مرت عدة أيام مذ احتفلنا بيوم المعلم، وإذا ما تساءلنا عن معاني الكلمة يجيبنا أحمد مختار عمر صاحب معجم اللغة العربية المعاصر بقوله «مُعلّم: مَن مهنته التّعليم دون المرحلة الجامعيَّة (أما فـي المرحلة الجامعيّة فـيُسمّى مدرِّسًا أو أستاذا)». يمثل هذا التعريف بذرة شاملة لكل عائلة فـي العالم، فالمعلمون الأُوَل فـي كل بيت، هم أمهاتنا وآباؤنا الذين وضعوا اللبنة الأولى فـي حياتنا ورؤيتنا المنطقية للأمور وقياسها، وهذا الأمر ليس مقتصرا على ثقافتنا العربية التي تعلي من شأن العائلة وأهميتها فـي تنشئة النشء وصنع الأساس الأخلاقي والعملي لحياتهم الآتية، إنما هو شأن عالمي مما اتفقت الحضارات والأمم عليه.
تجف الأقلام فـي الكتابة عن الوالدين ومن يقوم مقامهما من الأجداد فـي حضور وغياب الوالدين، وليس من السهولة بمكان الكتابة عن موضوع كهذا، فالأبوان وإن كانا لم يتعلما التعليم النظامي، أو لا يعرفان القراءة والكتابة؛ إلا أنهما يبذلان لأطفالهما عُصارة العصارة من حياتهما وتجاربهما النافعة لهم. وهما يجسدان المعنى الحقيقي للفداء، فلو وصل الأمر بهما لأن يبذلا أرواحهما فداء لأبنائهما، لفعلا ذلك برأس مرفوع وهما يواجهان المصير الذي لا رجعة فـيه.
أتذكر طفولتي المبكرة فـي المزارع والحقول برفقة أبويَّ ومن كان حيا من أجدادي حينها، أتذكر الدروس والعبر التي لم أفهم كثيرا منها إلا حين كبرت ومارست الحياة. فحين نكبر، تتكرر المواقف التي حصلت لآبائنا، وكأن البشرية رغم تطور التقنية والآلية، تصر على تكرار أخطائها فـي حلقة مفرغة يتوصلون فـيها للأسباب التي أدت بهم إلى النتائج المتطابقة مرة تلو أخرى، ليس حين يكون الأمر قابلا للإصلاح؛ بل حين يصيح المرء «سبق السيف العذل» ويكتشف بأنه فـي الصيف ضيع اللبن.
فحين يستيقظ المرء بغتة على الخبر الصاعق بفقدان أحد والديه أو كليهما، يبكي لأنه لم يكن يعلم قيمة ما كان يملك حينها. أتذكر ساباتو فـي كتابه «الممانعة» وهو يحكي قصة جدته، أتذكر العقاد وهو يتحدث عن المرء الذي يتغير فكره وتعامله مع الآخرين فـي كل مرحلة عمرية، وأتذكر أننا نقتبس هؤلاء لا لأنهم عاشوا شيئا استثنائيا لا نستطيع عيشه، بل لأنهم قالوا ويقولون ما نفهمه بفكرنا، وتقصُر ألسنتنا وأقلامنا عن قوله ووصفه وتوصيفه. فأنا أفهم المثل السائر «وراء كل رجل عظيم امرأة» بأنها ليست الزوجة فحسب، بل الأم والجدة والخالة والعمة، كل هؤلاء كانوا ولا يزالون أساتذتنا فـي الحياة. وإذا ما أردنا أن يكون القول فـي هذه المسألة علميا، فلينظر المرء إلى علاقة الإنسان بأبويه ومن رباه بتكوين شخصيته وتصرفاته واعتقاداته إلى أن يموت. وهذا ليس قولي الذي ابتدعته ابتداعا؛ بل هو قول علم النفس والدراسات فـي هذا الحقل التي تؤكده يوما بعد يوم.
التعليم والمعلم ليسا شيئا إحصائيا وأرقاما نشير إليها ونستعرضها كما نستعرض الأسهم فـي سوق البورصة والمال، بل هما شيء لا ينفك عن الروح وتهذيبها وصقلها، شيء يرتبط بالوجدان ويتعلق به مباشرة. ولنتوقف هنيهة لنتذكر طفولتنا المبكرة، هل نتذكر أننا أخذنا الدرس الفلاني أو المعلومة الفلانية فـي الصف الدراسي كذا وكذا؟، أم أننا نتذكر معلمينا بأفعالهم وأقوالهم وصفاتهم التي لا تبدو علمية حين نقيسها بمقياس الربح والخسارة والمضاربة الرقمية والإحصائية؟ فأنا أتذكر جدتي حين اعتذرت عن غضبها وانفعالها عليّ لفعلٍ كان يستدعي الغضب لحماقة الصبي الصغير وقتها، وهناك تعلمت أن الاعتذار لا ينقص من قيمة المرء ولا علاقة له بعمر المرء أيضا، بل هي قيمة سامية ينبغي أن يتحلى بها المرء. ومثلها الكثير من المواقف والأحداث التي لا تقتصر على العائلة فحسب، بل تمتد للمعلمين فـي المدرسة والقرية ومجالس الرجال.
