أسير يروي للجزيرة نت قصة هروبه من أهوال سجون الدعم السريع
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
الخرطوم- كشفت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الخميس الماضي عن قيام قوات الدعم السريع بسجن أكثر من 10 آلاف شخص في مراكز احتجاز داخل ولاية الخرطوم، توزعوا في نحو 40 مرفقا، و توفي منهم المئات بسبب التعذيب والمرض.
وغطى تقرير المفوضية الفترة ما بين بداية الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023 إلى يونيو/حزيران 2024، كاشفا عن تجاوزات لحقوق الإنسان وانتهاكات للقانون الإنساني الدولي في مرافق الاحتجاز هذه.
وفي ذات السياق كشفت تقارير صحفية نشرتها صحيفة "غارديان" أول أمس عن أدلة على تعرض أكثر من 500 شخص للتعذيب أو الجوع حتى الموت في مركز احتجاز، ثم دفنوا في مقبرة جماعية سرية شمالي الخرطوم بالقرب من قاعدة قري العسكرية، التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع حتى تاريخ 25 يناير/كانون الثاني الماضي.
وكشفت زيارة إلى القاعدة الواقعة على بعد حوالي 40 ميلًا (70 كلم)، بعد فترة وجيزة من استعادتها من قبل الجيش السوداني، عن وجود مركز احتجاز غير معروف سابقًا، مع وجود أغلال معلقة على الأبواب، تشير إلى أنها كانت غرف تعذيب من خلال بقع الدم على الأرض.
أكبر الجرائميروي أشخاص معتقلون تعرضوا للتعذيب في مركز الاحتجاز بشكل متكرر من قبل خاطفيهم، أنه يوجد في مكان قريب من المركز موقع دفن كبير فيه العديد من جثث أشخاص ماتوا خلال التعذيب، وبه ما لا يقل عن 550 قبرا غير محدد، وكثير منها محفور حديثًا، ووجد الأطباء الذين فحصوا الناجين علامات لا تعد ولا تحصى على التعذيب، وخلصوا إلى أنهم كانوا يتضورون جوعا.
إعلانويعد الموقع أكبر أرض دفن مؤقت موجودة في السودان خلال الحرب الحالية، حيث قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" التي حققت في انتهاكات في جميع أنحاء السودان خلال الحرب، إن موقع مركز الاحتجاز هذا يمكن أن يشكل "واحدة من أكبر مشاهد الجرائم الوحشية التي تم اكتشافها في السودان منذ بدء الحرب"، ودعت للسماح لمحققي جرائم في الأمم المتحدة بالوصول للموقع.
وقال الدكتور هشام الشيخ، الذي فحص 135 رجلا تم العثور عليهم هناك، بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية الموقع في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، إن الأدلة السريرية على التعذيب وسوء التغذية المزمن كانت كثيرة، وقال الشيخ لصحيفة "الغارديان" إن الرجال -وجميعهم من المدنيين- كانوا مصابين بصدمة كبيرة ولا يستطيع كثيرون منهم الكلام.
وتكشف صورة تم التقاطها عبر الأقمار الاصطناعية لطريق أحادي المسار بجانب القاعدة، بعد أسابيع من بدء الحرب، غياب أي مظهر من مظاهر الدفن، بينما تكشف صورة أخرى لنفس الموقع تم التقاطها بعد عام في 25 مايو/أيار 2024 عن عدد كبير من التلال التي تمتد على مسافة حوالي 200 متر.
وقال الرقيب محمد أمين الذي يتمركز الآن في قري إن "جميع الجثث المدفونة هناك لقى أصحابها حتفهم في القاعدة"، وقال ضابط في الجيش السوداني إن المعتقلين الذين عثروا عليهم "كانت أيديهم وأقدامهم مربوطة معًا، وكانوا في حالة سيئة للغاية مع علامات تعذيب على أجسادهم".
وقال جان بابتيست جالوبين، من "هيومن راتيس ووتش" إن "السلطات السودانية التي تسيطر على القاعدة الآن قد تعاملت معها كموقع محتمل لجريمة حرب، وبذلت جهودًا فورية لتأمين وجمع وحماية الأدلة، التي قد تكون حاسمة في عملية المساءلة"، ووصف ذلك بـ"الأمر الحيوي".
