تَعني "الشرعية الدستورية" تلك الحالة التي تصبح الوثيقة الدستورية خلالها الفيصل بين المواطنين، أفرادا وجماعات، والمرجع الذي لا مرد لقضائه بين الأجهزة بمختلف أنواعها ومراتبها. فالشرعية الدستورية هي أولا وأخيرا إرادة الانتصار للدستور وسلامة تطبيق أحكامه ومقتضياته، بيد أن تحقق "الشرعية الدستورية" بهذا المعنى، يستلزم جملة شروط ومتطلبات، منها ما له صلة بطبيعة الدولة والسلطة والثقافة السياسية الناظمة لهما، وأخرى ذات علاقة بالمجتمع ودرجة وعي أفراده ومكوناته.

لذلك، شكلت المسألة الدستورية في البلاد التي تحقق تكريسها في المجال السياسي رهانا مجتمعيا على قدر كبير من الأهمية الثقافية والاستراتيجية، بل إن تاريخ نضالها من أجل الديمقراطية، ظل تاريخ صراع واختلاف وحوار من أجل التوافق حول الوثيقة الدستورية وآليات صيانة حرمتها على صعيد التطبيق والممارسة.

تعتبر الفكرة الدستورية بالمعنى المتداول اليوم ظاهرة مستحدثة في عموم البلاد العربية، حيث يرجع تاريخها إلى ستينيات القرن التاسع عشر، حيث ظهرت بعض الدساتير (تونس مثلا) في سياق بناء دولة التنظيمات في الولايات العثمانية، وقد أعقبتها أجيال أخرى من الدساتير مستهل القرن العشرين (المغرب)، ما بعد الحربين الأولى والثانية، ليلتحق بها ما تبقى من الدول العربية بموجة الدسترة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وقد دخلت البلاد العربية الألفية الجديدة موحدة في تبني فكرة الدستور، غير أنها استمرت بعيدة عن نظيراتها من الدول الديمقراطية في العالم، من حيث تكريس الشرعية الدستورية، وضمان احترامها على صعيد الممارسة.

تتحول "الشرعية الدستورية" في النهاية إلى صمام أمان من تعسف السلطات وانحرافها، وطغيان الأفراد وشططهم
تشترط "الشرعية الدستورية"، بالتحديد المشار إليه أعلاه، توافر سلسلة من المقومات والمبادئ والآليات. فمن جهة، تتحقق الشرعية الدستورية حين تكون الوثيقة الدستورية ذاتها نابعة من توافق المواطنين وإرادة تعبيراتهم السياسية والاجتماعية، ما يعني أن صياغة دستور ديمقراطي شرط لازم لتأكيد شرعية أحكامه على مستوى التطبيق. فحين يتم تغييب المجتمع عن عملية وضع الدستور، أو إشراكه بشكل رمزي أو صوري ومحدود، تضعف حظوظ تحقق الشرعية الدستورية، وتتعذر شروط تكريسها. وقد أثبتت تجارب مجمل البلاد العربية صحة هذا المعطى في واقع ممارسة النظم السياسية وطرق معالجتها للشأن العام، وتبدو الحاجة ماسة إلى إيلاء أهمية خاصة لمفهوم التعاقد في إعادة تأسيس الفكرة الدستورية في المجال السياسي العربي.

ويقتضي تحقق الشرعية الدستورية، من جهة ثانية، علاوة على مطلب الدستور الديمقراطي، وجود مؤسسات لضمان عُلوية الدستور وسموه، وفرض احترام تطبيق أحكامه من قبل الأفراد والجماعات والهيئات الإدارية والقضائية، وهو ما يستلزم وجود فصل واضح وسليم ومتكافئ للسلطات، وقضاء مستقل ونزيه وعادل، وثقافة مدنية وسياسية حاضنة لمثل هذه المفاهيم والمقومات الناظمة لمؤسسات الدولة من جهة، ولعلاقة هذه الأخيرة بالمجتمع وتعبيراته من جهة ثانية.

