ووفقا لما قالته عزت -خلال حلقة 2025/3/5 من بودكاست نظر– فإن الدولة بمفهومها القديم لم تعد موجودة كما كانت قبل عقود بسبب وجود الاقتصاد العابر لها الذي تمارسه الشركات المتعددة الجنسيات.

ولم يعد مفهوم الدولة القومية موجودا بالشكل المتعارف عليه تقليديا في العلوم السياسية بسبب التحول الكبير لعمل الشركات المتعددة الجنسيات التي تدير اقتصادا عالميا عابرا للدول، كما تقول عزت.

ومن خلال هذه التحولات، ظلت الدولة محتفظة بوجهها القوي الظاهر لكنها فقدت العديد من مقوماتها التي لم تعد قائمة عمليا في مواجهة التغيرات التي طرأت على الاقتصاد والتكنولوجيا وحتى التدخل العسكري لدول كبرى في قضايا إقليمية هي ليست طرفا فيها.

تداخل المرتزقة مع الدولة

وعلى سبيل المثال، فإن المجموعات المسلحة الخاصة (المرتزقة) أصبحت تعمل عمل الدولة في كثير من الأزمات والمناطق أو داخل الدولة نفسها بشكل غير مفهوم -برأي عزت- كما أن الحدود أصبحت بينها وبين الدولة غير واضحة.

وحتى إعادة بناء المدن بطريقة معينة أضحت ظاهرة تعزز الفوارق الطبقية التي تتأصل بسبب تقدم دول وجماعات إلى الأمام وتراجع دول ومجموعات أخرى إلى الوراء، وفق المفكرة السياسية التي ترى أن ثمة فصلا عنصريا مكانيا في الدولة.

إعلان

ويتمثل هذا الفصل -برأي عزت- بأن "الفقراء أصبحوا يعيشون في مكان والأغنياء في مكان آخر، بينما كانوا يعيشون في حيز واحد على مرّ مراحل تاريخية سابقة مع وجود سادة وعبيد".

وقد تحدث بعض المفكرين -كما تقول المفكرة السياسية- عن وقت ستصبح فيه مجموعات من الناس عبارة عن مجموعات عديمة الفائدة يجب التخلص منها بالحروب والأوبئة كما قال يوفال هاراري "لأنهم أصبحوا عبئا على الاقتصادات العابرة".

تداعيات الثورات

ورغم فشل الثورات في تحقيق أهدافها الكبرى، فإنها أحدثت تغييرات كبيرة داخل المجتمعات، وفي مقدمتها الدور الذي تلعبه الجيوش في اقتصاد الدولة بطريقة لا يمكن الإمساك بحدودها أو شكلها، وفق تعبير عزت.

لذلك، ترى المتحدثة أن الوضع الذي تعيشه الدولة "يجعل من الصعب جدا معرفة ما الذي ستصل إليه بعد فترة محددة في ظل تعزيز السلطوية والاستبداد السياسي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي وتشديد القيود والرقابة".

ويمكن ملاحظة هذه التعقيدات غير المفهومة -برأي عزت- في العلاقات المتناقضة بين الدول التي تخوض خلافات سياسية طاحنة لكنها في الوقت نفسه توقع اتفاقات اقتصادية وتجري تدريبات عسكرية مشتركة.

وترى عزت أنه من الضروري جدا معرفة أن العلم "يتخلّف عن الواقع بعقود لأن الظواهر السياسية والاجتماعية تظهر وتتطور بينما النظرة العلمية لها تكون ثابتة في نقطة البدايات ولا تجاري هذا التطور إلا بعد تجلّيه في شكل نتائج على الأرض".

ومع ذلك، فإن السياسة لم تمت حتى الآن رغم محاولات فتلها -كما تقول عزت- لكنها انسحبت خصوصا في ظل رفض الحكومات أي حديث عن الحرية أو الحقوق بسبب الحروب الاقتصادية والعسكرية التي لا تتوقف.

ومن هذا المنطلق، فإن الانسحاب من عالم السياسة ليس مطلوبا -كما تقول عزت- لكن المطلوب هو "أن تعمل التيارات السياسية المختلفة على إعادة التموضع الفكري ونقد التجربة ومعالجة نقص البحث الأكاديمي للظواهر السياسية".

