حسن مير.. روحانية الطقوس وفضاء التعبير التشكيلي
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
في مستهل تجربتي التدريسية في جامعة السلطان قابوس، سنحت لي فرصة مميزة للاقتراب من المشهد الفني العُماني، لا سيما عبر المعارض العامة التي تقيمها جمعية الفنون التشكيلية في حي الصاروج آنذاك. هناك، التقيت بالفنان الشاب حسن مير، الحاصل على درجة الماجستير في فن الإعلام من كلية سافانا للفنون والتصميم في ولاية جورجيا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1999.
وبالرغم من أن تلك كانت المرة الأولى التي أطلعت فيها على رؤيته الفنية واستمعْت لأفكاره، إلا أنها لم تكن الأخيرة.
في عام 2003، وبعد فترة وجيزة من ترأُّسي لقسم التربية الفنية في الجامعة، برز شاغر مفاجئ إثر اعتذار إحدى عضوات هيئة التدريس، في تلك اللحظة، تذكّرت شغف الفنان حسن مير وطاقته الإبداعية، فدعوته لسد هذا الفراغ الأكاديمي، تزامن ذلك مع متابعتي لنشاطه في إقامة معرض بعنوان «الدائرة» على قاعة المركز الثقافي في مرتفعات القرم، حيث قدم عملًا بصريا مغايرا عما توقعته، مزج فيه تقنية الفيديو مع تركيب بصري لرجل يغرق في حوض السباحة (البانيو). شكلت الصورة المتحركة للغريق الذي يخترق الماء عنصر دهشة ملفتا، يثري فكرة «الدائرة» ومحورها الفكري كمفهوم يتجاوز الشكل الهندسي، ليغدو رمزًا لاستمرارية الحياة ودورانها، وليطرح أسئلة عن لحظات الفناء والولادة المتجددة. إن إدخال عنصر الماء من خلال تصوير رجل غارق في البانيو يضفي على العمل طاقة بصرية عالية، ويقرب المشاهد من ثيمة الانبعاث واستكشاف الحدود بين الواقع والحلم.
يتميز حسن مير بكونه مصمما ورساما، مهتما بتقنيات الفيديو إلى جانب براعته في اللوحة التشكيلية واستخدام الألوان على قماش الكانفاس. وعلى الرغم من الأهمية التي يحتلها الفيديو في نتاجه الفني، فإن التركيز هنا سينصب على تجربته التشكيلية بوصفها بعدا فنيا وإبداعيا يكتمل في سياقه التصويري.
عند تأمل رسومات حسن مير، نلحظ توالدا لإيحاءات متعددة تتصل باللحظة المعاشة، وتمتزج فيها رموز وخطوط بدائية الطابع، وتبدو شخصياته ملتحمة بالتكوين العام، بحيث يتشكل حوار متكامل بين لغته الشفاهية ولغته البصرية؛ فيكتفي بالكلام حينا ويعززه بالصورة حينا آخر. بهذا تتحقق بنائية اللوحة لديه بتناغم مع رصيده في التصميم، ويتجلى ذلك من خلال أعماله المعروضة على منصاته الفنية.
عند فحص لوحات حسن مير، يتبين أنه يجمع بين مناهج فنية متعددة، كالرمزية والتجريدية، مع ميل واضحٍ إلى التعبيرية. إنه يتعامل مع اللوحة من منظور جمالي وفكري متكامل، فيحطم الأشكال ويطلقها في فضاءٍ زمني ومكاني مفتوح على الميثولوجيا والأحلام والكوابيس، ليفسح المجال أمام الإشارات والرموز كي تتفاعل مع ذهن المتلقي، وهكذا تتحول اللوحة إلى ساحة واسعة للتأمل والتأويل.
لا تخلو أعمال حسن مير من البعد الميثولوجي، إذ يستلهم طقوسا وأساطير مختلفة، يوظفها للتعبير عن التساؤلات الوجودية حيال الحياة والموت والدورات الكونية.
إن تجربة حسن مير تثبت أن التشكيل ليس مجرد أسلوب أو تقنية فحسب، بل هو مشروع فكري ورحلةٌ في استنطاق الرموز والتراث والأساطير، سعيا للإجابة عن هواجس الإنسان الكبرى، يجمع الفنان ببراعة بين جوانب التصميم والفيديو واللوحة، ليوجد لغةً فنيةً متعدّدة المستويات، تمكن المتلقي من خوض حوار مباشر مع العمل الفني وفلسفته.
كذلك، ثمة بعد روحانيّ حاضر بقوة في لوحات حسن مير، يتجلى من خلال استكشافه للطقوس السحرية والأساطير الموروثة من العصور القديمة، التي ترسخت في عمق المجتمع العُماني. لقد فتنني توجهه الفني في لوحاته؛ كما تشير عناوينها: «آدم وحواء والروح البيضاء»، و«أرواح غير مرئية»، و«وجوه غير معروفة»، و«تحت شجرة النخيل»، و«الدوائر الخضراء»، فهو لا يتعاطى مع تلك الطقوس بوصفها فولكلورا محليا وحسب، بل يعدها مفاتيح لسبر أغوار الفكر الإنساني حول الموت والفناء والإيمان، وحين سألته عن سر شغفه بالطاقة الغامضة المتجذرة في الطقوس القديمة، أجاب بأن الأساطير والمعتقدات تغذي تفكيره وتثير تساؤلاته الوجودية، وفي الحقيقة، يكمن جوهر فنه في هذا التأمل العميق والمساءلة المستمرة التي يستخرجها من الإرث الشعبي العريق.
