الشهيد الرئيس الصماد .. القائد الاستثنائي ورجل المسؤولية
تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT
يمانيون../
تحلى الشهيد الرئيس صالح علي الصماد بالعديد من الصفات الكريمة منها الصدق والأمانة والإخلاص، وكذا التعامل الحسن والطيب مع كل من عرفهم وتعامل معهم.
واتصف -رحمه الله- بالشجاعة والقيادة، والحنكة في التعامل مع الآخرين، وحين وصل إلى الرئاسة تعامل بحنكة وشجاعة، واستطاع التغلب على المؤامرات، وافشال محاولات شق الصف، واستطاع جمع الكلمة بين مختلف القوى الوطنية، والمشايخ، والوجاهات اليمنية، إضافة إلى تمسكه بكل المبادئ التي عُرف بها، دون أن تغيره المناصب ومتاعها.
في مرحلة استثنائية عُدت الأصعب في تاريخ اليمن الحديث وقف الشهيد الرئيس على رأس السلطة، في توقيت حساس تعيش من خلاله البلاد عدواناً عسكرياً واقتصادياً منذ أعوام، فكان رجل المسؤولية في ظروف استثنائية، تحمل تبعاتها الرئيس الصماد منذ اليوم الأول لتسلّمه رئاسة المجلس السياسي الأعلى عام 2016، في وقت كان الجميع فيه يرفضون اعتلاء منصب الرئاسة؛ نظراً لحجم المسؤولية، وعظم المؤامرة وانعدام كل مقومات الحكم، حيث كان اليمن وشعبه يقاتلون في عشرات الجبهات، وسط انقطاع المرتبات.
في الـ 26 من مارس 2018، أطلق الرئيس الشهيد مشروعه في بناء اليمن القوي، وذلك في كلمة أمام المحتشدين بمناسبة مرور ثلاثة أعوام من الصمود في وجه العدوان الأمريكي السعودي على اليمن، في خطوة حصلت على تأييد شعبي كبير وفرحة أكبر في أوساط اليمنين؛ ليكون السلاح الأقوى والأكثر فعالية في مواجهة العدوان على كل المستويات.
ويتبلور مشروع الرئيس الشهيد حول ركيزتين أساسيتين: الأولى تكمن في توحيد الجهود الوطنية من أجل تعزيز صمود الشعب اليمني، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، والأخرى تتمثّل بمواصلة العمل على تأهيل الجيش وتزويده بمهارات ومعدّات قتالية نوعية، فضلاً عن الاستمرار في التصنيع العسكري، حتى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسلحة التي يحتاجها اليمن في كل مرحلة من مراحل جهاده في مواجهة قوى الاستكبار والطغيان.
المشروع الذي “تسنده الجبهات ويسند الجبهات”، على حد توصيف الرئيس الصمّاد، قوامه “إيجاد دولة مدنية من أجل الشعب، وليس شعباً من أجل الدولة”، وهو ما عدّه التحالف السعودي خطراً يهدد وجوده، لا يقل عن خطر الصواريخ اليمنية الباليستية، والتي طالت الرياض في عهد الرئيس الشهيد، وغيّرت المعادلة العسكرية.
وفي أول رد فعل للتحالف الأمريكي السعودي، على مشروع الصماد، وعد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خلال زيارته الولايات المتحدة الأميركية، بإحداث انشقاقات داخل “أنصار الله”، فأُعيدت حكومة الفار هادي إلى ممارسة مهمّاتها الخيانية في المحافظات الجنوبية، في محاولة لإيهام المجتمع الدولي بأنّ ثمّة حكومة تسيطر على الجنوب اليمني المحتل.
وبعد محاولات تحالف العدوان الفاشلة في اختراق الصف اليمني، عبر خلق الانفلات الأمني، واللعب بورقة المرتبات، وإثارة الفتنة الداخلية، أدركت السعودية حجم المأزق، وصعوبة إجهاض مشروع الصمّاد الجهادي، فكانت الخطّة التالية، متمثلةً باغتيال رئيس الشهداء، وذلك بتنفيذ أمريكي خالص.
استشهد الرئيس صالح الصماد في مدينة الحديدة، 3 شعبان 1439هـ الموافق – 19 أبريل 2018م إثر غارات لقوات تحالف العدوان الأمريكي السعودي على سيارته، حيث نفذت أمريكا المهمة عبر استخدامها لطائرة “إم كيو9” في رصد تحركاته، و من ثم استهدافه، ليكن أول رئيس يمني تغتاله أمريكا بالتعاون مع وحدة الاغتيالات في الكيان الصهيوني بشكل مباشر ودون استخدام عملائها في المنطقة.
في السياق يقول الناشط أمين الجرموزي إن الرئيس الشهيد صالح الصماد من أكثر الرؤساء وأعظم الشخصيات في وجدان اليمنيين، فقد تولى الحكم في مرحلة فارقة في تاريخ اليمن واليمنيين.
ويوضح ” أن الرئيس الشهيد تولى الرئاسة في أوج شدة العدوان الأمريكي السعودي على اليمن، وأنه كان الرجل المناسب في المكان المناسب، بل وفي التوقيت المناسب، مضيفاً أن الرئيس الشهيد أثار غضب الأعداء والمتآمرين بحنكته، وقوته وتحمله المسؤولية بكل اقتدار ووعي، واستطاع التأليف بين قلوب اليمنيين ليسكن الوجدان وليكون رجل المرحلة الحساسة في تاريخ اليمن الحديث.
ويواصل: “الشهيد الرئيس توج مسيرته الكبيرة كرئيس حصل على الثقة في عيون اليمنيين بتوافق مجتمعي لم نراه منذ أيام الرئيس إبراهيم الحمدي، والذي توج هو ذكراه العظيمة قبل رحيله واستشهاده بشهر واحد فقط، بمشروع اليمن القوي، مشروع بناء الدولة الذي يعد عنواناً لمرحلة جديدة من مقاومة العدوان، في المستويات كافة”.
ويختتم الجرموزي حديثه بقوله: “إن كل ذلك جعل من العدو السعي إلى اغتياله من منطلق ادراكهم خطورته على مشروعهم الاستعماري وأجندتهم في اليمن، وفي الأخير نال الرئيس الشهيد وسام الشهادة ليلحق برفقائه إلى جنة الخلد بعد استهداف موكبه في محافظة الحديدة”، مؤكداً أن “كل ذلك يعكس أهمية احياء ذكرى استشهاد الرئيس صالح الصماد، كمحطة نتزود بها ونستلهم منها الدروس العظيمة لرجل عظيم، سيبقى دمه وقوداً لكل صواريخنا وطائراتنا”.
روحية الجندي مع الله
وعلى صعيد متصل يؤكد المحلل السياسي الدكتور أنيس الأصبحي أن الشهيد الصَّمَّاد -رَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَاه- تميز بوفائه، وبثباته، وفي المرحلة الصعبة، والتحديات الكبيرة، وكان حاضراً بشكلٍ أكبر، ومتفانياً، وباذلاً لجهده في الأولويات المهمة، وأولها: التصدي للعدوان، في مرحلة من أكبر المراحل في التصعيد من تحالف العدوان، وحملاته الهادفة إلى السيطرة على محافظة الحديدة، فكان الشهيد -رِضوَانُ اللَّهِ عَلَيْه- حاضراً، في تحشيد الشعب، وفي تفعيل كل القدرات الرسمية والشعبية، والدفع بها نحو التصدي للعدوان، في تلك الحملة والحملات الأخرى. مضيفاً: “إن أسلوبه في أداء مسؤوليته كان أسلوباً مميزاً وراقياً، يتميز بالإخلاص، و بالتفاني، وبالثبات، وبالصبر، وبالعمل الدؤوب، وبالاستعداد العالي والجهوزية الدائمة للتضحية، وهو الذي كتب وصيته”.