فهكذا، تتحول "الشرعية الدستورية" في النهاية إلى صمام أمان من تعسف السلطات وانحرافها، وطغيان الأفراد وشططهم. ومن الجدير بالملاحظة أن الدول التي ترسخت الشرعية الدستورية في مجالها السياسي العام، قطعت مراحل مهمة في تحويل الديمقراطية من مجرد مفهوم أو شعار إلى قيمة مشتركة على صعيد الدولة والمجتمع، وتقدم التجارب الدستورية المعاصرة نماذج عن هذا التحول في إدراك الشأن العام ولاجتهاد في تدبيره ديمقراطيا.

هكذا، عاش الفرنسيون، على سبيل المثال، قرابة قرن من الصراع (1789-1879) ليجترحوا لأنفسهم منظومة من القيم الدستورية، ويتوافقوا حولها من أجل بناء إطار محدد وواضح لإذكاء روح ثورتهم وإعمال مبادئها على صعيد الممارسة، فكان الاهتداء إلى النظام الجمهوري، فلسفة وقيما وقواعد، بعدما جربوا أصنافا من النظم، تراوحت بين الملكيات والإمبراطوريات والجمهوريات ونظام القناصل، والأمر نفسه ينسحب على "أم البرلمانية الديمقراطية" بريطانيا. وقدمت إسبانيا خلال الربع الأخير من القرن العشرين، تكريس الشرعية الدستورية وانغراسها في المجال السياسي العربي رهينان بمدى قدرة البلاد العربية على تحويل "دولة الثقب الأسود"، كما نعتها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004، إلى دولة العيش المشترك، المؤسس على قيم المواطنة الكاملة، والحوار والتوافق حول أساسيات سياسة وتدبير الشأن العام، وآليات احترامها على صعيد التطبيق والممارسةمثالا حديثا عن قدرة الدول والشعوب على البناء الديمقراطي حين تتوافر شروطه ومستلزماته، غير أن الخيط الناظم لهذه الأمثلة الثلاثة، على تباعدها في الزمن، يكمن في توافق الدولة والمجتمع على وثيقة الدستور، والالتزام الجماعي برعاية سلامة أحكامها ومقتضياتها.

تُقدم البلاد العربية، وإن بدرجات مختلفة، حالة مغايرة عن واقع "الشرعية الدستورية" في التجارب السياسية المشار إليها أعلاه، بل إن وضع المسألة الدستورية في مراتب الدستورانيات المعاصرة، أي حركات تقييد السلطة بالدستور، لا يبعث على الارتياح في مجمل النظم السياسية العربية، لاعتبارات تاريخية وثقافية خاصة بالموروث العربي المشترك في مجال تدبير الشأن العام، ولأسباب موضوعية ذات صلة بالأطر القانونية والحقوقية والمؤسسية الحاكمة لعلاقة الدولة بالمجتمع.

إن تكريس الشرعية الدستورية وانغراسها في المجال السياسي العربي رهينان بمدى قدرة البلاد العربية على تحويل "دولة الثقب الأسود"، كما نعتها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004، إلى دولة العيش المشترك، المؤسس على قيم المواطنة الكاملة، والحوار والتوافق حول أساسيات سياسة وتدبير الشأن العام، وآليات احترامها على صعيد التطبيق والممارسة. فمن المفارقات اللافتة التحاق كل الدول العربية بركب حركات الدسترة (Constitutionnalisation) في العالم، حتى التي تأخرت، لسبب أو لآخر، في الأخذ بفكرة الدستور، غير أن قليلا منها من تمكن من خلق شروط التوافق حول الوثيقة الدستورية، والتزم بجعبها فيصلا بين الجميع، دولة ومجتمعا، أي تحويل الدستور وسموه إلى قيمة سياسية ومجتمعية مشتركة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشرعية الدستورية الدولة العربية القانونية قانون دستور عرب شرعية الدولة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الوثیقة الدستوریة البلاد العربیة الدستوریة فی الشأن العام على صعید من جهة

إقرأ أيضاً:

انطلاق أعمال الاجتماع الطارئ للجامعة العربية بطلب من فلسطين

انطلقت، اليوم الأحد، أعمال مجلس الجامعة العربية في دورته غير العادية على مستوى المندوبين الدائمين، برئاسة الأردن، رئيس الدورة الحالية لمجلس الجامعة، بناءً على طلب دولة فلسطين وتأييد الدول الأعضاء، وبحضور الأمين العام المساعد لشؤون فلسطين والأراضي العربية المحتلة السفير سعيد أبو علي.