ما يشد المتتبع لأعمال حسن مير هو قدرته على تحويل تلك المعتقدات القديمة إلى رؤى تشكيلية حديثة، مستخدما تقنيات متنوعة تنعكس في بناء اللوحات والأعمال التركيبية (الإنشائية)، إلى جانب التصوير الفوتوغرافي والفيديو آرت.
منذ طفولته، جذبته تلك الطقوس فصار ينهل منها ويتفحص أشكالها التي تنبثق عن أساطير غامضة وصراعات روحية، ما شكل مسار حياة الإنسان قديما ويستمر في التأثير أحيانا على وعيه الحديث. ولعل خصوصية تجربته تكمن في مزجه بين الإرث التراثي والمقاربات المعاصرة، التي تتجلى في استخدام التقنيات الحديثة ووسائل التعبير الجديدة، فصارت أعماله مساحة حرة للتساؤل حول الوجود الإنساني وامتداداته الروحية. إنها تجربة تستحق الإضاءة والمتابعة النقدية لما تحمله من أبعاد ثرية تربط الماضي بالحاضر، والأسطوري بالواقعي، لتشكل سردية فريدة في الحركة التشكيلية العُمانية.
في نظره، يمثل الفن وسيلةً ورؤية لاستكشاف جوهر الحالة البشرية وفهم التضاد الذي يعيشه الإنسان وسط التفاعلات الثقافية والحضارية. ومن هذا المنطلق، يسعى إلى توثيق بعض العناصر والأفكار الرمزية المتقاطعة بين مختلف الثقافات في عالمنا اليوم، لا سيما في ظل التحولات والاضطرابات العميقة التي تشهدها مجتمعاتنا، كما أنه يعنى باستكشاف الخامات والمواد المختلفة المستخدمة في التصوير للتعبير عن القضايا الراهنة، وقد أبدى اهتماما خاصا بالتصوير الضوئي وتقنيات الفيديو، مواظبا على تطوير تجربته في هذا المجال منذ دراسته في الخارج، ولم ينقطع عن ذلك بعد عودته؛ مما أضاف إلى رصيد خبرته العملية والتقنية، وأصبحت هذه التجارب بمنزلة خبرات شخصية متراكمة.
في معظم أعمال حسن مير، تتنوع الخطوط بين الداكنة والفاتحة، والسميكة والرفيعة، والمستقيمة والمنحنية؛ فتوجد فيما بينها مزيجا متداخلًا من المسافات والقرب، مانحة سطح اللوحة حركة راقصة تتنقل بين التوقف والتجول. وتستند هذه التشكيلات إلى خلفيات متماسكة بألوان تتراوح بين الأصفر والبرتقالي، وأحيانا تأخذ طابعا حياديا يميل إلى الرمادي أو الأزرق.
وتظهر في ثنايا هذه الأعمال إشارات ورموز ومساحات وكتل خارجةٌ عن المألوف والمتوقع، تجسد في نهاية المطاف «ثرثرة» تلقائية ورشيقة على سطح الكانفاس. كما أن اعتماد الفنان على أسلوب أفقيّ في نشر الرموز والإشارات والشخوص، يشي بوجود مخزون معرفي ضخم، يحول الزحام إلى سمة طاغية. ويتجلى هذا الازدحام في توظيف العناصر والرموز المتعددة، التي لم يكن بالإمكان توحيدها إلا من خلال معالجة تقنية فائقة؛ إذ يدل ذلك على مهارة جمالية عالية مكنته من الجمع بين عناصر متنوعة ومتباعدة في حوار بصري متناغم.
د. صبيح كلش فنان و أكاديمي مقيم في مسقط
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
لضيوف الرحمن.. أبرز المزايا التي توفرها خدمة "حج بلا حقيبة"
أطلقت مؤسسة البريد السعودي (سبل) -في إطار جهودها المتواصلة للارتقاء بتجربة ضيوف الرحمن- خدمة "حج بلا حقيبة".
وتهدف إلى تخفيف الأعباء عن الحجاج وتمكينهم من أداء مناسكهم بكل راحة وسلاسة، من خلال توفير حلول لوجستية متكاملة تضمن نقل أمتعتهم من مقار سكنهم إلى وجهاتهم النهائية داخل المملكة أو خارجها، دون الحاجة لحملها في أثناء التنقل بين المشاعر.خدمة "حج بلا حقيبة"واستعرضت "سبل" أبرز المزايا التي توفرها خدمة "حج بلا حقيبة" للإسهام في تحسين تجربة ضيوف الرحمن وتقليص الأعباء اللوجستية عليهم.
أخبار متعلقة جازان.. تهيئة 1227 جامعًا ومسجدًا ومصلى مكشوفًا لصلاة عيد الأضحىضيوف برنامج خادم الحرمين الفلسطينيين يشيدون بخدمة المملكة للحجاجومنها: توصيل حقائب الحجاج من أقرب فرع لسبل في مدينته إلى المشاعر المقدسة، وأيضًا إمكانية توصيل حقيبة الحاج من مقر إقامته في المشاعر المقدسة بعد انتهاء الموسم إلى منزل الحاج حسب عنوانه الوطني المختصر.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } لضيوف الرحمن.. أبرز المزايا التي توفرها خدمة "حج بلا حقيبة" تتبع شحنات البريد السعوديويمكن للحاج تتبع الشحنة من خلال تطبيق "سبل" أو موقع "سبل أونلاين".
وتأتي مشاركة "سبل" بصفته مشغلًا وطنيًا في موسم الحج بتقديم خدمات تكاملية ولوجستية باحترافية وجودة عالية تتناسب مع احتياجات قطاع الحج والعمرة.
فضلا عن الالتزام بتحسين تجربة ضيوف الرحمن، عبر تفعيل العديد من الشراكات والتكامل مع القطاع الحكومي والخاص.