لجريدة عمان:
2025-07-03@07:15:31 GMT

البودكاست وقدرة التغيير

تاريخ النشر: 3rd, March 2025 GMT

تتعدد مصادر المعرفة في العصر الحديث بشكل مستمر ومتطور، فمن الإنترنت بنفسه وصولا إلى الذكاء الاصطناعي، وبتعدد هذه المصادر تتعدد كذلك طرق وصولها للمتلقي، ومن ضمن هذه المصادر البودكاست.

للبودكاست ثورة يُمكن ملاحظتها بسهولة على الإنترنت، إذ إنه أصبح مصدرا مهما للمعرفة، والسبب في حدوث الثورة هذه هو أن المعرفة منه يُمكن تحصيلها أثناء ممارسة أي نشاط يومي اعتيادي، إذ إن الاستماع لحلقة بودكاست لا يتطلب ضرورة البقاء معها في جلسة مع دفتر وقلم، بل يُمكن الاستماع إليه أثناء المشي أو الرياضة أو في السيارة أو غير ذلك، مما أدى بالضرورة إلى أن طول الحلقات لا يشكل عبئًا مضافًا للمستمع أو تقلل من نسبة الاستماع أو المشاهدة، لأن الحلقة يُمكن الاستماع إليها في طريق لمدة ساعتين مثلا، ويمكن التوقف في أي وقت عن الاستماع والعودة في وقت لاحق، ولذلك فإن من أكثر الحلقات استماعا في البودكاست العربي -إن لم تكن أكثرها- حلقة ياسر الحزيمي في بودكاست فنجان وصلت مدتها لثلاث ساعات مع نسبة مشاهدة -في اليوتيوب فقط- وصلت إلى 137 مليون مشاهدة.

هذه الثورة التي يحدثها البودكاست يجعل منه منصة معرفية مهمة، إذ إن كثيرًا من البرامج تناقش قضايا أو شخصيات أو غيرها من المفاهيم المعرفية بصورة مبسطة وسلسة يُمكن من خلالها تحصيل القدر الأكبر من الفائدة، خاصة مع عدم الحاجة فيه إلى الشدة التي تتطلبها ضرورات طلب العلم، لذلك فإن للبودكاست دورًا في انتشار المعرفة المتخصصة بطريقة بسيطة وسهلة، تشبه في ذلك كتب «البوب ساينس» التي تحاول تبسيط المعرفة الفيزيائية مثلا لغير المتخصصين، وهذا ما يُمكن أن يفعله البودكاست، فتجد أن استضافة متخصص في أمر ما ومناقشة قضية معينة بإمكانه أن يخلق أولا معرفة وخلفية عامة عن تلك القضية، وثانيا أن يفتح الباب للبحث فيها والتعمق لمن أراد.

بل يُمكن أن يكون البودكاست مرجعًا أيضا ومؤرخا في نفس الوقت، فأما المرجع فلأن العودة لحلقة البودكاست واستنباط الموضوع منها أو ما يتوفر فيها من إحالات لمراجع تعتبر طريقة أسهل، وأما التأريخ فلأن بعض حلقات البودكاست توثق لشخصيات أو أحداث معينة يُمكن الاستناد عليها في مرحلة قادمة لملء فراغ تاريخي أو تعميق نقطة ما في السياق العام.

وفي هذا السياق، يُمكن أن أذكر بودكاستين عمانيين لهما تأثير ملموس في صنع المعرفة العامة، واعتبارهما أنموذجا لا حصرا، أما الأول فبودكاست «مصعد»، يركز بودكاست مصعد على التاريخ العمانيّ الحديث، وتمتد حلقاته لتصل إلى خمس ساعات في بعض الأحيان، لكن على الرغم من ذلك فإن المستمعين يتفاعلون مع الحلقات باستمرار، بسبب ارتباطها بهم وبتاريخهم، وفي أحيان تتباين وجهات النظر حول ما يُطرح فيه، مما يخلق نقاشًا صحيًّا حول بعض الروايات التاريخية التي بقيت لمدة طويلة دون نقاش أو نقد.