وترأس وفد دولة فلسطين مندوبها لدى الجامعة العربية السفير مهند العكلوك، والمستشار الأول رزق الزعانين، والمستشار الأول تامر الطيب، والمستشار الأول جمانة الغول، والسكرتير الأول ريهام البرغوثي.

بدوره، قال العكلوك في تصريح له قبيل بدء أعمال الاجتماع الطارئ، إن دولة فلسطين طلبت عقد هذا الاجتماع اليوم لبحث خطورة الأوضاع في قطاع غزة ، خاصة في ظل القرار الإسرائيلي بإعادة احتلاله والسيطرة عليه بالكامل، وما سينتج عنه من تهجير قسري للشعب الفلسطيني، ومزيد من المجازر الدموية البشعة والتي تمارس في إطار جريمة الإبادة الجماعية وفرض مزيد من التجويع، واستمرار تدمير مخيمات اللاجئين والتوسع الاستعماري وهدم المنازل والبنية التحتية وإرهاب المستعمرين في الضفة الغربية المحتلة، بالإضافة إلى تصاعد اقتحامات المسجد الأقصى المبارك.

وأكد مندوب فلسطين، أن المجلس سيبحث أيضا آليات الحراك على المستويين العربي والدولي والتصدي للجرائم الإسرائيلية ومنع استمرارها وملاحقة مرتكبيها أمام آليات العدالة الدولية، مشددا على أنه لا بد أن يصدر عن الاجتماع قرار عربي بالتحرك الفعال على المستويين العربي والدولي للتصدي لهذه الجرائم الإسرائيلية ومنع استمرارها، فقطاع غزة جزء لا يتجزأ من أرض دولة فلسطين تماما ك القدس والضفة الغربية، ودونه لن تكون هناك دولة فلسطينية.

المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من آخر أخبار فلسطين بن غفير يطالب نتنياهو بخطوات فورية لإسقاط السلطة الفلسطينية ألبانيز تدعو الاتحاد الأوروبي لكرة القدم إلى طرد إسرائيل من مسابقاته مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى الأكثر قراءة محدث: تحذير فلسطيني واسع من خطورة اقتحام بن غفير وآلاف المستوطنين للأقصى غزة: الاحتلال يمنع دخول 22 ألف شاحنة مساعدات متكدسة على معابر القطاع باكستان: الاحتلال يجوع غزة ونطالب بتدخل دولي لوقف العدوان إدانات عربية شديدة لاقتحام بن غفير المسجد الأقصى عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • برلمانية: القرار العربي الرافض لاحتلال غزةجاء ليعبر عن الموقف الموحد للدول العربية
  • الجامعة العربية تدين خطة احتلال غزة وتدعو لوقف الإبادة والتجويع
  • انطلاق أعمال الاجتماع الطارئ للجامعة العربية بطلب من فلسطين
  • الميثاق لا يلغي الدستور بل يستكمل به
  • قطر تشارك في المؤتمر الإقليمي العربي الرابع والعشرين للمرشدات بالجزائر
  • صندوق النقد العربي يتوقع تراجع التضخم في مصر لنسبة 11.9%
  • «صندوق النقد العربي» يتوقع نمو الاقتصاد في مصر بنسبة 4.7% العام المقبل
  • نقابة المحامين: مؤتمر “قسد” خروج صارخ عن الشرعية الدستورية ومخالفة جسيمة للقوانين السورية
  • تحت شعار “وتبقى العربية”.. انطلاق فعاليات معرض إسطنبول الدولي العاشر للكتاب العربي
  • «تكريس للاحتلال غير الشرعي».. اللجنة المكلفة ترفض إعلان إسرائيل فرض السيطرة على غزة