ويشير ” إلى أنه وفي أثناء تحمله لهذه المسؤولية، كان منطلقه إيمانياً، ولذلك ما بعد وصوله إلى موقع المسؤولية هو ذلك الشخص الذي كان- وهو في موقع الرئاسة- يحمل روحية الجندي مع الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومع شعبه، ومع أمته، ويرى في ذلك موقعاً لتحمل المسؤولية ما بينه وبين الله أولاً، وما بينه وبين شعبه وأمته ثانياً.
ويضيف أن الرئيس الشهيد كان ينطلق وهو يستشعر أنه في موقع مسؤوليةٍ عمليةٍ يخدم فيها شعبه، وليس في مقامٍ معنويٍ يستغله للمكاسب الشخصية، أو الأهداف الشخصية، أو التوجهات الشخصية، ولذلك كانت وتيرته في العمل لخدمة شعبه وقضايا أمته، مراراً”.
ويوضح الأصبحي أن تحالف العدوان كان يلحظ في الشهيد الصَّمَّاد ثلاث نقاطاً مهمة: أولها سعيه بتفعيل القدرات والإمكانات الرسمية، في التصدي للعدوان، وفي خدمة الشعب، وثانيها علاقته القوية في الوسط الشعبي، والتي يُفَعِّلُهَا بشكلٍ تام في التعبئة الشعبية، ضمن هذه الأولوية الأساسية، إلى جانب قدرته الفائقة في عملية توحيد الصف الداخلي والوطني، وجمع المكونات والتيارات بمختلقها في هذا الشعب، في إطار الاهتمام بهذه الأولوية.
ويؤكد أن المعتدين كانوا يقلقون من هذا الدور الفاعل للشهيد الصماد، فكانوا يسعون إلى استهدافه وتنفيذ ما يمليه عليهم الأمريكي، ويرسمه لهم، فالأمريكي هو الذي حدد للسعودي أن يستهدف الشهيد الصَّمَّاد كهدف أساسي، ضمن استهدافه للدور المهم الذي يقوم به الشهيد الصَّمَّاد.
ويجدد الأصبحي التأكيد على أن التحالف الأمريكي السعودي منذ بداية العدوان، وإلى اليوم كانت ممارساته إجرامية بشعة، على مستوى القتل والتدمير والحصار، الذي ألحق معاناة كبيرة جداً بشعبنا العزيز في واقعه المعيشي، وصولاً إلى التجويع للملايين من أبناء هذا الشعب، وإلحاق ضائقة معيشية شديدة جداً بهم، أو على المستوى الصحي، ومن أسوأ ما عاناه شعبنا العزيز نتيجةً للحصار والحرب عليه والعدوان عليه المعاناة الكبيرة جداً في الجانب الصحي، معاناة كبيرة للغاية، وأودت بحياة مئات الآلاف من الأطفال والنساء والكبار والمرضى؛ نتيجةً لانعدام الرعاية الصحية والخدمات الصحية والطبية.
ويضيف أن أي شخص يمتلك الوعي والإحساس بالمسؤولية والضمير الحي لابدَّ أن يتحرك، وأن يكون له موقفاً، وهذا ما دفع بالشهيد الصماد ، والشهداء وأحرار هذا البلد للتحرك الجاد، والاستعداد التام للتضحية، والتحرك في مواجهة العدوان والتصدي له بكل جهد، فكان الشهيد -رحمه الله- أنموذجاً في الصدق مع الله، والوفاء لشعبه، والتحرك الجاد ضمن الأولوية في التصدي للعدوان، لافتاً إلى أنه من المهم جدًا على المستوى الرسمي أن يتجه كل المسؤولين بجدية واستشعار للمسؤولية، ووفاء لهذا الشهيد العزيز العظيم على أساس المشروع الذي أرساه والعنوان الكبير الذي نادى به (يدٌ تبني ويدٌ تحمي)”.
ويختتم الأًصبحي : “شعبنا على المستوى الرسمي والشعبي قدَّم أول رسالة في التماسك، والصمود، والثبات، والعزم، والهمة، والاستمرارية، في الصمود، وجاءت معركة الإسناد (معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس) نصرة للشعب الفلسطيني المسلم المظلوم، بكل إيمان وثبات، وتوكل على الله واعتماد عليه دون خوف ولا تراجع.
محمد الكامل المسيرة
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الأمریکی السعودی التصدی للعدوان الشهید الرئیس الرئیس الشهید تحالف العدوان
إقرأ أيضاً:
في الدرس الخامس للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي في شهر ذي الحجة: نبي الله إسماعيل قدم نموذجاً راقياً في الايمان والتسليم لأمر الله تعالى وطاعة لوالده
الثورة / سبأ
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبراهيم وَعَلَى آلِ إبراهيم إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في القصـص القـــرآني، الكثـــير مـن الـدروس والعــبر التي نحـن في أمـسِّ الحاجـة إليهـا، والنماذج التي قصَّ الله لنا عنها، من أنبيائه، ورسله، وأوليائه، والصالحين من عباده، قدَّم لنا من حياتهم نماذج: من مواقفهم، من أعمالهم، من أقوالهم، من ظروف عايشوها، وكيف تعاملوا معها… وغير ذلك، مما يفيدنا نحن، من موقع التأسي والاقتداء بهم؛ لأننا نرى في حياتهم نموذجاً واقعياً، وحالةً قائمة في المجتمع البشري، كبشر، وكأُناس تحقَّق في حياتهم ما تحقَّق.
فحينما نعود إلى هدى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وتعليماته، سواءً ما كان بشكل توجيهات عملية، أو ما كان بشكل قيم وأخلاق نلتزم بها، ويتجسَّد الالتزام بها في الواقع العملي، أو الأثر العظيم لهدى الله، في السمو بنفس الإنسان، في زكاء قلبه، في رشده، وفكره، وفهمه، ووعيه، في سمو نفسه… إلى غير ذلك؛ نجد أن هناك أمثلة ونماذج تؤكِّد واقعية هذا الهدى، أن بالإمكان أن يهتدي الإنسان على هذا النحو من الهداية، بما يترك الأثر العظيم في زكاء نفسه، في سلامة قلبه، وتنقية قلبه من الشوائب الخبيثة، في الارتقاء الإيماني والأخلاقي… وغير ذلك.
ولـذلك يقصُّ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» علينا في القرآن الكريم هذه النماذج؛ لتكون ملهمةً لنا، وجزءاً من الهداية الإلهية، مما نهتدي به، مما نستفيده، مما نستلهم منه في مسيرتنا العملية، وفي واقع حياتنا، ما ننتفع به، وما نستفيد منه كذلك على مستوى الخطوات العملية، حتى على المستوى التربوي، حتى على المستوى التربوي هناك الكثير الذي يفيدنا في ذلك.
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، جعله الله إماماً للناس (من أنبياء، ومن غيرهم)، في حياته الدروس العظيمة، التي هي محط أسوة وقدوة، تمثِّل دروسا لكل الأجيال، ينتفع بها المؤمنون انتفاعاً عظيماً في مقام التأسي، وفي مقام الهداية.