أن تتحرك المياه الراكدة فهو أمر جيد، لكن أن تتحرك من خلال مصدر يصل إلى الجميع بطريقة بسيطة، فهو أمر بحاجة لدراسة والتفات، ومن هنا يُمكنك أن ترى تأثير البودكاست على الوعي والمعرفة وصناعتهما. أما الثاني فبودكاست «قفير»، الذي يختلف محتواه ويتنوع، لكن في غالبه يركز على شخصيات عمانية ومحاولة إظهارها للعلن من خلال نوعين من المحاورة، إما محاورة الشخصية والمسيرة، وإما محاورة موضع الاهتمام، وعلى خلاف المثال الأول، فإن الحلقات هنا لا تزيد عن ساعة في الغالب، ولا تكون في كثير من الأحيان معمقة وإنما تناقش -باستعارة دينية- «ما لا يسع جهله»، وهو أمر جيد، لأنه يفتح خيار أن يعطي المستمع الخلفية المناسبة حول الموضوع ثم يبحث بنفسه فيه ويعمق معرفته، وأيضا يفتح خيار الاستماع لحلقات قصيرة نسبيا. ولذلك تجد المواضيع والشخوص في هذا المثال مختلفون ومتنوعون لكنهم يقعون غالبا في ذات الإطار باعتبارهم عمانيين، لكن بأفكار وشخصيات وآراء مختلفة.

من خلال هذه النماذج، يُمكن القول أيضا إن البودكاست قادر على أن يشكل الرأي العام، من خلال النقاشات التي تتولد مما يطرح في الحلقات وبالتالي فإن الرأي العام قد يتوجه باتجاهات مختلفة من خلال هذه النقاشات، لكنه في ذات الوقت يفتح مساحة للحديث حول المسكوت عنه اجتماعيا أو تاريخيا، وكذلك يعمق من النقاش في مسائل مختلفة، مما يعزز التفكير النقدي والبحث العلمي -وإن كان بمستوى طفيف- في المجتمع، مما يجعل هذه النقاشات بيئة صحية ومحفزة.

هذا أيضا ينطبق على دور البودكاست في زيادة الوعي بالقضايا الملحة، سواء القضايا الاجتماعية أو الفكرية أو السياسية أو غيرها، ولعل الشاهد على مثل ذلك، الحراك (البودكاستيّ) الذي حصل بعد السابع من أكتوبر، فإن منصات البودكاست لم تتوقف عن نشر الحلقات واستضافة الأشخاص المختلفين والحديث حول الأحداث في المنطقة، من جوانب مختلفة، مما عمق عند كثيرين المعرفة بالقضية الفلسطينية وجوانبها المختلفة، فالحلقة التي نشرتها منصة أثير مع المفكر الفلسطيني منير شفيق على سبيل المثال أعطت تاريخا للنضال الفلسطيني وبعض جوانبه المتعددة.

ومن القضايا الملحة -على سبيل المثال أيضا- مسألة التخطيط الحضري وإعادة تشكيل المدينة، وقد نوقش مثل هذا مثالا في حلقة مع علوي المشهور، بعنوان «المدينة والاستدامة في الخليج العربي» في بودكاست داخل الصندوق، وفي هذا السياق أعلن مؤخرًا عن بودكاست عماني جديد، وهو الأنموذج الثالث الذي آخذه في هذا المقال، يتناول قضايا التخطيط الحضري والعمران وما يتعلق بها من مواضيع مثل أنسنة الأحياء وإعادة تشكيل المدن بما يتناسب مع الإنسان لا مع السيارة، وكذلك مسائل العودة للحالة الاجتماعية الأليفة التي كانت تعيشها الحارات القديمة وفُقدت مع التخطيط الحضري العشوائي والممتد إلى مساحات شاسعة كما حدث في المدن العمانية مثل مسقط، وهو بودكاست «حارتنا». من خلال التركيز على هذه القضايا، يحاول بودكاست حارتنا في حلقات قصيرة أن يشكّل الوعي بأهمية معالجة المدينة وأنسنتها وجعلها قابلة للعيش الإنساني. مما يُمكن أن يشكّل في النهاية تقبلا اجتماعيا لقرارات فردية معينة مثل التخلي عن السيارة واستخدام النقل العام عند توفره بشكل يتناسب مع متطلبات الجميع.