إعلان 5/3/2025

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان کما تقول

إقرأ أيضاً:

الكـونية العـنـصريـة

أكثـرُ أوهام كونيّـةِ القيـم فُـشُـوًّا ورواجـًا، في عالـم اليـوم، وهْـمُ «كونيّـة الحقوق» واستوائِـها على نظامٍ من المبادئ والقواعد واحـدٍ وجامع في العالم كلِّـه. عهـدُ البشريّـة بهذا الوهـم ليس جـديدًا؛ فـلقد شهدت على أمثـلةٍ لـه منذ نهايات عـقـد الأربعينيّـات من القرن العشرين كان أظهرها جميعًا صدور «الإعـلان العالميّ لحقوق الإنسان»؛ لكنّـه الوهم الذي ما فتئ يتزايد كثـافةً وسعةً مع توالي الزّمـن وصولًا إلى لحظـة انعطافـه الكبرى مع ميلاد العولمة وزحْـف حركتها على المجتمعات والدّول، في أركان الأرض قاطبة، على امتـداد الأعوام الخمسة والثّـلاثين الماضية. ولقد تعاورت سياساتُ الدّول الكبرى في النظام الدولي والمنظّماتُ الدّوليّـة الرّسميّـة، التّـابعة للأمـم المتّحدة، ثـمّ المنظّـماتُ الدّوليّـة غيرُ الحكوميّـة على تدبيح خطاب كونيّـة الحقوق هذا والتّـرويجِ له، بـل الذّهابِ في الدّفاع عنه ضدّ منتـقديه إلى حـدود اتّهامهم بمحاولة النّـيْل من منظومة الحقوق المتعارَف عليها.

وغالبًا ما كان المايسترو الذي يدير معزوفة الحقوق بين هذه المؤسّسات الدّوليّـة واحدًا: إنّـه الحاكم بأمره للنّظام الدّوليّ، منذ قيامه، قبل ثمانية عقود، والرّاعي للمنظّـمات الحقوقـيّـة غـيـرِ الحكوميّـة بالإنفاق والتّوجيه السّياسيّ والتّمكين لقولها وفعْـلِها في القـرار الدّوليّ.

يقضي زعـمُ كونيّـة الحقوق، عند القائلين بها، بوجوب التّسليم بأنّ المعايير التي توزَن بها حقوقُ الإنسان والحقوقُ الاجتماعيّـة- الاقتصاديّـة في العالم معايـيرٌ موحَّـدة ساريةٌ، بالضّـرورة، على الجميع: دولًا ومجتمعات؛ وأنّ أي دعـوةٍ إلى التّـمسُّك بالهـويّات والخصوصيّات لـدفْع أحكام تلك الكـونيّـة دعوى باطلةٌ مردودة على أصحابها، وقد تكون - أبعـد من هـذا - منتهكـةً للقانون الدّوليّ.

هـكذا، يستـغلّ دعاةُ الكونيّـة سوابقَ صدور قرارات دوليّـة للبناء عليها بالقول إنّها كـونيّـةٌ مـعترفٌ بها ومحـطُّ إجمـاعٍ دوليّ وهي، بالتّالي، جزءٌ لا يتجزّأ من القانون الدّوليّ، وكـلُّ اعتـراضٍ عليها اعتـراضٌ على القانون الدّوليّ وانتهاكٌ لأحكامه يقـتضي ردْعـًا من نـوعٍ مّـا. هكـذا، أيضًا، يقضي التّسليمُ بكونيّـة المعايـير تلك بضرورة تكيـيف المنظومات القانونيّـة للدّول جميعِها بما يتـناسب والأحكام القانونيّـة الدّوليّـة في مجال حقوق الإنسان والحقوق الاجتماعيّـة- الاقـتصاديّة.

إنّ سيادة الدّول في مجال التّـشريع وإصدارِ القوانين لا يعود، في منظور هـذه «الكـونيّة»، أكـثر من دعـوًى غرضُها الرّئيس التّـنصُّـل من التـزام الأحكام التي يفرضها القانون الدّوليّ على الجميع، وهي دعوى لن تعفيَ أصحابَها من الخضوع لما تـقضي به تلك الأحكام بحسبانها أحكامًا مرجعُها إلى القانون الدّوليّ؛ فهي مدعوّة إلى الخضوع لها طوعاً وبإرادتها، وإلاّ أُكْـرِهت على ذلك بالقـوّة. هذه، مـثلًا، حال تلك الدُّول التي عُـدَّت «مارقـة» في نظـر دعاة كونيّـة الحقوق، فـتلقّـت وجْباتٍ من العقاب الدّوليّ متـفاوتـةَ القـسوة: من العـقوبات الاقـتصاديّة إلى الحصار إلى الحرب عليها!

يصطدم المرءُ، هـنا، بحقيقـة الفجوة الكبيرة التي تـنـتصب بين دعـوى الكونيّـة هذه وواقعٍ موضوعيّ مجافٍ لا يشهد لها. صحيح أنّها دعوى تـترجم نفـسَها في سياساتٍ دوليّـة، وأنّ هذه السّياسات مطبَّـقة على قسـمٍ كبير من أمم العالم ودولـه، مع ذلك لا شيء فيها يدلُّ على اسمها؛ إذْ ليس فيها من الكونيّـة سوى ادّعاؤُها المعلن.