لا يسعنا الحديث عن المعلمين الأوائل دون أن نذكر أبيات الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، ولكأنه اختصر المسألة برمتها وأعجز الشعراء بعده حين قال:
الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها
أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا
بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى
شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
وزير الري المصري: نرفض سياسة إثيوبيا في "فرض الأمر الواقع"
عبّر وزير الري المصري هاني سويلم، الخميس، عن رفض قاطع لسياسة إثيوبيا في "فرض الأمر الواقع من خلال إجراءات أحادية تتعلق بنهر النيل".
وخلال لقاء له مع عدد من السفراء المكلفين برئاسة بعثات دبلوماسية مصرية بالخارج، أوضح سويلم أن "الجانب الإثيوبي دأب على الترويج لاكتمال بناء السد - غير الشرعي والمخالف للقانون الدولي - رغم عدم التوصل إلى اتفاق ملزم مع دولتي المصب، ورغم التحفظات الجوهرية التي أعربت عنها كل من مصر والسودان، وهو ما يعكس نهجا إثيوبيا قائما على فكر يسعى إلى محاولات لفرض الهيمنة المائية بدلا من تبني مبدأ الشراكة والتعاون، وهو الأمر الذي لن تسمح الدولة المصرية بحدوثه".
وشدد سويلم على أن "مصر ترفض بشكل قاطع أي محاولات لأن تكون التنمية في إثيوبيا تأتي على حساب حقوق دولتي المصب".
وأشار سويلم إلى أن "ما يصدر عن الجانب الإثيوبي من دعوات متكررة لاستئناف التفاوض لا يعدو كونه محاولات شكلية تستهدف تحسين الصورة الذهنية لإثيوبيا على الساحة الدولية، وإظهارها بمظهر الطرف الساعي للتفاوض إلا أن الواقع العملي، ومسار التفاوض الممتد لأكثر من ثلاثة عشر عامًا دون التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، يبرهن بوضوح على غياب الإرادة السياسية لدى الجانب الإثيوبي، وافتقار تلك الدعوات للمصداقية والجدية، في ظل غياب أي مؤشر على وجود نية حقيقية لتحويل الأقوال إلى التزامات واضحة وأفعال ملموسة على أرض الواقع".
وأكد أن "المواقف الإثيوبية التي تتسم بالمراوغة والتراجع وتفرض سياسة الأمر الواقع، تُناقض ما تُعلنه من رغبة في التفاوض، وهو ما يستوجب من المجتمع الدولي إدراك حقيقته".
واستعرض سويلم "جهود الدولة في سد الفجوة بين الموارد والاحتياجات المائية، بتنفيذ مشروعات كبرى لمعالجة مياه الصرف الزراعي (الدلتا الجديدة، بحر البقر، المحسمة)، وتطوير نظم الري والإدارة المائية وغيرها من الإجراءات التي تُسهم فى ضمان توفير الاحتياجات المائية لكافة المنتفعين وتحقيق المرونة اللازمة للتعامل مع تحدي تغير المناخ".
وأشار إلى "ما تقدمه مصر للدول الإفريقية من مشروعات في تطهير المجاري المائية، وسدود حصاد مياه الأمطار، وآبار شمسية، ومراكز التنبؤ بالأمطار وقياس نوعية المياه، إلى جانب التدريب والمنح الدراسية من خلال المركز الإفريقي للمياه والتكيف المناخي ومعهد بحوث الهيدروليكا والمنح المقدمة للدراسة بالجامعات المصرية".
وأكد سويلم امتلاك مصر لخبرات متميزة في إدارة المياه، والتي تحرص على مشاركتها مع الدول الإفريقية وخاصة دول حوض النيل والتي تتمتع بوفرة مواردها المائية حيث يصل حجم الأمطار المتساقطة على حوض نهر النيل إلى حوالى 1600 مليار متر مكعب سنويا، ويصل حجم الأمطار المتساقطة على دول حوض النيل - سواء داخل حوض نهر النيل أو غيره من أحواض الأنهار الأخرى بهذه الدول - إلى حوالى 7000 مليار متر مكعب سنويا من المياه بينما تبلغ حصة مصر المائية 55.5 مليار م⊃3; فقط.
وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الخميس، "إنجاز العمل" في مشروع سد النهضة على نهر النيل.
وقال أحمد أمام البرلمان إن "العمل بات الآن منجزا ونحن نستعد لتدشينه رسميا"، مضيفا "إلى جيراننا عند المصب، مصر والسودان، رسالتنا واضحة: سد النهضة لا يشكّل تهديدا بل فرصة مشتركة".