نجد في المراحل التي تحدثنا عنها، على ضوء بعضٍ من الآيات القرآنية المباركة، وكما قلنا: هي نماذج، نماذج محدودة من نشاطٍ واسع، من أعمال كثيرة، من اهتمامات كبيرة، قدَّم القرآن الكريم لنا نماذج منها، وقدَّمنا من خلال الآيات المباركة القليل مما تفيده تلك الآيات، والذي تفيده أكثر بكثير مما تحدثنا عنه، لكن المقام مقام اختصار، ومقام تركيز على بعضٍ من النقاط ذات الأهمية، بحسب الظروف التي نعيشها في هذه المرحلة، وبحسب فهمنا المحدود والقاصر، وعلى كُلٍّ، نجد الدروس العظيمة من المرحلة التي أمضاها في قومه (في بابل) في العراق، تجلَّت في مواقفه، في اهتماماته:
الحالة النفسية التي كان يعيشها، من محبةٍ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، من تعظيمٍ لله، من ثقةٍ بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، من يقين، من توكُّلٍ على الله «جَلَّ شَأنُهُ».
وكذلك ما كان عليه من الهدى، في رشده، ووعيه، وفهمه، وحُجَّته، وعلمه، وما يعرضه من البراهين، والمقدرة الفائقة على الإقناع، على التوضيح، على التبيين، على الاحتجاج، على التفنيد للباطل… وغير ذلك.
ثم الحرص الكبير جدًّا على هداية الناس، على إنقاذهم، بذل كل جهده، وسعى سعياً كبيراً جدًّا في عمله لإنقاذ قومه، والعمل على هدايتهم، والسير بهم في الاتِّجاه الصحيح.
ثم كذلك في تسليمه لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، واستعداده التام للتضحية بكل شيء؛ ولـذلك كان في الوقت الذي قرَّروا فيه إعدامه حرقاً بالنار ثابتاً، لا يتزحزح ولا يتراجع أبداً، وكان في منتهى التسليم لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فهو جاهزٌ أن يُضَحِّي بنفسه في سبيل الله «جَلَّ شَأنُهُ».
وكانت الآية العجيبة، والمعجزة العظيمة، حينما جعل الله النار برداً وسلاماً عليه، آيةً يفترض بقومه أن يؤمنوا، أن يتَّجهوا جميعاً إلى الإيمان، والدخول في دين الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والإذعان للحق؛ ولكن بالرغم من كل ذلك بقي أكثرهم على ما هم عليه، من جحود، من تنكُّر للحق، من إصرار وعناد: إصرار على الباطل، وعناد في الرفض للحق، وعدم التَّقبُّل للهدى والحق.
بعد تلك الآية العجيبة، وبعد هجرته إلى الشام، عاش ظروفاً مختلفةً في الشام، هيأ الله له أجواء تساعده على الاستمرار في أداء مهمته الرسالية، بدون أن يواجه ما كان يواجهه في بابل من المعارضة، من المحاربة، من التهديد، من المخاطر الكبيرة التي تستهدفه على حياته، من التكذيب الشديد، والصدّ، كما كان يحصل في بابل، فهو صار في وضع مختلف، هيأه الله له، وفي بلدٍ هو بلد مبارك، {الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} كما قال الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بركات واسعة، ومهيأ لهذا الدور، ليكون دوراً ممتداً عبر الأجيال؛ ولـذلك فعطاء نبي الله إبراهيم، وجهده، وإسهامه، امتد جيلاً بعد جيل، إلى رسول الله محمد «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، الذي هو وريثه أيضاً، وما بعد ذلك، امتداد هذا الحق، هذا النور، هذا الهدى، إلى قيام الساعة، بركات ممتدة وعظيمة، واتَّسع نطاقها عبر الأجيال، وكذلك في الجغرافيا، على مستوى الجغرافيا، وعلى مستوى الزمن، فلم يؤطَّر، ولم يُحبس هذا الدور، أو يُغلق عليه في نطاقٍ جغرافي يبقى فيه منحصراً، لا يتجاوزه لا على مستوى الجغرافيا، ولا على مستوى الزمن، ربما كان ذلك هو ما سيحدث لو بقي في بابل، لو لم يهاجر، أو لربما كانت النتائج- حتى مع الوقت- محدودة، لكن من خلال الهجرة هيأ الله له ظروفاً عظيمةً، وظروفاً مختلفة.
بعد هجرته، وتغير الأحوال، تحدثنا بالأمس كيف كانت رغبته كذلك في أن يرزقه الله بالذُّرِّيَّة الطَّيِّبَة؛ لأنه يريد لذُرِّيَّتِه أن تكون أيضاً مساهمةً في اتِّساع دائرة الإيمان والمؤمنين، وأن تكون امتداداً له: في التَّمَسُّك بهدى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والهداية لعبادة، وتقديم النموذج الصالح والمؤثِّر في أوساط المجتمعات البشرية.
وهو بعد أن تجاوز مرحلة الشباب، قبل أن يكون له ذُرِّيَّة، أصبح أكثر تطلُّعاً إلى ذلك، بل حسب التاريخ، بحسب كتب التاريخ والتفسير، فإن زوجه أيضاً (سارة) كانت أيضاً متطلعةً ومدركةً إلى أهمية أن يكون له ولد، ولأنها كانت عقيماً، فقد اقترحت حتى هي عليه أن يكون له امرأة أخرى؛ من أجل أن يُرزق بذُرِّيَّةٍ طَيِّبَة، فكانت (هاجر) هي المرأة الأخرى، ويقال: إنَّها مصرية (هاجر).
دعا الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، فهو يريد ذُرِّيَّةً طَيِّبَة، ويريد أن يكون له ولد صالح، وعنوان الصلاح تحدثنا عنه بالأمس: أنه العنوان الجامع لكل المزايا الطَّيِّبة، والخصال الحميدة، والصفات العظيمة، يجمعها هذا العنوان (الصلاح)، أن يكون ولداً صالحاً.
والله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» استجاب له دعاءه، مع مَزِيَّة في صفات الصلاح، هي: الحلم؛ ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، وتحدثنا بالأمس عن أهمية هذه الصفة، فهو ولدٌ صالحٌ يجمع كل صفات الصلاح، ويمتاز بين صفات الصلاح بشكلٍ متميِّز بالحلم أكثر من غيره، والحلم من أهم صفات نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وتحدثنا عن ذلك بالأمس، وفعلاً الحلم هو:
من أهم الصفات الإيمانية من جهة.
ومن أهم الصفات التي تؤهِّل الإنسان لأن يكون له دورٌ مؤثِّرٌ في الواقع من حوله، وفي الناس من حوله من جهةٍ أخرى.
ومن أهم الصفات القيادية، التي تؤهِّل الإنسان للدور القيادي، فيكون شخصاً مؤثِّراً في هذه الحياة، مفيداً ونافعاً، يستوعب الآخرين، يؤثِّر في الآخرين، يتمكَّن من تجسيد القيم الإلهية في واقع الحياة، بالشكل الذي يؤهِّله لأن يكون قدوةً للآخرين، ونموذجاً للآخرين.
وكانت هذه الاستجابة من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بأن يرزقه ولداً صالحاً وحليماً، نعمةً كبيرةً عليه.
