عملية التحول الديمقراطي.
السلاح أصبح العامل الحاسم في تحديد مستقبل السودان، حيث تحول من وسيلة لحماية الدولة إلى أداة للسيطرة على السلطة والثروة. الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع يعكس تنافساً بين مراكز القوى على الموارد ومفاصل السلطة، بينما يتحمل الشعب السوداني العبء الأكبر من النزوح والتشريد وانهيار الخدمات الأساسية. تجارة السلاح وتدخل الأطراف الإقليمية والدولية زادت من تعقيد الأزمة، حيث أصبح السودان مركزاً لتنافس القوى الكبرى التي تسعى لتحقيق مصالحها الاستراتيجية على حساب وحدة البلاد واستقرارها.
في ظل هذا المشهد، يلوح خطر التقسيم كأحد السيناريوهات الواضحة، لكنه ليس الوحيد. فهناك احتمالات أخرى لا تقل خطورة، مثل الانهيار الكامل للدولة، وتصاعد الأزمات الإنسانية، وصعود الجماعات المتطرفة، والإفلاس الاقتصادي. استمرار الصراع دون حلول سياسية قد يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة، وفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والعنف العشوائي. الكارثة الإنسانية التي تواجه السودان تمتد إلى النازحين، مع تزايد انعدام الأمن الغذائي وتدهور الوضع الصحي، ما يشكل تهديداً يتجاوز حدود السودان ليؤثر على المنطقة بأسرها.
لمواجهة هذه الأزمة، يحتاج السودان إلى مشروع وطني شامل يعيد ترتيب الأولويات ويضع حداً لهيمنة السلاح والمليشيات. إعادة بناء القوى المدنية هي الخطوة الأولى، من خلال توحيد صفوفها تحت قيادة شابة وذات رؤية واضحة، والاستفادة من الدعم الشعبي الذي أظهره السودانيون خلال ثورتهم. إصلاح المؤسسة العسكرية يعد عاملاً حاسماً لتوحيد الفصائل المسلحة تحت قيادة وطنية واحدة، بعيداً عن السياسة، مع بناء جيش قومي يمثل كافة أطياف المجتمع السوداني.
الحوار الوطني الشامل هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة، ويجب أن يضم جميع الأطراف الفاعلة، بما في ذلك الفصائل المسلحة، تحت مظلة دولية وإقليمية محايدة. إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني تأتي على رأس الأولويات، من خلال استعادة الموارد الوطنية وتقليل الاعتماد على الخارج، مع وضع سياسات تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. تعزيز المصالحة الوطنية ومعالجة جراح الماضي يتطلبان آليات فعالة للعدالة الانتقالية، وتعزيز التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع.
السودان اليوم يقف على مفترق طرق خطير. بين خيارات العودة إلى الاستبداد أو السقوط في الفوضى، لا تزال هناك فرصة لبناء دولة تعكس تطلعات شعبها، دولة قائمة على المواطنة والعدالة والتنمية. المسؤولية تقع على عاتق السودانيين أنفسهم، وعلى المجتمع الدولي والإقليمي لدعم جهود السلام والاستقرار، بدلاً من تغذية الصراع. السودان يستحق مستقبلاً أفضل، وفرصة جديدة لبناء دولة وطنية حديثة تلبي طموحات أبنائه.

zuhair.osman@aol.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: القوى المدنیة

إقرأ أيضاً:

أوكرانيا لم تُهزم بعد! معضلة كبيرة لترامب بعد هجمات أوكرانيا الاستثنائية

واشنطن- بعنوان "أوكرانيا لم تُهزم بعد" عبّرت افتتاحية صحيفة وول ستريت جورنال المحافظة، والمعروفة بقربها من الحزب الجمهوري وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن إيمانها بأن غارات الطائرات المسيّرة الأوكرانية في عمق الأراضي الروسية عكست إرادة كييف المستمرة بالقتال، وقدرتها على تحقيق إصابات موجعة لعدوها، على عكس ما يكرره ويعتقده الرئيس ترامب، ونائبه، وكبار مساعديه.

في الوقت ذاته، مثّل هجوم أوكرانيا على قواعد جوية عسكرية روسية، والذي نتج عنه تدمير قاذفات تطلق صواريخ كروز، وبعضها يمكنه حمل حمولات نووية، مفاجأة سارة من العيار الثقيل لواشنطن، ومعضلة كبيرة للرئيس دونالد ترامب في الوقت ذاته.

