لماذا إنشاء محكمة جنايات عربية ضرورة عاجلة؟
تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT
في ظل تعثر المحاكمات وبطء الإجراءات لدى المحكمة الجنائية الدولية، تزداد الحاجة إلى إنشاء محكمة جنايات عربية لتسريع محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، خاصة تلك التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين واللبنانيين والعرب عموما. إن الإفلات المستمر من العقاب على هذه الجرائم، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، يعزز الإحباط ويضعف الثقة في منظومات العدالة الدولية.
إن إنشاء محكمة جنايات عربية يمكن أن يكون أداة إقليمية فعّالة لمعالجة الجرائم الكبرى التي تمس الأمن الإنساني العربي، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والقانونية للمنطقة. هذه المحكمة لن تكون بديلا عن المحكمة الجنائية الدولية، بل مكملة لها، من خلال التركيز على القضايا الإقليمية وتسريع المحاكمات لضمان تحقيق العدالة بشكل أكثر كفاءة. ومع ذلك، فإن هذا المشروع الطموح يواجه تحديات سياسية وقانونية تستدعي تعاونا عربيا مشتركا وإرادة سياسية قوية لتجاوزه وتحقيق العدالة المنشودة.
ومنذ طرح فكرة إنشاء محكمة جنايات عربية لأول مرة عام 2002، ظل هذا المشروع الطموح عالقا في الإطار النظري، على الرغم من أهميته لتعزيز العدالة الجنائية في العالم العربي ومحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية. الفكرة، التي انبثقت عن الاجتماع الرابع عشر لوزراء العدل العرب تحت مظلة جامعة الدول العربية، استهدفت إنشاء نموذج إقليمي مستوحى من المحكمة الجنائية الدولية، لتوحيد الجهود القانونية في محاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك، فإن مسيرة هذا المشروع واجهت العديد من التحديات السياسية والقانونية التي عرقلت تحقيقه على أرض الواقع.
يشكل الصراع العربي- الإسرائيلي والتوجه نحو التطبيع عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنايات عربية، حيث يعمق الانقسامات السياسية بين الدول العربية ويضعف التوافق المطلوب لتحقيق المشروع. تاريخيا، كانت القضية الفلسطينية محورا رئيسيا للعمل العربي المشترك، لكن التطبيع مع إسرائيل أحدث انقساما في الأولويات
محطات بارزة في مسار المشروع
كان عام 2002 نقطة الانطلاق الأولى لفكرة المحكمة، حين جرى طرحها كأداة لتطوير العدالة الجنائية الإقليمية، إلا أن التنفيذ ظل غائبا. وفي عام 2010، أعيد فتح النقاش حول المشروع في إطار مكافحة الإرهاب، لكن الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء حالت دون المضي قدما.
وفي 2014، شهد المشروع تطورا هاما خلال الاجتماع الثلاثين لوزراء العدل العرب في الرياض، حيث تمت مناقشة واعتماد مسودة قانون لإنشاء المحكمة، إلى جانب قانون عربي لمكافحة الإرهاب. ورغم الترحيب بالمبادرة، لم يُكتب لها التنفيذ نتيجة غياب الالتزام السياسي الجماعي. وفي 2015، اقترح ملك البحرين إنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان، وبدأت الجهود لصياغة نظامها الأساسي، إلا أن هذه المبادرة أيضا لم تصل إلى مرحلة التنفيذ بسبب العقبات ذاتها.
العقبات التي تواجه إنشاء المحكمة
إن تعثر إنشاء محكمة جنايات عربية يعود إلى مجموعة من العقبات، أبرزها الخلافات السياسية بين الدول الأعضاء، التي غالبا ما تعيق التوافق على إنشاء هيئة قضائية مشتركة. كما تُثير المحكمة مخاوف لدى بعض الأنظمة السياسية من أن تُستخدم كأداة لمحاكمة قادة أو حكومات، ما يزيد من التحفظات تجاه المشروع.
على الصعيد القانوني، يؤدي تباين الأنظمة القانونية بين الدول العربية إلى صعوبة توحيد إطار قضائي مشترك يدعم المحكمة. بالإضافة إلى ذلك، تسببت الصراعات الإقليمية والأزمات السياسية المستمرة في انشغال الدول بأولويات أخرى مثل الأمن ومكافحة الإرهاب، مما أدى إلى تراجع الاهتمام بالمشروع. يُضاف إلى ذلك ضعف المؤسسات الإقليمية، مثل جامعة الدول العربية، التي تفتقر إلى القوة التنفيذية لدفع هذا النوع من المبادرات إلى الأمام.