فأتى هذا المولود بعد انتظار طويل، قد تجاوز حتى مرحلة الشباب، ولنا أن ندرك كيف كانت مشاعر نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، بعد أن رزقه الله بهذا المولود، كيف هي فرحته به، ارتياحه به، وكيف يتَّجه إلى تنشئته تنشئةً على الصلاح؛ لأنه مُرَكِّز على ذلك، ومهتم بذلك.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}، نشأ هذا الغلام في إطار رعايته وتربيته، وهذا ما تفيده عبارة (مَعَهُ)، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ}: أنه نشأ في ظل رعاية والده، وفي ظل اهتمام والده وتربية والده، حتى بلغ معه مرحلة السعي، {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}، (السَّعْيَ): القدرة على الحركة، الحركة في الأعمال العبادية، الأعمال الحياتية وشؤون الحياة، فهو بلغ المرحلة التي يستطيع فيها أن يكون عنصراً فاعلاً وعملياً، يستطيع أن يشارك مع والده في الأعمال العبادية، في الأعمال الصالحة، وفي الأعمال التي هي في إطار شؤون الحياة، والاهتمام بأمور الحياة، ومساعدة والده في شؤون هذه الحياة.
عبــارة: {مَعَهُ} هنا هي مهمةٌ جدًّا؛ لأن هناك إشكالية كبيرة في بعض المرويات التاريخية، التي بعضٌ منها هو من خلال الاعتماد على المصادر والروايات الإسرائيلية، والتي حرصت على أن تُقَدِّم صيغةً مختلفةً عن الواقع، حتى مسيئةً إلى نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، الذي عمل- وبتوجيهٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأمرٍ من الله، وهدايةٍ من الله- على أن ينقل هذا الجزء من أسرته (هاجر، وابنها إسماعيل «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ») إلى مكة، لهدفٍ عظيمٍ مُقَدَّس، كما بيَّنه الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في دعاء نبي الله إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، في هذا الدعاء يُبَيِّن أن الهدف والغاية، التي من أجلها أسكنهم هناك، هو: العناية بإقامة وإحياء الصلاة، يعني: في إطار الدور العظيم لبيت الله الحرام (للكعبة المُشَرَّفة)، والتي سيأتي الحديث عنها أكثر، عن مسألة إعادة بنائها، وتأسيسها، وكذلك إحياء دورها الروحي والعبادي في الصلاة، والحج… وغير ذلك، إن شاء الله في الدرس القادم، لكن السياق هنا يبيِّن على أن نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» لم ينقل هذا الفرع، وهذا الجزء من أسرته، كعملية نفي وطرد لمعالجة مشكلة أسرية، كما تفيده بعض المرويات، التي تستند أساساً إلى مرويات إسرائيلية، وكأن المسألة: أنه طرد (هاجر) وطفلها الرضيع، وتركهما هناك، ولم يكن يجرؤ حتى على زيارتهما.
لو فرضنا أن هناك مشكلة أسرية، يستطيع أن يعالجها في إطار أقرب، يعني: يستطيع أن يسكن (هاجر) وابنها إسماعيل في الشام، الشام منطقة واسعة جدًّا، يستطيع أن يجعلهما في منطقة أقرب، المسافة ما بين فلسطين، وبالتحديد يعني ما بين الخليل إلى مكة المُكَرَّمة، قد تصل إلى (ألف كيلو)، أو ما يقرب من ذلك، أو يزيد على ذلك، مسافة بعيدة جدًّا جدًّا جدًّا، يعني: لا يحتاج في معالجة مشكلة أسرية إلى هذا النوع من المعالجات.
إضافةً إلى ما تقدِّمه بعض المرويات من كيفية التعامل مع الظروف، يعني: مع جانب الرعاية، جانب من جوانب الرعاية مع هاجر وابنها إسماعيل، فهم يصوِّرون أنه بمجرَّد أن أوصلهما إلى مكة، تركهما من دون أي رعاية، من دون أي عناية، من دون توفير أي شيءٍ من احتياجاتهما، وذهب فوراً دون تأخير، والمسألة ليست كذلك.
هذا التعبير القرآني هو مهمٌ جدًّا؛ لأنه يُقَدِّم لنا النبأ الحق، والقصص الحق كما هو، وفعلاً هو بالشكل الذي يُجَسِّد لنا ما عليه أنبياء الله من أخلاقٍ كريمة، من رحمة، من قيم، فهذا التعبير: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ}، (مَعَهُ)، يفيد أنه حظي برعاية من جانب والده، ونشأ في إطار رعايته، وفي إطار اهتمامه وتربيته، إذا افترضنا أن هناك مراحل يغيب فيها، فقد تكون مراحل محدودة، لكن ليست المسألة أنه تركه مع والدته منذ وهو رضيع، منذ مرحلة الرضاعة، إلى أن أصبح كبيراً، ثم ذهب إليه بهدف أن يذبحه، كما تصوِّره بعض الروايات.
أو يصوِّرون أيضاً أن بعض الزيارات التي كان يذهب فيها إلى مكة، إلى درجة أنه لا يجرؤ على أن ينزل من على دابته، البعض يقولون: ، تصرفات غير لائقة بمستوى الإنسان العادي في التعامل مع أسرته، مع ابنه!
فالله يخبرنا في القرآن الكريم أنه نشأ في إطار رعاية والده، هذا بالنسبة لإسماعيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ»: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ}، (مَعَهُ) واضحة يعني، في إطار رعايته، وتنشئته، وتربيته، واهتمامه، ووصل إلى هذه المرحلة: {السَّعْيَ}: القدرة على العمل والحركة، فهو يشارك مع والده في أعمال العبادة، وفي الأعمال الصالحة، وفي الأعمال التي تعود إلى شؤون الحياة المختلفة.
في هذه المرحلة، التي هو فَرِحٌ فيها بابنه إسماعيل في غاية الفرح والسرور؛ لأنه يراه وهو يكبر، وتكبر معه كله مفردات الصلاح، يرى فيه أنه يتكامل وهو ينشأ، يتكامل في أخلاقه العظيمة والإيمانية، يتكامل إيمانيّاً، يرتقي إيمانيّاً بشكلٍ مميَّز ورائع، فهو يرى فيه ما يسره، وفيه صفة الحلم متميِّزة وبارزة، وهي صفة مهمة، يعني: تُبَيِّن لنا كم كان عليه إسماعيل من حُسن الخلق، من التعامل، من الأدب العالي جدًّا؛ لأن مع الحلم الأدب، وحسن التعامل؛ ليس إنساناً فظاً، أو غليظاً، أو يسيء التعامل، أو سريع الانفعال والتصرُّف، وردود الأفعال العاجلة، المتسرعة، تجاه أي شيء يستفزه؛ هو حليم؛ ولـذلك هو على مستوى عالٍ جدًّا من الأدب، وحُسن الخلق، والتعامل الراقي، والرشد أيضاً والصبر؛ لأن مع الحلم هناك الجانب الفكري، مع الحلم هناك توازن على مستوى التفكير، وعلى مستوى ما عليه الإنسان من فهم ووعي، تمكُّن في حالة الوعي؛ وكـذلك جانب الصبر، الحليم دائماً هو صبور، هو إنسانٌ يتحلَّى أيضاً بالصبر، فالحلم يجمع معه مواصفات أخرى، ويضم إلى جانبه مواصفات مهمة جدًّا، ومنها: فعلاً الرشد، والصبر، والأدب العالي جدًّا، وحسن التعامل، وحسن التصرف… وغير ذلك.
وهنا لنا أن نتصور مستوى العلاقة ما بين الأب وابنه، الأب الذي رزقه الله بهذا المولود، والذي يرى فيه وهو يكبر وينشأ ما يتمناه فيه، من المواصفات الإيمانية الراقية، ومواصفات الصلاح، وأتاه بعد طول انتظار، وقد أصبح نبي الله إبراهيم كبيراً في السن عندما رُزِق بهذا المولود؛ ولـذلك فهو في غاية السرور به، هو بالشكل الذي تَقَرُّ به عينه، يُقِرُّ عينه، وأَقَرَّ الله عينه به.