ولنا، في الشّأن هـذا، دليلان على قـلـناه:

أوّلهما أنّ مفعول هذه التّـشريعات الكونيّة مطلوبٌ أن يسريَ على دولٍ بعينها من دون أخرى: على الدّول الصّغرى في العالم وحدها - وهي تـنتمي إلى الجنوب والشّـرق - ومعها على الدّول الكبرى المناهضة للغرب والمنافِسـة له. إنّ على هذه الدّول أن تُخْضِـع منظوماتها القانونيّـة القوميّـة للأحكام التي تقضي بها القوانين الدّوليّـة في مضمار الحقوق والتّـشريع وِفْـق والمعايـير التي بها تـتحـدّد، ثمّ عليها - بالتّـالي- أن تـتحمّـل تبعات التّـنكّـب عن التـزامها بما في ذلك ما يمكن أن يرتّـبه عليها التّـنكّـب ذاك من عـقوبات. في المقابل، تظلّ دول الغرب الكبرى - خاصّـةً الولايات المتّحدة الأمريكيّـة- محتفظـةً بمنظوماتها القوميّـة، غيرَ متجاوبةٍ مع دعوات تكييف قوانينها مع القوانين الدّوليّـة ولا حتّى آبهـة لِـمَـا يعنيه سلوكها السّياسيّ هذا - القائم على ازدواجيّـة صارخة في المعايير- من تناقضٍ صارخ مع العالم ومن انفضاحٍ كبير لأُزعوماتها حـول كونيّـة الحقوق!

وثانيهما أنّ التّـفاوت الصّارخ بين حقوق الأمم والدّول في ما تـتمتّـع به من حقوقٍ بمقتضى القوانين النّظريّـة الدّوليّـة يفضح، من جهـته، مزعمة الكونيّـة تلك ويميط النّـقاب عمّا تحمله من رياء. نعم، ليس للأفراد الحقوق عينُها في الدّول جميعها وعلى قـدم المساواة بينها فيها. حقّ التّـنقُّـل الحرّ مكفول لكلّ مواطنٍ في الغرب في بقاع العالم كلِّها من غير قيود، فيما هو مقـيَّـد في معظم دول العالم بشروطٍ تعجـيزيّـة من دول الغرب (نظام التّأشيرة أحدُها مثـلًا).

وهـذا مَثَـل واحد من مئات الأمثلة النّظـير. ثمّ ليس لشعوب العالم وأممه من الحقوق الوطنيّة والقوميّة في السّيادة والوحدة ما لشعوب الغرب وأممه مع أنّ احتلال أراضيها وتجزئة الاستعمار لكياناتها أفعالٌ تـنـتهك القانون الدّوليّ وتعتدي عليه! حتّى أقـدس الحقوق - التي لم يمنحها قانونٌ - وهـو الحقّ في الحياة تستكـثـرُه دولٌ كـثيرةٌ في الغرب على شعوبٍ ترزح تحت وطأة الاحتلال والعـدوان والفـقر والتّجويع فـتراها ضالعة في انتهاكه أو ساكـتة عن ذلك الانتهاك! فأيـن «كونيّة الحقوق» في هذا؟!

إذا كان ما تُفصح عنه سياساتُ القـوى المتحكّـمة بالنّظام الدّوليّ هو الكونيّـةُ في عُرفها، فهي قطـعًا كونيّـةٌ عنصريّـة تقـسِّم سكّـان الأرض إلى فئتين على طرفي نقيض: فئة البشر وفئة ما دون البشر. يستحقّ الأوّلون إنسانيّـتهم التي اعتُـرِف لهم بها وما ينجُم منها من سابغ الحقوق كاملةً غيـرَ منقوصـة، فيما لا يستحقّ الثّانون من الحقوق إلاّ ما قـدَّر سادةُ العالم أنّها الحقوقُ التي يستحقّـونها: على مثـال ما يملك الإنسان أن يقـدّر ما هي الحقوق التي تـتمتّع بها حيواناتُه الأليفة في البيت! فـقط في مثـل هذه العنصريّـة النّـكراء، يمكن للعقل أن يُدرِك معنًى مفهومًا لهـذه «الكونيّـة»...

مقالات مشابهة

  • الكنيست يمدد قانونا مؤقتا يحظر الإعلام الأجنبي الذي يمس بأمن إسرائيل
  • الكـونية العـنـصريـة
  • جلجامش الأردني .. الإستقلال الذي يُمارس ويُحتفل به
  • الأول من نوعه.. حكم بسجن وتغريم 5 أشخاص بسبب الإساءة العنصرية لفينيسيوس
  • كيف لي أن أبدد مخاوفها وهي التي تظن أنني سأتركها بسبب مرضها؟
  • الاتحاد الأوروبي يقرر مراجعة علاقاته السياسية والاقتصادية بدولة الاحتلال بسبب غزة
  • ثنائية الدين والدولة بين التصادم والتعايش المستدام
  • من الذي التهم صنم العجوة ؟
  • وزراء: التحوّل الصناعي والاستثمار والتجارة الدولية ركائز تعزز تنافسية الصناعة المحلية عالمياً
  • نساء غزة.. أيقونات الصمود بين الأنقاض والنار