هجمات نوعية

أشار خبراء إلى أن الهجمات الأوكرانية لن تغير مسار الحرب، لكنها تظهر قدرة أوكرانيا على شن هجمات بعيدة عن حدودها المباشرة مع روسيا.

وعلى الرغم من تمتع روسيا بميزة ضخامة القوة النارية، خاصة في الصواريخ التي يصعب اعتراضها، مع تضاؤل إمدادات أوكرانيا بمنظومات الدفاع الجوي الاعتراضية الأميركية، تمكنت كييف -وبدون دعم أميركي مباشر- من إنجاز أحد أكبر هجماتها على الإطلاق منذ بدء الحرب قبل أكثر من 3 سنوات.

ويقارن الأوكرانيون هذه الهجمات بنجاحات عسكرية بارزة أخرى منذ الغزو الروسي، بما في ذلك غرق السفينة الرائدة في أسطول البحر الأسود الروسي "موسكفا"، وقصف جسر كيرتش، وكلاهما في عام 2022، بالإضافة إلى هجوم صاروخي على ميناء سيفاستوبول بشبه جزيرة القرم في 2023.

إعلان

وتشير تقارير أميركية إلى امتلاك روسيا 120 قاذفة إستراتيجية، تم تدمير 40 منها في هذه الضربة الأخيرة، أي ثلث القوة الروسية من هذه الطائرات المقاتلة.

وإلى جانب الأضرار المادية، ترسل الهجمات التي سمتها كييف بعملية "شبكة العنكبوت" رسائل مهمة أخرى، ليس فقط إلى روسيا، ولكن أيضا إلى واشنطن والرئيس ترامب.

ترامب صعّد من لهجة خطابه العدائي ووصف زيلينسكي بـ"الدكتاتور" (أسوشيتد برس) حُكم ترامب المسبق

أقنع الأميركيون أنفسهم أن أوكرانيا تخسر الحرب، ومن هذا الافتراض تنطلق سياسة الرئيس ترامب تجاه الصراع، فمنذ عودته للبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي، بدا مقتنعا بأنه يمكن أن يحمل روسيا على التوقف عن القتال، طالما أنه أبقى أوكرانيا خارج "الناتو" وجمد خطوط القتال الحالية، مما يسمح لروسيا بالاحتفاظ بالأراضي التي تحتلها بالفعل.

كما جمد ترامب إرسال أسلحة ومساعدات لكييف، وأوقف مشاركة المعلومات الاستخبارية كوسيلة للضغط على أوكرانيا للقبول بالواقع الجديد.

وكان ترامب قد قال للرئيس فولوديمير زيلينسكي خلال لقائهما الشهير بالمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض أمام عدسات المصورين "لم يتبق لأوكرانيا سوى 6 أشهر، ليس لديك كروت للعب بها، الكرة في ملعبك من أجل السلام، لا يمكن لروسيا أن تخسر".

وصعد ترامب من لهجة خطابه العدائي، حيث وصف زيلينسكي بـ"الدكتاتور"، وقال إن أوكرانيا هي من بدأت الحرب، بينما طالب رئيسها بضمانات عسكرية أميركية مقابل توقيعه على صفقة المعادن النادرة، التي طرحها ترامب كتعويض عما قدمته واشنطن من مساعدات تخطى مجموعها 180 مليار دولار، حيث تم التوصل لاحقا لصفقة دون ضمانات أمنية.

وكرر ترامب ونائبه جيه دي فانس سردية أن "أوكرانيا لا تنتصر في حربها مع روسيا"، وهي الحجة التي يعتمد عليها في اتخاذ قرار وقف الدعم العسكري والاستخباراتي الأميركي لأوكرانيا، إلا أن كييف أظهرت بهجماتها أنها تملك عددا من الكروت التي لا تعرف عنها واشنطن شيئا.

كم بلغت خسائر #روسيا في هجوم "شبكة العنكبوت" المباغت؟#إنفوغراف pic.twitter.com/v37RE7pvjR

— قناة الجزيرة (@AJArabic) June 2, 2025

إعلان ضغط داخلي

قال جون هيربست، مدير مركز أوراسيا التابع للمجلس الأطلسي وسفير الولايات المتحدة السابق في أوكرانيا، إن بلاده تعتبر روسيا خصما رئيسيا، وكما أشارت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية تولسي غابارد في تقييم الاستخبارات الوطنية لهذا العام، فإن "روسيا مثل الصين، خصم للولايات المتحدة، وهذه العملية تثبت أن أوكرانيا تسهم عمليا في تحسين أمن الولايات المتحدة".