وهنا تأتي المفاجأة الكبيرة لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، في إطار امتحانٍ عجيب، وامتحان كبير في نفس الوقت، وخارج عن أي حالة مألوفة، وفيه درسٌ عجيبٌ جدًّا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ}، المرحلة التي بات فيها يعتمد عليه، يُؤَمِّل فيه أكثر، وأصبح أيضاً فيما هو عليه من كمال إيماني وأخلاقي، ومن مواصفات راقية جدًّا، بالشكل الذي أصبحت علاقته بوالده علاقة قوية، وعلاقة حتى عملية، أتاه هذا الامتحان: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}، أتت لنبي الله إبراهيم رؤيا عجيبة، وصادمة، وغريبة، فهو يرى في منامه أنه يذبح ابنه، يرى الفعل، الذي يراه في المنام هو هذا الفعل: عملية الذبح لابنه، هذا الابن الذي هو في غاية السرور به.
ونبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» أيضاً هو حليم، وفي أعلى مستويات الحلم، والحليم عادةً هو صبورٌ، وهو أيضاً في العادة- الإنسان الذي هو حليم- هو من أبعد الناس عن العنف، الذي هو كحالة انفعالية، عن العنف الذي هو كحالة انفعالية، قد يكون العنف أحياناً كمسؤولية في إطار موقفٍ عملي، لكن كحالة انفعالية، فالحليم من أبعد الناس عن هذه الحالة، لا تأتي إلَّا عندما يكون هناك ما يستوجبها في حالاتٍ معيَّنة، ليست حالة سريعة لدى الإنسان الذي هو حليم، وحالة قوية متأجِّجة، تؤذيه، وتضغط عليه وعلى مشاعره، الإنسان الحليم هو بعيدٌ عن ذلك؛ ولـذلك فهذه الرؤيا كانت رؤيا عجيبة بالنسبة لنبي الله إبراهيم، وفي نفس الوقت رؤى الأنبياء «عَلَيْهِمُ السَّلَامُ»، جزءٌ من رؤاهم، هو أيضاً جزءٌ من الوحي إليهم، البعض من رؤى الأنبياء هي تأتي كجزء من عملية الوحي إليهم.
فكانت هذه الرؤيا لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، والذي هو- كحالة إنسانية- الأب العطوف، الحنون، الرؤوف، الرحيم، الحليم، واتِّجاه ابنه، وهو أيضاً ابن بهذه المواصفات الراقية، ليست تصرفاته حتى بالشكل الذي يمكن أن يكون قد أزعج والده وآذاه، وصنع عنده حالة انفعالية، أو حالة استياء، ولدٌ لم يصدر منه أي شيء يسوء والده، والأب- كحالة إنسانية- يشقُّ عليه ويَعِزُّ عليه أن تصيب ابنه شوكة تؤذيه، أو أن يصيب ابنه أي ألم بسيط يؤلمه، يحزن، يتألم، يحاول أن يقي ابنه أي سوءٍ أو مكروه، ويحاول أيضاً أن يعالج أي حالة يتأذَّى منها ابنه، فنبي الله إبراهيم كالحالة الإنسانية العاطفية تجاه الابن، وهو في ذلك المستوى أيضاً من الكبر في السن، أكثر عاطفة، أكثر رحمة، وهو بما هو عليه أيضاً في مقامه الإيماني، وكماله الإيماني، عظيم الرحمة، عظيم الحلم، وفي مستوى عظيم من الرعاية، من الاهتمام بأمر الآخرين، من إرادة الخير لهم، من البعد التام عن مثل هذا التصرف، فهذه الحالة كانت حالةً عجيبة، التي رأى نفسه فيها في المنام، والأكثر أهميةً في الموضوع، والأكثر تأثيراً في الموضوع، كما قلنا: أن رؤى الأنبياء، جزءٌ من رؤاهم، يكون عادةً جزءاً من الوحي إليهم.
وتكرَّرت هذه الرؤيا، عبارة: {إِنِّي أَرَى}، لم يقل: ، {إِنِّي أَرَى}، تكرَّرت هذه الرؤيا، في بعض المصادر: أنه رأى هذه الرؤيا في ليلة الثامن من شهر ذي الحجة، وبعد أن رأى هذه الرؤيا- فعلاً- من الطبيعي أن يُصْدَم بها، وأن يكون مذهولاً، ومستغرباً، ومندهشاً منها، ومتردِّداً في أمرها: هل أصبحت- فعلاً- في إطار عملية الوحي؟! كيف سيتعامل معها؟! ثم تكرَّرت في ليلة التاسع من شهر ذي الحجة، ولنا أن ندرك مثلاً، أو نتخيل، الحالة النفسية التي كان عليها نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» خلال هذين اليومين، ثم رآها للمرَّة الثالثة ليلة العاشرة من شهر ذي الحجة، ليلة عيد الأضحى، فتكرَّرت ثلاث مرَّات؛ ولـذلك وجد نفسه أمام تأكيد، من خلال تكرُّر هذه الرؤيا، بأنه فعلاً أمام الانتظار لأمرٍ إلهي يتعلَّق بذلك، وكان مدلول هذه الرؤيا: أنه سيأتيه أمرٌ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بذلك؛ ولـذلك اتَّجه إلى الاستعداد للتنفيذ.
ولكن عندما يتَّجه إلى الاستعداد لتنفيذ هذه الرؤيا، فما الذي سيفكِّر به؟ سيفكِّر بالدرجة الأولى بحال ابنه إسماعيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، كيف سيكون موقفه؟! كيف سيكون رد فعله عندما يخبره بهذا الموضوع؟! موضوع غير مألوف ولا متوقع على الإطلاق، يعني: شيءٌ لم يكن ليخطر ببال أيٍّ منهما (لا ببال الأب، ولا ببال الابن)، فهو يفكِّر عندما يُكَلِّم ابنه إسماعيل «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ» بذلك، كيف سيكون رد فعله؟ ماذا سيفكِّر به؟ ماذا سيقول؟ كيف ستكون حالته النفسية تجاه ذلك؟ ولكنهما- كلاهما- متَّجهان في مسيرة حياتهما على أساسٍ من الإيمان بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
فهو كلَّم ابنه إسماعيل، في كتب التاريخ: أنَّه أخذه معه وذهب به بعيداً عن مسكنه، وبعيداً عن والدته هاجر؛ حتى لا تطَّلع على الموضوع أصلاً، وذهب به في شعاب مكة، ثم تكلَّم معه، وطرح عليه هذا الموضوع، وقصَّ عليه الرؤيا: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}؛ لأن الابن أيضاً يعرف عن رؤى الأنبياء، ما لها من خصوصية مختلفة عن غيرهم من الناس، {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، يطرح عليه الرؤيا، وليفكِّر هو ماذا سيكون قراره، وموقفه، ورؤيته تجاه ذلك.
