وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر.. قواعد نبويّة للتّقييم السّياسيّ والاجتماعيّ
تاريخ النشر: 5th, March 2025 GMT
مواقف السيرة النبويّة منهاج حياة كاملة يتوجب على المسلم أن يتفاعل معها تنزيلا وتطبيقا في عوالم السياسية والاجتماع وفي التعامل السياسيّ والأخلاقي والاجتماعي، وهي تفيد في تفكيك المواقف المتشابكة والمشاهد المعقدة والحكم عليها تفصيلا بعيدا عن الإجمال المُخلّ. ومن بديع ما قاله ابن القيم في التعبير عن هذا المعنى في كتابه "مفتاح دار السّعادة": "فلو أعطيت النّصوص حقّها لارتفع أكثر النّزاع من العالم، ولكن خفيت النّصوص وفُهم منها خلاف مرادها -وانضاف إلى ذلك تسليط الآراء عليها واتباع ما تقضي به- فتضاعف البلاء، وعظم الجهل، واشتدّت المحنة وتفاقم الخطب، وسبب ذلك كله الجهل بما جاء به الرسول وبالمراد منه".
ومن هذه المواقف التي تمثل منارة يستنير بها المرء في عالم تقييم المواقف السياسيّة والاجتماعيّة للأفراد والجماعات؛ موقف حاطب بن أبي بلتعة الذي وقع بين يدي فتح مكة في رمضان من العام الثامن للهجرة، إذ تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للفتح وكان حريصا على أن لا تبلغ الأخبار قريشا حتى لا يتجهزوا فلا تراق الدماء، فدعا ربّه: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة". غير أنّ موقفا مفاجئا حدث من الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، وهو صحابي شهد بدرا والحديبية؛ إذ كتب إلى قريش كتابا يخبرهم فيه بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وتحركاته باتجاههم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها مبلغا من المال مقابل أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها بين شعرها، ثم خرجت به، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والمقداد رضي الله عنهما، فقال: "انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة -أي امرأة- معها كتاب إلى قريش".
على الرّغم من أنّ ما فعله حاطب ثابت بالدليل اليقيني القطعي؛ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي حاطبا فرصته ليبيّن ويوضّح، سامعا منه مباشرة. وهذا منهج نبوي عظيم في التعامل مع الأفراد والجماعات في المواقف السياسيّة والاجتماعيّة أو غيرها قبل إطلاق الأحكام والتقييمات، فإن رأيت من أحدٍ ما أو جماعة فاعلة موقفا لم ترتضيه فالأصل أن تسمع منهم لا أن تسمع عنهم
فانطلقا مسرعين حتى ألفيا المرأة فأمرها عليّ رضي الله عنه أن تُخرج الكتاب فقالت: ما معي كتاب، ففتّشا رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: "أحلف بالله، ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، والله لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنّك"، فلما رأت الجدّ منه، قالت: أعرض، فحلّت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: "من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش" يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا، فقال: ما هذا يا حاطب؟! ما حملكَ يا حاطبُ على ما صنعت؟! فقال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، والله إنّي لمؤمنٌ بالله ورسوله، وما ارتددت ولا بدّلت، ولكني كنت امرأ مُلصقَا في قريش، لست من أنفُسِهم، ولي فيهم أهلٌ وعشيرةٌ وولد، وليس لي فيهم قرابةٌ يحمونهم، وكان مَن معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أما إنّه قد صدقكم".
فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فإنّه قد خان الله ورسوله، وقد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
وهذا المشهد من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفيض بالدروس والحِكم؛ ولعلي أقتصر مختصرا على قاعدتين تتعلقان بالتّقييم السّياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات:
القاعدة الأولى: لقد وقع من حاطب بن أبي بلتعة ما يوصف بالخيانة العظمى وكان ثابتا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالوحي الإلهي، وعند عامة المسلمين بالدليل المادي وهو الرسالة التي كانت مع المرأة، ومع ذلك فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا حاطبا وسأله: "ما هذا يا حاطب؟! ما حملكَ يا حاطبُ على ما صنعت؟!"؛ فعلى الرّغم من أنّ ما فعله حاطب ثابت بالدليل اليقيني القطعي؛ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي حاطبا فرصته ليبيّن ويوضّح، سامعا منه مباشرة. وهذا منهج نبوي عظيم في التعامل مع الأفراد والجماعات في المواقف السياسيّة والاجتماعيّة أو غيرها قبل إطلاق الأحكام والتقييمات، فإن رأيت من أحدٍ ما أو جماعة فاعلة موقفا لم ترتضيه فالأصل أن تسمع منهم لا أن تسمع عنهم، وأن يكون نبراسك في ذلك فعل النبيّ صلى الله عليه وسلّم مع حاطب فتسألهم هم لا غيرهم: ما حملكم على ما فعلتم وصنعتم؟!
رسالةٌ بالغة الأهميّة في تقييم مواقف الأفراد والجماعات التي لها مواقف مشرفة ونبيلة ووقع منها زلل أو خطأ في العمل أو المواقف؛ فإنّه يُغتفر لأصحاب المواقف المشرّفة والبذل والتضحية والفداء والعطاء ما لا يغتفر لغيرهم، وإنّ مواقف الأفراد والجماعات النبيلة وتضحياتهم ينبغي أن تكون سببا في غض الطرف عن بعض ما يرتكبون من زلل، وإنّ أخطاء الأفراد والجماعات الذين شهدت لهم مواقفهم بالفعل العظيم والتضحية والعطاء تغرق في بحار فضائلهم
القاعدة الثانية: في الحديث رسالةٌ بالغة الأهميّة في تقييم مواقف الأفراد والجماعات التي لها مواقف مشرفة ونبيلة ووقع منها زلل أو خطأ في العمل أو المواقف؛ فإنّه يُغتفر لأصحاب المواقف المشرّفة والبذل والتضحية والفداء والعطاء ما لا يغتفر لغيرهم، وإنّ مواقف الأفراد والجماعات النبيلة وتضحياتهم ينبغي أن تكون سببا في غض الطرف عن بعض ما يرتكبون من زلل، وإنّ أخطاء الأفراد والجماعات الذين شهدت لهم مواقفهم بالفعل العظيم والتضحية والعطاء تغرق في بحار فضائلهم، وإن تضخيم أخطائهم بطريقة تهدم فضائلهم حياد عن المنهج النبوي فضلا عن كونه يتنافى والمروءة في الموقف والواقعيّة في التقييم.
وفي ذلك يقول ابن القيم في "مفتاح دار السّعادة": "من قواعد الشرع والحكمة أيضا؛ أنّ من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر؛ فإنه يُحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خَبث، والماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من حسّ عليه وعلى المسلمين -يعني: تجسس، ونقل أخباره إلى الأعداء- وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بدرا، فدلّ على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتّب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السّقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات. وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم: أن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ
جاءت محاسنه بألف شفيعِ
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
فأفعاله اللّاتي سررن كثير"
ولك أن تتخيّل لو أنّنا أعملنا هاتين القاعدتين في تقييماتنا السياسيّة أو الاجتماعيّة للأفراد والجماعات فكم من الإنصاف سنرى، وكم من إحسان الظنّ سنجد، وكم من المعارك الهجوميّة ستتلاشى، وكم من الألسنة المغرضة ستلجم ولن تجد لها آذانا صاغية أو ألسنة تعيد تكرار اللغو والباطل!
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه فتح مكة النبي الهجرة دروس النبي فتح مكة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رسول الله صلى الله علیه وسل م رسول الله صلى الله علیه وسلم له صلى الله علیه وسلم السیاسی ة أن تسمع
إقرأ أيضاً:
هل الأفضل تأخير صلاة العشاء عن وقتها؟.. الإفتاء ترد
أسئلة كثيرة تدور حول تأخير صلاة العشاء، وهل الأفضل تأديتها في وقتها أم تأخيرها حتى منتصف الليل خاصة أنه وردت أحاديث في السنة النبوية، وفي السطور التالية نتعرف على حكم تأخير صلاة العشاء عن وقتها.