هل الصراع العربي- الإسرائيلي والتطبيع: عقبة أمام محكمة جنايات عربية؟
يشكل الصراع العربي- الإسرائيلي والتوجه نحو التطبيع عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنايات عربية، حيث يعمق الانقسامات السياسية بين الدول العربية ويضعف التوافق المطلوب لتحقيق المشروع. تاريخيا، كانت القضية الفلسطينية محورا رئيسيا للعمل العربي المشترك، لكن التطبيع مع إسرائيل أحدث انقساما في الأولويات. الدول المطبعة قد تتحفظ على دعم محكمة قد تُستخدم لمحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها ضد الفلسطينيين، مما يضعف التضامن العربي. في الوقت نفسه، يُخشى من توظيف المحكمة كأداة سياسية ضد الدول المطبعة، ما يزيد من تعقيد الموقف. هذا الواقع يجعل من الصعب بناء مؤسسة قضائية إقليمية تعتمد على تعاون جماعي، إلا أن تجاوز هذه العقبة ممكن من خلال توافق عربي يعيد التركيز على القضايا المشتركة بعيدا عن الانقسامات السياسية.
هل يمكن أن يتعارض اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مع إنشاء محكمة جنائية عربية؟
قد يشكل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية عقبة قانونية أمام إنشاء محكمة جنائية عربية نتيجة لتضارب محتمل في الاختصاص القضائي بينهما. فالمحكمة الجنائية الدولية تختص بمحاكمة الجرائم الكبرى مثل جرائم الحرب جرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية إذا كانت الدول غير قادرة أو غير راغبة في القيام بذلك، وهو ما قد يتداخل مع دور المحكمة العربية إذا تناولت نفس الجرائم. إضافة إلى ذلك، قد يُثار مبدأ ازدواجية المحاكمة (Double Jeopardy) إذا حوكم المتهم على الجريمة ذاتها في كلتا المحكمتين، مما يضعف مصداقية العملية القضائية.
تزداد التعقيدات مع الدول العربية الأطراف في نظام روما الأساسي، حيث تُلزم هذه الدول قانونيا بإحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية عند الاقتضاء، ما قد يتعارض مع الإحالة إلى المحكمة العربية. كما تتمتع المحكمة الدولية بشرعية واسعة ومعايير محاكمة صارمة، قد لا تتمكن المحكمة العربية من مطابقتها في البداية، مما يؤدي إلى إضعاف شرعيتها الدولية والنظر إليها كبديل غير ضروري. علاوة على ذلك، قد تبرز تحديات حول أولويات المحاكمة، إذ تعمل المحكمة الجنائية الدولية بمبدأ التكامل، بينما قد تطالب المحكمة العربية بالاختصاص الإقليمي الكامل.
كل هذه التعقيدات تستدعي تنسيقا دقيقا لضمان تكامل المحكمتين، بحيث تتولى المحكمة الجنائية العربية القضايا ذات الطابع الإقليمي مع مراعاة التزامات الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، ما يضمن تعزيز العدالة بدلا من التنافس بين الهيئات القضائية.
تشكل تحديات حقوق الإنسان في الدول العربية عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنائية عربية، حيث يعوق غياب الالتزام الجاد من الأنظمة السياسية، وخشيتها من المحاسبة على الانتهاكات، تقدم المشروع. ضعف استقلالية القضاء والقوانين المقيدة للحريات يزيد من صعوبة ضمان نزاهة المحكمة، فضلا عن الأزمات الحقوقية المتفاقمة التي تضيف تعقيدات سياسية وقانونية تُثقل كاهل المشروع
من المهم القول هنا: أن محكمة الجنائية الدولية، وعلى الرغم من أهميتها، تواجه انتقادات بسبب بطء المحاكمات وطول إجراءاتها، حيث تلقت منذ تأسيسها أكثر من 9600 شكوى تتعلق بجرائم دولية في 139 دولة، لكنها لم تبادر بالتحقيق إلا في حوالي 30 حالة فقط، وأصدرت 40 مذكرة اعتقال، بينما تم توقيف 21 شخصا فقط. تستغرق القضايا في المحكمة غالبا 7-10 سنوات للوصول إلى حكم نهائي، مما يؤدي إلى تأخير العدالة وتعميق معاناة الضحايا. هذا الواقع يبرز الحاجة إلى إنشاء محكمة جنايات عربية تتسم بالفعالية والسرعة، لمعالجة الجرائم الكبرى التي تمس العالم العربي، وتقديم نموذج إقليمي يسهم في تحقيق العدالة بشكل أكثر كفاءة وارتباطا بالخصوصيات الثقافية والقانونية للمنطقة.