نبي الله إسماعيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو لا يزال في سنٍ مبكرة، لا يزال غلاماً، كان رده ومن دون تأخيرٍ كما يظهر، يعني: لم يفكِّر طويلاً، ولا شك أنَّه صُدِم بالموضوع، وتفاجأ، لا شك أنَّه تفاجأ جدًّا بما طُرِحَ عليه، والذي طُرِحَ عليه ليس أمراً عادياً، طُرِحَ عليه موضوع أن يُذبَح، واحتمال أن يُذبَح، فماذا كان رده؟ على الفور: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فكان رداً- فعلاً- يعبِّر عن حالة راقية جدًّا من الإيمان، والتسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
وهذه المرتبة العالية جدًّا من الإيمان، التي وصل إليها إسماعيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو لا يزال في سنٍ مبكرة كما قلنا، يعني: قد يكون في سن المراهقة، أو ما قبل سن المراهقة، أو قريباً من ذلك، وهو على هذا المستوى العالي جدًّا من الإيمان والتسليم لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، حتى خطابه مع أبيه، يعني: كان المتوقع- مثلاً- لهذه المفاجأة أن يكون لها تأثير على نفسيته، وحتى على مستوى تخاطبه مع والده، يتخاطب معه بكل هذا الاحترام، بكل هذا الأدب، بكل هذه المراعاة لمقام الأبوَّة، فيقول: {يَا أَبَتِ}، ثم يكمل خطابه وكلامه معه بهذا التعبير: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فهو في إطار المساندة والتشجيع لوالده، لم يأت منه أي عبارة فيها تذمُّر، أو عبارة فيها- مثلاً- تعبيرٌ عن حالة انزعاج شديد من هذه المفاجأة العجيبة، التي لم يكن يخطر بباله أن تحدث، فلم يصدر منه- مثلاً- أن يقول له: … أو أي شيء من هذا القبيل؛ إنما اتَّجه لتشجيعه على أن يفعل ما يأمره الله به، وأنه من جانبه مُسَلِّمٌ لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، هذا يُبَيِّن ما كان عليه من مستوى عظيم جدًّا من الإيمان، والتسليم لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والذوبان في أمر الله «جَلَّ شَأنُهُ».
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فهما بانتظار الأمر الإلهي، الرؤيا هي في مجملها تعبِّر (أو تدل، أو تؤشر) على أنَّ أمر الله آتٍ بذلك، ليست هي بذاتها الأمر، الرؤيا ليست هي بذاتها الأمر، ولكنها مؤشرٌ على الأمر، ودلالةٌ عليه؛ ولـذلك فهما بانتظار أمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وفي حالةٍ من الجهوزية التَّامَّة لتنفيذ أمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فهما بالفعل عاشا المشاعر: مشاعر التنفيذ وأجواء التنفيذ كاملةً، يعني: لم ينقص أي شيءٍ من حالة المشاعر، التي فيها استعداد تام لتنفيذ الأمر الإلهي بذلك إن أتى.
نجد أنَّ الصيغة هنا في: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، هي صيغة المضارع: {مَا تُؤْمَرُ}؛ ولـذلك هذا يبيِّن لنا أنَّ الرؤيا بنفسها هي كانت دلالةً ومؤشراً على مجيء الأمر الإلهي، على أنه سيأتي أمرٌ إلهيٌ بذلك، وأنها لم تكن هي الأمر بنفسه، لكنهما عاشا بالفعل حالة الاستعداد التام لتنفيذ الأمر الإلهي بالذبح، واتَّجها في جو هذا التنفيذ، ليكونا جَاهِزَين تماماً للتنفيذ، في حالةٍ من الاستعداد التام، والجهوزية التَّامَّة، التي فيها الجهوزية الفعلية كما سيأتي.
ولـذلك هو يقول: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، يعني: ، حتى هذا التعبير يدل على: مدى التجائه إلى الله، اعتماده على الله، ليس ممن يعيش حالة الغرور بنفسه، أو الاتِّكال على نفسه، أو الاعتماد على نفسه؛ التربية الإيمانية الراقية، التي تبني الإنسان على أساس الالتجاء التَّام إلى الله، والاعتماد التَّام على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والاستعانة بالله في كل أموره، وعدم الاتِّكال على نفسه، ومع ذلك التصميم والعزم العجيب على تنفيذ أوامر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، فهو يُعَبِّر عن أنَّه سيكون صابراً؛ وبالتـالي لن يكون من جانبه ما يعبِّر عن حالة جزع، أو هلع، أو خوف، أو قلق، أو تذمُّر… أو أي عائق قد يؤثِّر على تنفيذ والده للأمر الإلهي إن أتى بالذبح، بل سيكون في أدائه، في التزامه، في تسليم نفسه لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بالشكل الذي لا يمثِّل أي عائق، أو أي عامل ضغط إضافي، على والده في تنفيذ ذلك الأمر من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
وفعلاً الحالة حسَّاسة جدًّا، يعني: أي رد فعل فيها، أو أي حركة فيها، قد تكون عامل ضغط عاطفي إضافي، لو أنَّه حصل من جانبه- مثلاً- إظهار لِلتَّذَمُّر والاستياء، أو إظهار للحزن، والأسى، والمشاعر العاطفية الكبيرة… أو أيٍّ مما شابه ذلك؛ لمثَّـل عامل ضغط عاطفي كبير، إضافةً إلى أنَّ المسألة من أساسها مسألة فيها ضغط عاطفي، ونفسي، وإنساني كبير جدًّا في مشاعر الأبوَّة، والبنوَّة، والرحمة، والعاطفة الإنسانية، ولاسيَّما بين من يجسِّدان كل الحالة الإنسانية النقية، السليمة من كل العقد، السليمة من كل الأحقاد، السليمة من كل الضغائن، السليمة من كل حالات الانفعال النفسي الغريزي، البعيد عن الحالة الإيمانية والتقوى، يعني: كُلٌّ منهما نفسه صافية، راقية، زاكية، نقية من الشوائب التي لدى البعض، ممن لديه- مثلاً- دوافع على العنف، أو البطش، دوافع أخرى: دوافع غريزية، انفعالية، كما هو حال طبيعة الكثير من الناس، هما على مستوى عالٍ جدًّا من الصفاء الإنساني، وفوق ذلك أيضاً، ومضافاً إليه وبشكلٍ راقٍ جدًّا في أعلى المستويات: الحالة الإيمانية الراقية، التي تزيد الإنسان رحمةً، وإحساناً، وعطفاً، وخيراً، تجعل منه عنصراً خيِّراً جدًّا في هذه الحياة، مصدر خيرٍ، وليس مصدر شرٍّ تجاه الآخرين، فما بالك في هذا الجو وهذه العلاقة ما بين الأب والابن، وأيُّ أبٍ وابنٍ! يعني: نبي الله إبراهيم في مقامه العظيم، في نفسيته الراقية والزاكية، وإسماعيل «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ».