يمكن تقييم تجربة البودكاست في عمان عموما، على أنها تجربة نامية وتتطور بشكل سريع، من خلال الأدوات المستخدمة أو المواضيع المطروحة، فتجد تنوّعًا جاذبًا فيها، من العام إلى التخصصي، لكن فيما أرى يُمكن أن تكون هذه التجربة أكثر عمقًا إذا تم التسويق لها بشكل صحيح وأكثر جاذبية لتصل إلى دول الخليج والمنطقة العربية مما يُمكن أن يعود بآراء نقدية سواء إيجابية أو سلبية حول الموضوع أو صناعة البودكاست نفسه مما يعمق الحالة المعرفية ويشكل حالة نقدية يُمكن من خلالها التطور والوصول إلى تجربة أكثر عمقًا.

في الأخير، يُمكن القول إن البودكاست في هذه اللحظة الراهنة يشكّل تأثيرا كبيرا على الوعي والمعرفة، بل يُمكن أن يكون أداة لصناعة القرار من خلال تأثيره على الرأي العام والحالة النقدية التي تظهر بعد صعود حلقات معينة يكون لها حظ المناقشة، وعلى الرغم من أن هذه الحلقات قد تكون طويلة إلا أنها تجد رواجًا كبيرًا بين مستخدمي الإنترنت، لذا فإن هذا التأثير يُمكن استغلاله لتنمية الحالة النقدية المجتمعية والوعي الجمعي، كما يُمكن أن يكون رافدًا ثقافيا ومعرفيًا إذا تم الاهتمام به بشكل يضمن جودة المحتوى وجودة الصناعة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال فی هذا

إقرأ أيضاً:

الشباب الأردني بين طموح التغيير واستغلال النخب: متى يُفتح الطريق الحقيقي أمامهم؟

صراحة نيوز- بقلم: هيثم الزواهره

في كل محطة سياسية يمر بها الأردن، يُعاد الحديث عن الشباب ودورهم في بناء المستقبل، ويُستحضر خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني الذي طالما أكد أن تمكين الشباب هو أساس بناء أردن قوي وممكن سياسياً واقتصادياً. ولكن، وعلى الرغم من هذه الرؤية الملكية المتقدمة، ما زالت بعض “النخب السياسية التقليدية” تسعى للعودة إلى الواجهة من خلال استغلال طاقات الشباب، لا لتمكينهم، بل لاستخدامهم كأدوات تجميلية لإعادة إنتاج ذاتها

الشعارات كثيرة… لكن الفعل غائب؛
تحاول بعض الأحزاب والتيارات السياسية، خاصة قبيل الانتخابات، الزج بالشباب في الواجهة الإعلامية، ورفع شعارات تمكينهم وإشراكهم، إلا أن الواقع يكشف أن هذه المحاولات غالباً ما تكون سطحية. يُقدَّم الشباب على أنهم الواجهة، بينما يبقى القرار بيد نخب تحاول الحفاظ على نفوذها، دون أي رؤية حقيقية للتغيير أو الإصلاح.

لقد تحولت طموحات الشباب إلى سلالم تُستخدم للصعود السياسي، ثم يتم إقصاؤهم أو تهميشهم بعد انتهاء الحاجة إليهم. هذه التجربة المتكررة أفرزت حالة من الإحباط وفقدان الثقة بالعمل الحزبي والسياسي، وأوصلت شريحة واسعة من الشباب إلى قناعة أن قوى الشد العكسي لا تزال متجذّرة وتقف سداً منيعاً أمام أي محاولة جادة للإصلاح.