هل تشكل تحديات حقوق الإنسان العربي عقبة أمام محكمة جنائية عربية؟
تشكل تحديات حقوق الإنسان في الدول العربية عقبة كبيرة أمام إنشاء محكمة جنائية عربية، حيث يعوق غياب الالتزام الجاد من الأنظمة السياسية، وخشيتها من المحاسبة على الانتهاكات، تقدم المشروع. ضعف استقلالية القضاء والقوانين المقيدة للحريات يزيد من صعوبة ضمان نزاهة المحكمة، فضلا عن الأزمات الحقوقية المتفاقمة التي تضيف تعقيدات سياسية وقانونية تُثقل كاهل المشروع. للتغلب على هذه العقبات، يتطلب الأمر إصلاحات قانونية وهيكلية شاملة، مع بناء توافق سياسي لضمان أن تكون المحكمة أداة فاعلة لتحقيق العدالة الإقليمية.
ورغم هذه التحديات، فإن إنشاء محكمة جنايات عربية ليس مجرد طموح، بل يمكن أن يتحقق عبر خطوات عملية، مثل تشكيل لجنة قانونية متخصصة، والتنسيق مع المحكمة الجنائية الدولية لضمان التكامل، وتنفيذ إصلاحات تشريعية تعزز حقوق الإنسان. اعتماد نهج مرحلي يبدأ بمحكمة ذات صلاحيات محدودة تُركز على القضايا الإقليمية الكبرى، مثل الجريمة المنظمة، سيُسهم في بناء الثقة وتطوير نموذج قضائي يخدم العدالة الجنائية في المنطقة. تحقيق هذا الحلم يتطلب تعاونا إقليميا ورؤية جماعية ليكون إنجازا عربيا مشتركا يعزز العدالة وسيادة القانون.
إن هذا المشروع الطموح يتطلب إرادة جماعية وإصلاحات هيكلية عميقة، ولكنه يحمل في طياته إمكانية بناء منظومة عدالة أكثر عدلا وسرعة، تعكس خصوصيات المنطقة وتكمل الجهود الدولية. تحقيق هذه الفكرة سيكون خطوة هامة نحو إنهاء الإفلات من العقاب، وترسيخ العدالة كركيزة أساسية لمستقبل عربي أكثر إنصافا واستقرارا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المحكمة عربية الجرائم الإسرائيلي الفلسطينيين إسرائيل فلسطين جرائم محكمة عرب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المحکمة الجنائیة الدولیة محکمة الجنائیة الدولیة السیاسیة بین الدول المحکمة العربیة الدول العربیة تحقیق العدالة حقوق الإنسان هذا المشروع یزید من
إقرأ أيضاً:
لماذا يريد الغرب تعميم نموذجه الفكري والسياسي؟
تعد السيادة داخل أي دولة في عصرنا الراهن فكرة قانونية، معبرة عن الجماعة السياسية المكتملة قانونيًا، وتعكس الكيان المعنوي في ما تقوم به من تصرفات سياسية وإدارية قانونية لصالح المواطنين، ومقتضى هذه السيادة أن سلطة الدولة وسيادتها سلطة أصلية، بمعنى أنها تنبع من ذات الدولة، ولا تستمد أصلها من سلطة أخرى مهما كانت، فالهيئات والأجهزة الأخرى في الداخل، تستمد سلطتها من الدولة التي تملك إنشاء مختلف الهيئات ومنح وتحديد اختصاصاتها، والدولة هي التي تنظم شؤون نفسها لأنها تملك السلطة التأسيسية، أي سلطة وضع الدستور.