اتَّجها فعلاً إلى أجواء التنفيذ؛ لأنهما بانتظار الأمر الإلهي، وهما يتوقعانه، الرؤيا باتت- بالنسبة لهما- مصدر إشارةٍ ودلالةٍ على أنَّ الأمر آتٍ؛ وإنَّما عليهما أن يتَّجها للاستعداد التام للتنفيذ، واتَّجها فعلياً، ذهب به إلى (مِنَى) في مكة، ذهب به إلى (مِنَى)، إلى حيث يصل الحجيج في عيد الأضحى، وكان اليوم نفسه (العاشر من شهر ذي الحجة)، وهناك اتَّجها لتنفيذ هذا الأمر الإلهي، في حالة استعداد وجهوزية تامَّة، وانتظارٍ الأمر لتنفيذه، وهذه الحالة عبَّر عنها القرآن الكريم بأهم دلالة وتعبير عنها: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا}، الحالة التي دخلا فيها في حالة الجهوزية التَّامَّة نفسياً، وذهنياً، وفعلياً، قد أضجعه على الأرض، في كتب التاريخ: أنَّ إسماعيل أشار على والده، على نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، أن يكون إضجاعه له أثناء عملية الذبح على جبينه؛ من أجل ألَّا يكون وجهه مقابلاً لوجهه، وعيونه متَّجهةٌ إليه؛ حتى لا يكون هذا المشهد العاطفي مؤثِّراً عليه، أو عائقاً له، أو عامل ضغط نفسي عليه، يعني: إلى هذه الدرجة من اهتمامه وحرصه على أن يؤدِّي والده الأمر الإلهي، بدون أن يكون من جانبه أي عوامل ضغط إضافية، على ما هو قائمٌ أصلاً من الحالة النفسية العاطفية، التي خضعت لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» فوق كل شيء.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا}، كلاهما: (الأب، والابن) سلَّما لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» تسليماً تامّاً، جعلا أمر الله فوق كل الاعتبارات، فوق هذه العلاقة، فوق هذه العواطف، فوق هذه الاعتبارات النفسية، واستعد الابن ببذل حياته وروحه من أجل تنفيذ هذا الأمر الإلهي، والأب إلى تنفيذ هذا الفعل، الذي هو أشق ما يمكن أن يكون على أيِّ إنسان؛ لأنه ليس في مواجهة عدو، حتى يكون لديه دافع أو حافز، ولا حتى تجاه إنسان عادي، قد يكون فيه حتى كذلك صعوبة كبيرة جدًّا وبالغة، بل تجاه الابن، وأيّ ابن؟! ابن بهذا المستوى، له هذه المكانة، هو على هذا المستوى الراقي من أخلاقه وكماله وإيمانه، وله هذه العلاقة المميَّزة والراقية مع أبيه، كل الأجواء أجواء مؤثِّرة جدًّا، الأب كذلك من جانبه، والابن من جانبه، كلاهما أسلما لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بأن يكون أمر الله فوق كلِّ الاعتبارات، فوق كل المخاوف، فوق كل الرغبات، فوق كل الحسابات والمصالح الشخصية، وفوق كل أنواع العلاقات، هذا هو محور الدين، محور الإيمان، هو أساس الدين بكله؛ ولـذلك هذه الحادثة بنفسها هي درس لكل الأجيال:
أولاً: يُبَيِّن لنا ما كانا عليه من التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
ثانياً: يقدِّم لنا النموذج في ما لا يصل إنسان إليه أصلاً، يعني: عندما نأتي نحن إلى واقعنا العملي والتطبيقي، فلن نواجه أي حالة كهذه، لنرى أنَّه مهما كان ما وجهناه، وآثرنا فيه التسليم لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، مهما كان في مواجهة رغبات، أو مخاوف، أو علاقات، أو حسابات واعتبارات شخصية، فهو سيكون أدنى من هذا بكثير جدًّا، وبما لا يقارن إطلاقاً.
فعندما قُدِّم لنا نموذج راقٍ جدًّا، في مستوى عالٍ جدًّا، لا يمكن أن يصل إليه أحد، هو في نفس الوقت يجعل أي خطوة عملية مضمونها التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في مواجهة أي حالةٍ نفسيةٍ كانت، أو ظروف، أو تعقيدات في الواقع، تجعل المسألة دون ذلك المستوى بكثير، فالله جعل لنا قدوةً راقيةً جدًّا، ونموذجاً عالياً جدًّا في مستوى ما كان عليه.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، أصبح جاهزاً للتنفيذ، أضجعه، (المُدْيَة): السكين الذي للتنفيذ في يده، وجاهزٌ لأن ينفِّذ، بانتظار ورود الأمر الإلهي للتنفيذ المباشر، فهما عاشا نفسياً وذهنياً كل أجواء التنفيذ، في إطار الاستعداد التام، والعزم التام، ودون أيّ نقصٍ في ذلك، دون أيّ نقصٍ في ذلك، فما بقي إلَّا أن يذبح فقط.
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، في تلك اللحظة الحاسمة: لحظة الاستعداد التَّام للتنفيذ، لحظة والسكين في يده، وجاهزٌ تماماً نفسياً وذهنياً من جهته، ومن جهة ابنه إسماعيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهما متَّجهان للتنفيذ فور ورود الأمر الإلهي، أتى النداء من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بهذا النداء، الذي كان تدخلاً إلهياً لإعفائه، بعد أن نجحا كلاهما في هذا الامتحان الكبير، الذي قدَّم أعلى مستوى من التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والمجيء بذبحٍ عظيم، بفداء، {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
فعفاه الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» من عملية الذبح، وكان ما حدث قد أصبح مصداقاً للرؤيا، فهما عاشا- فعلاً- الحالة النفسية والذهنية، والاستعداد العملي للتنفيذ، ولم يبقَ فقط إلَّا مجرَّد عملية الذبح نفسها، فعاشا الأجواء بكلها، والحالة كما هي، الحالة كما هي في مستوى واقعها النفسي، والشعوري، والوجداني، واتَّجها عملياً على ذلك الأساس، بكل عزمٍ، وبكل قناعة، بكل تسليمٍ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
أتى النداء من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأُعْفِيا من عملية الذبح، وأتى الفداء، وكان ذِبحاً عظيماً، يعني: كبشاً عظيماً، كبش غير عادي، غير عادي، في بعض الروايات أنَّه أتى به جبرائيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وأنَّ جبرائيل حضر المشهد هذا، وكان منبهراً، ومعظِّماً، ومُقَدِّراً جدًّا لهذا المستوى العالي جدًّا من التسليم، في بعض المصادر أن جبرائيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ» وأمام هذه اللحظة العجيبة جدًّا، من تجهيزهما، واستعدادهما، واتِّجاههما لتنفيذ الأمر الإلهي، كبَّر: (اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ)، ومن جانبه إسماعيل «عَلَيْهِ السَّلَامُ» قال كذلك متمماً لهذا التكبير: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ)، وأكمل إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»: (اللهُ أَكْبَرُ، وَلِلهِ الحَمْدُ)، هذا الذي اعتُمد كتكبير في أيام التشريق، وما قبلها: )في يوم عرفة، وفي يوم الأضحى).
هذه اللحظة، وهذه الأجواء، التي عاشا فيها أرقى وأعلى مستوى من التسليم لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، طبعاً عملية الذبح للأبناء لم تأتِ أبداً في شرع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وفي نهجه بهذا الشكل، يعني: قُرباناً إلى الله، لم تأتٍ أبداً في كل شرع الله مع كل أنبيائه ورسله، ولم تأتِ أيضاً حتى ما بعد زمن نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهذه الحالة الحصرية كانت في إطار امتحانٍ إلهي، وليس في إطار تشريعٍ لعملية الذبح للأبناء؛ بل كانت في إطار امتحانٍ خاصٍ لإبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، أمر امتحان، ورؤيا امتحان، لم يأتِ بعد الأمر نفسه بالتنفيذ، لكنهم عاشوا- كما قلنا- كل الأجواء، وعاشوا أرقى مستوى وأعلى مستوى من التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
كان ذلك اليوم العظيم، وهذه الحادثة، التي عاشا فيها كل هذا المستوى العالي، وكل هذه الأجواء العجيبة من التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في يوم الأضحى، في يوم العاشر من شهر ذي الحجة؛ ولـذلك مما يفيده هذا اليوم، من ضمن مناسباته: أنَّهُ يُخَلِّد هذه الذكرى، هذه الذكرى العجيبة، التي قدَّمت درساً لكل البشرية، درساً لكل الأجيال، في التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
ما يأمرنا الله به، ويوجِّهنا إليه، هو عادةً مما هو في مقدورنا، وطاقتنا، بل في وسعنا، و(الوسع) أكبر من مسألة الطاقة يعني، وأوسع، وأفسح، وأيسر من مسألة الطاقة، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
ما الذي يؤثِّر علينا كبشر، تجاه أوامر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وتوجيهاته، فيما يحصل من عصيان، فيما يحصل من تجاوز، فيما يحصل من تفريط؟ عادةً رغبات، أهواء، مخاوف، حسابات شخصية، اعتبارات، مصالح… ومن هذا القبيل.