وعود بلا مضمون وثقة تهتز؛
سنوات من الوعود البالية مرّت دون تحقيق تقدم ملموس. تم الحديث عن فرص، ومناصب، ودورات تأهيل، ولكن الواقع أظهر أن كثيراً من هذه الوعود لم تكن سوى شعارات استهلاكية. وهكذا، أصبح الشباب أكثر تشككاً، وأقل إيماناً بجدوى المشاركة في الحياة الحزبية التي يسيطر عليها من يدّعون أنهم “النخب”، بينما يفتقرون إلى الرؤية والقدرة على التجديد.

دروس الانتخابات الأخيرة: وعي الشارع يتقدم؛
الانتخابات السابقة شكلت ضربة قاسية لهذه النخب. فقد حاول البعض إعادة تدوير أنفسهم وأقرانهم عبر استخدام المال السياسي والعلاقات الضيقة، إلا أن الناخب الأردني كان أكثر وعياً، ورفض أن يُسجل النجاح بأسماء فقدت مصداقيتها. هذه النتائج أثبتت أن الشارع يبحث عن الوجوه القادرة على الإقناع والفعل، لا الوجوه التي اعتادت إطلاق الوعود دون تنفيذ.

الرؤية الملكية… الطريق الحقيقي للإصلاح؛
جلالة الملك عبدالله الثاني لم يتوقف يوماً عن التأكيد على أهمية الشباب، وضرورة إشراكهم في العمل السياسي وبناء المستقبل. إنها دعوة واضحة لتجديد الدماء، وفتح الأبواب أمام الجيل الجديد ليأخذ دوره الطبيعي. لكن التحدي الحقيقي هو في ترجمة هذه الرؤية إلى أفعال، وإزالة العوائق التي تضعها النخب التقليدية أمام كل من يحاول التغيير.
في المحصله؛
لا يمكن للأردن أن يحقق إصلاحاً سياسياً حقيقياً من دون الشباب. إنهم الطاقة الحقيقية، والعقول المتحمسة، والقلوب المؤمنة بوطنها. علينا أن نكسر قيد الصالونات السياسية الضيقة، وأن نفتح المجال للكفاءات، لا لمن يتقنون التلون والوعود. الإصلاح لن يأتي إلا من خلال شباب وُلدوا في زمن التغيير، ويحلمون بوطن يُدار بالكفاءة لا بالمصالح، وبالشفافية لا بالصفقات.
هيثم عبدالرحيم الزواهره
الامين العام المساعد لحزب إرادة

مقالات مشابهة

  • شيف يكشف أبرز العلامات التي تدل على عدم نظافة المطاعم خلال السفر
  • 12 عاما من الانقلاب | لماذا خفت صوت المصريين بالخارج.. هل انتهى حلم التغيير؟
  • بين الاستجابة الإحيائية والانبعاث الحضاري.. مشاتل التغيير (25)
  • بأقوى معالج وقدرة شحن جبارة .. فيفو تطلق هاتف Vivo Y19s
  • «شمس» تضيء فضاء الإبداع عبر غرفة «البودكاست» أمام المواهب
  • سامسونج تستجيب للجمهور: Galaxy Z Fold 7 بدون الكاميرات المنفرة
  • الشباب الأردني بين طموح التغيير واستغلال النخب: متى يُفتح الطريق الحقيقي أمامهم؟
  • مدبولي: التحديات التي تواجه الدول النامية تهدد الاقتصاد العالمي بأسره
  • برامج اجتماعية متنوعة لطلبة شمال الباطنة
  • نساء الزرافات في تايلاند..هكذا وثق مغامر إماراتي واحدة من أغرب عادات القبائل