ولسيادة الدولة وجهان، داخلي وخارجي. فالسيادة الداخلية، أي في علاقات الدولة بالأفراد والهيئات في الداخل تعني السلطة العليا التي تفرض نفسها على الجميع ولا تنازعها سلطة أخرى. أما السيادة الخارجية، فإنها تعني أن تكون الدولة مستقلة وأن تتعامل على قدم المساواة مع غيرها من الدول. أي أن السيادة الخارجية مرادفة للاستقلال. وعلى ذلك فإن السيادة الخارجية لها معنى سلبي، لأنها تعني مجرد عدم خضوع الدولة لغيرها من الدول، أما السيادة الداخلية فيبدو أن لها معنى إيجابيا، لأنها سلطة آمرة عليا تفرض إرادتها على الجميع. على أن البعض قد ذهب إلى أن للسيادة الداخلية بدورها معنى سلبي لأنها وصف لسلطة عليا دون تحديد لمضمون هذه السلطة. أي أنها لا تبين الاختصاصات التي تملك الدولة مباشرتها في الداخل. وعلى ذلك فإن هذه السيادة ـ في جوهرها ـ إنما تفيد استبعاد أي عقبات يقيمها الأفراد أو الجماعات في سبيل ممارسة الدولة لسلطتها العليا. ولذلك فإن بعض فقهاء القانون الدولي، يرون أن سلطة الدولة بغير سيادة أو بسيادة ناقصة، ويذهبون إلى أن السيادة شيء غير السلطة السياسية، وإنه إذا كانت السلطة السياسية ركنًا من أركان الدولة فإن السيادة ليست كذلك، إذ قد توجد الدولة بغير سيادة ذلك على حين لا توجد دولة بغير سلطة.
وهذا الرأي الأخير يلتقي مع مفاهيم العولمة ومفاهيمها التي من أهدافها الانتقاص من سلطة الدول، بحكم ما تمثله من توجهات وتدخلات، تحت مسميات الحرية الاقتصادية أو الديمقراطية، أو تعميم الانفتاح السياسي الليبرالي من خلال إلغاء الحواجز والأبواب المغلقة، التي تنتهجه الدولة القومية أو الدولة الاشتراكية، التي تدور آنذاك في فلك المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي سابقًا، لذلك فإن سيادة الدول ستتناقص تدريجيًا بدرجات متفاوتة فيما يتعلق بممارسة سيادتها في ضبط عمليات تدفق الأفكار والمعلومات والسلع والأموال والبشر عبر حدودها.
فالثورة الهائلة في مجالات الاتصال والمعلومات والإعلام حدت من أهمية حواجز الحدود والجغرافيا. وإذا كان بمقدور بعض الدول أن تحد في الوقت الراهن وبصورة جزئية من التدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليها من الخارج، فإن هذه القدرة سوف تتراجع إلى حد كبير وقد تنعدم في المستقبل، خاصة في ظل وجود العشرات من الأقمار الصناعية التي تتنافس على الفضاء. كما أن توظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية يحد من قدرة الحكومات عل ضبط هذه الأمور، مما سيكون له تأثيره بالطبع على سياساتها المالية والضريبية وقدرتها على محاربة الجرائم المالية والاقتصادية، وبالإضافة إلى ما سبق فإن القوة الاقتصادية والمالية، التي تمثلها الشركات متعددة الجنسية، خاصة مع اتجاه بعضها نحو الاندماج والتكتل في كيانات أكبر، إنما تسمح لها بممارسة المزيد من الضغط على الحكومات، وبخاصة في العالم الثالث، والتأثير على سياساتها وقراراتها السيادية، وليس بجديد القول إن رأسمال شركة واحدة من الشركات العالمية العملاقة، يفوق إجمالي الدخل القومي لعشر أو خمس عشرة دولة إفريقية مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الكيانات في وضع أقوى من الدول. ومن هذه المنطلقات الجديدة للعولمة أيضًا ستصبح المقدرة السيادية للدول ـ خاصة في العالم الثالث ـ تتغير لمصالح هذه التحولات التي يشهدها العالم في الوقت الراهن.
ويرى الباحث د/ تركي الحمد أن هذا التوجه الجديد في مسألة انحسار سيادة الدول أو الانتقاص من سلطتها هو نوع من الانقلاب الجذري ـ في العلاقات بين الدول، على اعتبار أن هذا التحول الجديد هو تغيير محتمل «في شكل الدولة ونمط الحكم المعتبر شرعيًا»، بحيث يمكن القول إن مثل هذا الانقلاب لا يقل في أهميته المستقبلية، عن ذلك الانقلاب في التاريخ الأوروبي، الذي أدى في النهاية إلى انتهاء عصر وبداية عصر جديد، مع ما يرافق ذلك من بداية ظهور مفاهيم سياسية جديدة، أو مضامين جديدة لمفاهيم قديمة، تصف هذا الانقلاب والتحوّل، وتحاول أن تضعه في إطار نظري سياسي جديد ، كما فعل منظرو تلك الحقبة، فبعيدًا عن مستوى التحليل الآني والجزئي للسياسة، والمواقف السياسية بصفتها فن الممكن، فإن الإفرازات السياسية بعيدة المدى منظور إلى المسألة من زاوية كلية لعصر العولمة وخاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية وانهيار آخر الإمبراطوريات التقليدية الاتحاد السوفييتي».