حكم تأخير صلاة العشاءاستدل بعض الفقهاء على تأخيرُ صلاةِ العشاء وأنها أفضلُ إذا لم يَشقَّ على الناسِ ببعض أحاديث السنة النبوية، وهو مذهبُ الحنفيَّة، والحنابلة، وقول لمالكٍ، وقولٌ للشافعيِّ، وبه قال أكثرُ أهلِ العِلم، واختارَه ابنُ حَزمٍ، والشوكانيُّ.
واستشهدوا بما جاء عن سَيَّارِ بنِ سَلامةَ، قال: دخلتُ أنا وأَبي على أَبي بَرْزةَ الأسلميِّ، فقال له أَبي: كيفَ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي المكتوبةَ؟ فقال: «... وكان يَستحبُّ أنْ يُؤخِّرَ العِشاءَ، التي تَدْعونَها العَتَمةَ، وكان يَكرَهُ النَّومَ قَبلَها، والحديثَ بَعدَها...» وعن جابرِ بنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: «كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُؤخِّرُ صلاةَ العِشاءِ الآخِرةِ».
هل الأفضل تأخير صلاة العشاء؟من جانبها أكدت دار الإفتاء المصرية أنه من الوارد في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أفضلية تأخير العشاء عن أول الوقت إلى ثلث الليل أو نصفه، ومن هذه الأحاديث ما رواه الترمذي عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلأخَّرْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» قال الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح] اهـ، وما رواه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا العِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ»، قال الترمذي: [حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح] اهـ.
وذكرت دار الإفتاء آراء عدد من الفقهاء ومنهم:
قال الإمام النووي في "المجموع" (3/ 59-60، ط. المنيرية) بعد أن ذكر جملة من الأحاديث في فضيلة التأخير: [فهذه أحاديث صحاح في فضيلة التأخير، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وآخرين، وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء من الصحابة والتابعين، ونقله ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عباس والشافعي وأبي حنيفة.. وهو أقوى دليلًا؛ للأحاديث السابقة] اهـ. وهذا يكون لمَن يعلم من نفسه أنه إذا أخّرها لا يغلبه نوم ولا كسل، وإلا فيجب عليه تعجيلها، وأداؤها في أول الوقت.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 48، ط. دار المعرفة): [من وجد به قوة على تأخيرها -أي: العشاء-، ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين، فالتأخير في حقه أفضل، وقد قرر النووي ذلك في "شرح مسلم"، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم] اهـ.
شوقي علام: الأفضلية تأخير صلاة العشاء عن أول الوقتوفي هذا السياق، كان الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية السابق، أكد أن الوارد في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أفضلية تأخير العشاء عن أول الوقت إلى ثلث الليل أو نصفه.
وأفاد «علام»، في إجابته عن سؤال: «ما حكم تأخير صلاة العشاء وأدائها في جماعة؟»، بأن من هذه الأحاديث ما رواه الترمذي عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلأخَّرْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» قال الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح] اهـ، وما رواه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا العِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ»، قال الترمذي: [حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح].
وأوضح مفتي الجمهورية السابق أن أفضلية تأخير العشاء عن أول الوقت إلى ثلث الليل أو نصفه تثبت في حق النساء مطلقًا، وكذلك في حق من لا يحضرون الجماعة لعذرٍ شرعي، وأما غيرهم من الرجال فتثبت الأفضلية للتأخير في حقهم إذا كانوا جماعةً في مكانٍ وليس حولهم مسجد.
وتابع: «أما إن كان هناك مسجدٌ جامعٌ فتركوا الجماعة فيه لأجل تأخيرها مع جماعةٍ أخرى في غيرِ مسجدٍ فلا أفضلية للتأخير، وكذلك إن كان التأخير بالمسجد ولكنه يشق على المأمومين فلا أفضلية له».