بل البعض من الناس- كلما ضعف إيمان الإنسان بالله؛ كلما ضعف تسليمه لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في مقابل أوامر الله وتوجيهاته، تأتي اعتبارات نفسية، البعض كما قلنا: رغبات، أهواء، منشؤها قد يكون شهوات؛ منشؤها قد تكون حالة كبر، وغرور، وعجب؛ منشؤها قد تكون حالة غضب، انفعال، استفزاز، منشؤها لدى البعض قد تكون مخاوف، وقلق؛ ولكنَّها تؤثِّر على الكثير من الناس- البعض من الناس مع ضعف إيمانه، وضعف تسليمه لله؛ بالتالي أبسط الأشياء قد يصرفه عن طاعة الله، عن الالتزام بأمر الله.
أمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لدى عباده المؤمنين مُعَظَّم، هم يعرفون ماذا يعني أنه أمر من الله، توجيه من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يعيشون مع الالتزامات والواجبات والمسؤوليات الإيمانية، التي هي بمقتضى أمر الله وتوجيهاته، باهتمام، بحرص كبير، بدافع إيماني كبير، لتنفيذها، والالتزام بها، والطاعة لله فيها.
ولـذلك في التربية الإيمانية، المحور الذي نُرَبِّي أنفسنا عليه، ونُرَبِّي من نُرَبِّي من أبنائنا، من أقاربنا، في مدارسنا، في نشاطنا التثقيفي والتربوي والتوجيهي، هو: التسليم لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في أمره، ونهيه، وتوجيهاته، وتعليماته، والاتِّباع لهداه؛ لأن هذا هو محور الدين، وترسيخ المستوى العالي من التسليم، الذي يتغلَّب على كل هذه العوامل النفسية والشخصية، التي تصدُّ الكثير من الناس، أو تؤثِّر على الكثير منهم؛ فتصرفهم بكل بساطة عن الالتزام بتوجيهات الله؛ فتكثر المعاصي، وتأتي معاصي تجاه مسؤوليات في غاية الأهمية، في غاية الأهمية؛ لأن كل ما يأمرنا الله به، هو مما هو خيرٌ لنا، ونحن بحاجةٍ إليه، وفي مصلحتنا؛ لأن الله غنيٌ عنا، غنيٌ عن العالمين.
نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» بنجاحه في هذا الامتحان ارتقى، وكذلك ابنه إسماعيل، كُلٌّ منهما ارتقى درجات عالية، درجات:
في المرتبة الإيمانيَّة.
في المنزلة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
في- كذلك- ما يكتبه الله لهما في رعايته، في الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.
والإنسان كلما تجاوز امتحاناً معيناً؛ كلما ارتقى في أعماله، وعبادته، وطاعته، وتسليمه لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والتسليم لله هو روح العبادة، روح العبادة وجوهرها وأساسها، حينما يتجاوز الإنسان- كما قلنا- كل الحسابات، والاعتبارات، والعوامل النفسية، مؤْثِراً فوقها بكلها أمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في أيِّ شأنٍ من شؤون هذه الحياة، هذه المسألة مهمة، الإنسان يرتقي إيمانيّاً على هذا الأساس، في المنزلة عند الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، حتى في المزيد من الهداية والتوفيق.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، أتت هذه الرعاية الإلهية، وتأتي الرعاية الإلهية، إذا اتَّجه الإنسان على أساس التسليم لله:
في التوفيق في أن ينجح.
وفي دفع الكثير من المخاطر.
هنا دُفِعَت عنهما مسألة الذبح، مع أنهما اتَّجها بعزمٍ تام، وبكل جِدِّيَّة، لتنفيذ الأمر الإلهي إذا أتى في ذلك، مع ذلك أُعفيا من ذلك، هكذا تأتي رعاية من الله، مع التسليم لله، مع الطاعة لله، مع الانقياد لأمر الله، وفي نفس الوقت يحظيا بالتوفيق للنجاح، حينما اتَّجها هذا الاتِّجاه.
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، تأتي رعاية من الله، فيها سلامةٌ من أشياء كثيرة، تحقيقٌ لنتائج مهمة، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}، فهو بلاء فيما فيه من جانب الاختبار الكبير، والامتحان الكبير لنبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل «عَلَيْهِمَا السَّلَامُ»، وهو أيضاً في شكله الآخر، بما فيه من رعاية عظيمة وعجيبة من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»:
فيما وفَّقهما له من النجاح في هذا الامتحان.
وفيما صرفه عنهما أيضاً في هذا الامتحان.
وفيما تحقق لهما من نتائج بناءً على ذلك.
رعاية كبيرة.
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، وهكذا شُرِعَت الأضاحي، وأصبحت سُنَّةً قائمةً في الحج نفسه، وفي غير الحج بالنسبة لبقية الناس في شرع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وتخليداً لهذه الذكرى المهمة، التي تحمل هذا الدرس الكبير في روح الدين بكله، في جوهر الدين بكله.
{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، يحظى بالمنزلة الكبيرة لدى المجتمعات البشرية، في: توقيره، وتعظيمه، والسَّلام عليه، والنظرة الإيجابية له في موقع القدوة، وفي مقام عالٍ في مقام القدوة والأسوة لدى المجتمعات البشرية، والأجيال من المجتمعات البشرية.
{كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}؛ لأنه كان محسناً، كان يجمع بين درجة (الإيمان، والإحسان)، ودرجات الإحسان هي تشمل:
الاستقامة، والالتزام.
وتجنُّب كل الأعمال السيئة.
والمجيء بالأعمال الحسنة.
وكذلك في الإحسان إلى عباد الله.
ثم في ألَّا يكون الإنسان مسيئاً لا إلى الله، ولا إلى خلقه، في إطار الإساءة والأعمال السيئة.
كذلك فيما يتعلَّق بالإيمان: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}، هنا يبيِّن الله لنا الأساس الذي انطلق منه إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، هو الإيمان، والإيمان هذا أساسه، وهذا جوهره، وهو يرتقي بالإنسان، هو العنوان الجامع، يجمع الأنبياء، والرسل، وكل أولياء الله، وكل عباد الله الذين يستجيبون له في الإطار الإيماني، إطارٌ جامعٌ للجميع؛ إنما الأنبياء في هذا الإطار هم على مستوى أعلى، وفي مقام الأسوة، والقدوة، والهداية لبقية المؤمنين، ولكن الإيمان هو الأساس، وهو المنطلق، وهو الأرضية التي يتَّجه فيها الجميع من عباد الله المؤمنين.
{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}، فهو لم يخسر إسماعيل، ومع ذلك أُضيفت له هذه البشارة: بمولودٍ آخر سيرزقه الله به، وهو: إسحاق، وسيكون أيضاً نبياً من أنبياء الله، ومن الصالحين، في إطار هذا العنوان العظيم والمهم، الذي يركِّز عليه حتى الأنبياء، عنوان (الصالحين).
نكتفي بهذا المقدار.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