ويرى البعض أن التدخلات في شؤون الدول إنما هو عبارة نوع من الشعور بالقدر الإنساني المشترك في عصرنا الراهن، ليست القضية هنا تدخل هذه الدولة في الشأن الداخلي لتلك الدولة، بقدر ما هو في ذلك الشعور المتنامي بالمصير المشترك لكل بني الإنسان، نعم إن لمثل هذه العولمة التي تحولت للتغريب المكشوف نتائجها السلبية العديدة على الدولة في العالم الثالث خاصة، وما يثيره ذلك من أسئلة وإشكالات الهوية والمصير الوطني أو القومي أو نحو ذلك.
لكن الكثيرين يختلفون مع الباحث د/ تركي الحمد فيما طرحه في هذه القضية، ويرون أن العولمة يمكن أن تكتسب طابع العمومية والانتشار في كل الأمم والحضارات والدول بحكم إمكانياتها العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية مع احتفاظ هذه الدول والشعوب بسلطتها وتراثها السياسي والاقتصادي مع ضرورة انفتاحها السياسي وإقرارها التعددية وغيرها من المضامين التي لا تختلف حولها الأمم والشعوب الأخرى.
وإذا ضعفت الدول وانتقصت سيادتها مع بروز سلبيات العولمة التي من آثارها تسريح العمالة، وتراجعت الصناعات الوطنية أمام الصناعات العالمية المتقدمة وغيرها من المؤثرات، فإن المشكلات الداخلية ستتفاقم وسيصبح الكلام عن الانفتاح السياسي والديمقراطي والرفاه الاقتصادي مجرد أحلام وردية، وستحل القلاقل بدل الاستقرار والرفاه وغيرها من مقولات أدعياء فكرة الغرب.
فتعميم النموذج الغربي ليس خاليًا من الأيديولوجيا لأنها تقاد من مجموعات لها استراتيجيتها وأفكارها وطموحاتها السياسية والاقتصادية والفكرية، ولذلك فإن التطبيقات ستكون مختلفة، وليست بالصورة الوردية التي يطلقها مؤيدوها بطبيعة الحال تبدو هذه العملية المستحدثة في التاريخ، بأنها تدعم فرضية التقارب بل وترسّخها. والواقع أنها تكشف عن العديد من أنواع التنافر وعدم الاتساق حين تحدد نطاق هذا النظام، فعندما تحثّ على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب تكشف بذلك عن عدم ملاءمة هذه النماذج.
وعندما تحرّض المجتمعات الطرفية على التكيّف، وتوقظ أيضًا آمال التجدد، مع المخاطر، في الوقت ذاته بخداعها وحين تعجّل بتوحيد العالم، فإنها تحبّذ ظهور التفردات وتزيد تأكيدها، وحين تمنح النظام الدولي مركزًا للسلطة، مركّبًا أكثر من أي وقت مضى، فإنها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدة صراعاته، وحين يسعى الغرب فرض نموذجه ويطرح نهاية التاريخ عند هذا النموذج، فهذا يعني بلا شك يجعل هويته وفكره هو الذي يفرض على الثقافات والحضارات الأخرى، لا سيما المجتمعات غير الغربية، أو التي تنتمي ـ عرفًا ـ إلى ما يسمى العالم الثالث، فهذا النظرة الفكرية الفوقية التي يريدها الغرب، تناقض وتعترض على التعددية الفكرية والسياسية، التي هي سمة إنسانية لكل الثقافات البشرية منذ أن وجدت، فمسألة تعميم النموذج الغربي على الأمم الأخرى، لا يمكن يجد القبول والاستجابة، سواء بالترغيب أو الترهيب، وتلك ضمن مسائل مبدئية في الأفكار والنظرات والهويات لا يمكن التخلي عنها.