ويزيد الإنجاز العسكري الأوكراني الأخير من حجم الضغط السياسي في واشنطن على ترامب، سواء من قِبل الجمهوريين أو الديمقراطيين، لاتخاذ مزيد من الإجراءات ضد روسيا.

وجاءت الهجمات الأوكرانية بعد أيام فقط من زيارة السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام والديمقراطي ريتشارد بلومنتال إلى أوكرانيا، حيث أعلنا أن مجلس الشيوخ سيمضي قدما الأسبوع المقبل في مشروع القانون الذي طال انتظاره لفرض عقوبات إضافية كبيرة ضد روسيا.

وبعيدا عن ساحة المعركة، ربما يكون تأثير هذه العملية أكثر أهمية على الساحات السياسية والدبلوماسية، بما تمثله من رد قوي على رؤية إدارة ترامب بأن الحرب تتحرك حتما لصالح موسكو، ويفسر هذا الافتراض نفسه سبب رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للعديد من المقترحات لوقف إطلاق النار من قبل الرئيس ترامب، ورفضه إرسال ورقة بشروط الكرملين لوقف إطلاق النار قبل محادثات إسطنبول.

رد فعل ترامب

وحتى كتابة هذا التقرير، لم يصدر أي رد فعل عن البيت الأبيض أو الرئيس ترامب تجاه هذه الهجمات، إلا أن واشنطن أكدت أن كييف لم تخبرها مسبقا بها، واكتفت واشنطن بمحادثة هاتفية بين وزير خارجيتها ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف، دون الكشف عما دار فيها.

وتعرض ترامب لانتقادات متزايدة بسبب تردده في ممارسة ضغط حقيقي على فلاديمير بوتين، بسبب امتناع الرئيس الروسي قبول شروط وقف إطلاق النار التي اقترحتها واشنطن، رغم قبول كييف بها.

إعلان

ومن على متن الطائرة الرئاسية، قال ترامب قبل أيام إن "شيئا لن يحدث بخصوص الحرب في أوكرانيا إلا بعد أن يلتقي شخصيا مع نظيره الروسي لحسم هذه الأزمة"، ورغم ذلك، عاد ترامب وحدد موعدا نهائيا مدته أسبوعان لبوتين، مهددا برد مختلف إذا لم يرد الأخير بصورة إيجابية على مقترحاته لوقف القتال.

من جانبه، نصح السفير السابق في أوكرانيا جون هيربست، في عرض له على الموقع الإلكتروني للمجلس الأطلسي، الرئيس ترامب بضرورة نقل رسالة مفادها أنه "إذا لم يتمكن بوتين من إقناع نفسه بقبول وقف إطلاق النار، فإن عقوبات أميركية جديدة كبيرة قادمة"، معتبرا أن هذه الرسالة ستكون طريقة ذكية للاستفادة من نجاح أوكرانيا في ساحة المعركة لتحقيق هدف ترامب بـ"سلام دائم في أوكرانيا".

مقالات مشابهة

  • الرئيس الإيراني: علينا أن نعمل جميعا ليسود السلام الأرض لا الصراع والحروب
  • وزير خارجية بريطانيا: السودان يعيش أسوأ كارثة إنسانية في العالم
  • «العدل والمساواة» تعترض على قرار حل الحكومة السودانية
  • أزمة سياسية في السودان بعد أول قرار أصدره رئيس الوزراء كامل إدريس
  • أوكرانيا لم تُهزم بعد! معضلة كبيرة لترامب بعد هجمات أوكرانيا الاستثنائية
  • تأملات في حملة سحب الجنسيات في الكويت
  • الخارجية التركية: أردوغان على تواصل مع بوتين وزيلينسكي لتسوية الأزمة الأوكرانية
  • الخارجية السعودية: استمرار التطرف الإسرائيلي يزيد من تعقيد الأزمة الفلسطينية
  • كرامي: تعاطي عون مع ملف حصر السلاح يمثل حكمة ومسؤولية
  • ناشطة مصرية: أول زيارة لي كانت إلى جنوب السودان أثناء الأزمة قبل 10 سنوات