الحوكمة والشفافية.. حلول جذرية للفساد الإداري
تاريخ النشر: 23rd, February 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
في عالم تسعى فيه المؤسسات لتحقيق الكفاءة والشفافية، كيف يمكننا التغلب على ظاهرة الفساد الإداري التي تهدد أسس التنمية المُستدامة؟ الإجابة تكمن في تطبيق مبادئ الحوكمة المؤسسية بشكل فعّال؛ حيث تُعد الحوكمة الإطار الذي يُعزز النزاهة والمساءلة ويُقلل من مظاهر الفساد.
والفساد الإداري، كما تُعرِّفه منظمة الشفافية الدولية؛ هو إساءة استخدام السُلطة لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة.
وفي ورقة بحثية حديثة نُشرت لنا في فبراير 2025، بمجلة المركز الوطني للدراسات والأبحاث المغربية العلمية المُحْكَمَة، تناولنا "مظاهر الفساد الإداري وآثاره على الحوكمة المؤسسية". نتائج الدراسة أكدت أن الحوكمة ليست مجرد نظريات؛ بل نظام متكامل يُسهم في تعزيز الشفافية وتقليل الفساد بنسبة تصل إلى 50%، وفقًا لدراسات حديثة مثل تقرير البنك الدولي لعام 2022. ومن خلال تعزيز الإفصاح المالي وتفعيل أنظمة رقابية صارمة، تصبح المؤسسات أكثر قدرة على تحقيق أهدافها بكفاءة وفعالية.
والتحديات في هذا السياق ليست غائبة؛ إذ إنَّ الطريق نحو تطبيق الحوكمة مليء بالعوائق، مثل: مقاومة التغيير، وضعف الاستثمار في التكنولوجيا، وغياب التشريعات الملزمة، وهذه بعض من العقبات التي تواجه المؤسسات. لكن كما أظهرت تجربة سنغافورة، فإن التغلب على هذه التحديات ليس أمرًا مُستحيلًا. ومن خلال اعتماد نظم رقابية مبتكرة واستخدام التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي وسلاسل الكتل، نجحت سنغافورة في تقليل الفساد وتحسين الثقة بين الحكومة والمواطنين.
ولا يقتصر تأثير الفساد الإداري على المؤسسات فقط؛ بل يمتد ليشمل المجتمع ككل؛ إذ إنه يُعيق التنمية الاقتصادية ويزيد من تكاليف الخدمات. لذلك، يجب أن تكون الاستراتيجيات لمكافحة الفساد شاملة، تشمل تعزيز الشفافية، بناء ثقافة مؤسسية داعمة للنزاهة، وتطوير برامج تدريبية للقادة والموظفين.
لكن.. لماذا يُعَدُّ القضاء على الفساد الإداري أمر ضروري؟! لأن المؤسسات التي تعتمد الحوكمة ليست فقط أكثر كفاءة؛ بل تُحقق أيضًا مستويات أعلى من الثقة العامة؛ مما يجعلها قادرة على جذب الاستثمارات وتحقيق التنمية المُستدامة.
الورقة البحثية التي استند إليها هذا المقال، ليست مجرد دراسة أكاديمية؛ بل تمثل دعوة للتحرك نحو تعزيز مبادئ الحوكمة. والمؤسسات التي تتبنى الشفافية والمساءلة لن تحقق النجاح وحسب، لكن أيضًا ستصبح نموذجًا يُحتذى به في عالم مليء بالتحديات.
الرسالة واضحة، وهي أن مكافحة الفساد تبدأ من القادة أنفسهم، علاوة على أن تبنِّي الحوكمة لم يعد ضربًا من الرفاهية؛ بل ضرورة لضمان استدامة المؤسسات ونجاحها.
وأخيرًا.. التغيير يبدأ اليوم؛ فالمستقبل يُبنى على أساس النزاهة والشفافية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الإجادة ليست عزفًا منفردًا
عباس المسكري
في عالم الإدارة، لا يُقاس النجاح الحقيقي بعدد الكلمات الرنانة، ولا بشهادات التقدير المُعلّقة على الجدران، بل يُقاس بما يتركه القائد من أثر في من حوله. فالإدارة، في جوهرها، هي فن صناعة الفرق وتشكيل الفارق. وإذا كانت القيادة بلا أتباع ناجحين، فهي أشبه بسفينة شراعية تبحر وحدها في عرض البحر، دون طاقم، ودون وجهة.
من هذا المنطلق، تستوقفنا أحيانًا مفارقات يصعب تبريرها، مثل أن يحصل مدير أو مدير عام على تقييم "ممتاز" في برنامج أداء وقياس مثل "إجادة"، بينما معظم موظفي إدارته يتراوح تقييمهم بين "ضعيف" و"جيد". فهنا يُطرح سؤال جوهري: ما قيمة إجادة المدير إذا لم تنعكس في أداء فريقه؟ وأين هو أثر القيادة إذا لم تظهر نتائجها في تطور وتقدّم من يقودهم؟
إن من أبرز أدوار المدير الناجح ليس فقط إدارة المهام وتحقيق الأرقام، بل بناء الإنسان المهني، وصقل مهارات فريقه، وتحفيزهم للوصول إلى أقصى طاقاتهم. فنجاح القائد الحقيقي لا يُقاس فقط بما ينجزه بيده، بل بما يستطيع أن ينجزه عبر الآخرين، وبما يزرعه فيهم من ثقة وكفاءة وروح عمل.
المدير الذي يكتفي بالتميّز الفردي دون أن ينعكس ذلك على منظومته، ربما ينجح كفرد، لكنه يفشل كقائد. فالقيادة مسؤولية جماعية في جوهرها، لا تقبل بالأنانية، ولا تُبرّر العزلة. وإن تميّز المدير يجب أن يكون مظلة تُظلّل موظفيه، لا سقفًا يعلوهم بلا أثر؛ بل إن أحد مؤشرات القائد الفاعل هو قدرته على تحويل الضعف إلى قوة، وتوجيه الموارد البشرية من حالة الأداء المتواضع إلى التميّز، عبر التوجيه، والمتابعة، والتدريب، والتمكين. أما إذا بقي الموظفون في مواقعهم الراكدة، رغم تميّز من يقودهم، فهنا يجب إعادة النظر في أدوات القياس، وفي مفهوم "الإجادة" ذاته.
كثيرٌ من أدوات التقييم تعتمد على تقارير مكتبية، ومؤشرات جامدة، وأرقام صامتة لا تُعبّر دائمًا عن الواقع. وقد يحصل المدير على تقييم مرتفع لأنه أنجز متطلبات شكلية، أو أتقن كتابة التقارير، بينما تغيب الجوانب الجوهرية، كالروح في فريق العمل، ومعدّلات التحفيز، ومدى شعور الموظف بأنه جزء من نجاح حقيقي، لا مجرّد رقم في جدول. وهنا تتّسع الفجوة بين التقييم الورقي، والتأثير الفعلي على الأرض.
ومن جهة أخرى، لا يمكن فصل القائد عن بيئة العمل التي يصنعها. والمدير الفعّال هو من يخلق بيئة يشعر فيها الموظف بالاحترام، والأمان الوظيفي، والرغبة في التعلّم والتطوّر. بيئة يشعر فيها الموظف أن صوته مسموع، وجهده مُقدّر، وخطأه فرصة للتعلّم لا للّوم. وهذه البيئة لا تُبنى بالأوامر، بل بالمثال الشخصي الذي يُقدّمه القائد، وبالعدل، والتواضع، والإنصاف في المعاملة.
من الضروري – إذن – أن تتحرر أدوات التقييم من نظرتها الضيّقة التي تقتصر على الإنجاز الفردي، لتتبنّى معيار الأثر الجماعي. فالقائد الناجح ليس من يعلو فوق فريقه، بل من يرتقي بهم. وعليه، فإن نجاح المدير لا يُستكمل إلا حين تنعكس تلك "الإجادة" في نضج موظفيه، وتقدّمهم، وتحسّن نتائجهم.
قائدٌ بلا أثر، كمن يسير في صحراء بلا رمال، خطواته لا تُرى، وتأثيره لا يُشعر. وإن بدا متقدمًا في الظاهر، فجوهر القيادة لا يكمن في الحضور الشكلي، ولا في تقييمات صامتة، بل في القدرة على صناعة أثر باقٍ في من حولك، وعلى تمكين الآخرين من الوقوف على أقدامهم بثقة وكفاءة. فالقائد الذي يمرّ دون أن يُغيّر، يُعد راعيًا لا قائدًا، وشاغل منصب لا صانع أثر.
وحين نمنح تقييم "ممتاز" لقائد، علينا أن ننظر خلفه: ماذا حقق فريقه؟ كيف تطور أداؤهم؟ كم موظفًا ألهم؟ كم موهبة اكتشف؟ وكم إنسانًا مكّنه من أن يثق في نفسه ويُحقق فرقًا؟
وأخيرًا... الإجادة ليست وسامًا يُعلّق على صدر المدير، بل مسؤولية تُترجم إلى تغيير، وتطوير، ونموّ في كل فرد يعمل تحت قيادته. وما لم يحدث ذلك، فكل تقييم يظل ناقصًا، مهما بدا لامعًا.