على لسان أسيرالتقت الجزيرة نت بأحد الأسرى الناجين من سجون قوات الدعم السريع، وأفسحت له المجال ليروي قصته وشهادته، مع طلبه عدم الإشارة إلى اسمه كاملا، لأنه لم يأخذ الإذن من وحدته العسكرية.
إعلانيسرد ضابط الصف عثمان ما جرى معه خلال هذه الأيام، ويقول إنه ومنذ اليوم الأول في الحرب، تواصلتُ مع وحدتي العسكرية عبر الهاتف وأخذت كل التكليفات، ثم بدأت تنفيذها من خلال ذات الهاتف في منزلنا الكبير بضاحية الأزهري جنوبي الخرطوم، على مدى نحو شهرين.
كنت قلقا على أسرتي الصغيرة زوجتي وصغيريها، ووالدي المسن وأمي التي تتحمل الأعباء، بدأت أخطط لترحيلهم بعيدا عن مواقع الجنجويد، خصوصا بعد أن زادت حدة الانتهاكات، وبدأت تتواتر الأنباء عن اقتحام البيوت الخالية وسرقة محتوياتها، ونهب السيارات بقوة السلاح، كنت أدرك بحكم خلفيتي العسكرية أن الدور قادم علينا.
لم أكن أتصور أنه في يوم من الأيام سيكون الطارق على الباب هو العدو نفسه، لم يمنحني فرصة المراوغة، قالوا لي: عثمان نحتاجك الآن في مكتب استخبارات الدعم السريع.
وصلت برفقة المجموعة التي أوصلتني إلى محطة الصهريج القريبة من مكان سكني، لم يكن مكتبا، بل بيتا تحت التشييد، الذين أخذوني لم يتحدثوا كثيرا، كأنما كانوا على عجلة من أمرهم، وتركوا للسياط مهمة الاستنطاق، ضرب مبرح في كل مكان، وعندما أجبتهم: نعم أنا عثمان أعمل بالقوات المسلحة، كان ذاك كافيا لكف الأذى لبعض الوقت، لكني بقيت في المكتب نحو 5 أيام.
ومن نقطة الاحتجاز الأولى، تم نقلي وأحد زملائي إلى سجننا الأول في مقر الدعم السريع في ضاحية الرياض، والذي يعرف أيضا بـ"العمارة الهيكلية"، تم حشرنا في غرفة صغيرة نحو 25 معتقلا، وفي ركن الزاوية تم وضع جردل لقضاء الحاجة، أضفنا ستارة لستر العورة، وحينما يمتلئ الإناء نغرق بالقاذورات، حتى يُسمح لنا في الصباح بتفريغ ما أفرزته البطون الخاوية ليلا.
كنا نُمنح وجبتين على سبيل الاصطلاح، لقيمات من دقيق الذرة يعرف في السودان بـ"العصيدة"، لكن بلا إدام، فقط يضاف للذرة المطبوخة بالماء الساخن سكر في الصباح وملح في الليل، أو وفق ما يتيسر.
إعلانحصة الفرد من الماء 6 أكواب في اليوم، أحيانا يقل الماء فنعلن حالة الطوارئ، نقتصد في ما عندنا ونقلل في حصتنا حتى لا يهلكنا العطش، هزلت أجسادنا، وبات القمل يسرح في الرؤوس ثم يمضي إلى أدني من ذلك.
رفاق الزنزانةيكمل عثمان حديثه للجزيرة نت، متحدثا عن أيامه في السجن ومن رافقه فيه، كالدكتور محمد مرعي وهو طبيب جراحة مدني، لكنه يعمل في أحد المشافي العسكرية، كان ذلك كافيًا ليزج به في السجن، ومات فيه بسبب الجوع وقهر الرجال.
علي جعفر، أميركي من أصول سودانية، تم اعتقاله وهو في طريقه لبورتسودان، لم تشفع له وثائق السفر الأجنبية، حيث اعتبر متعاونا مع الجيش، افترقنا لاحقا وأظنه قد مات، فقد تبادلنا داخل الحبس المعلومات الشخصية حتى يُطمئن الذي يخرج من السجن ذوي الآخر، لكن الاتصال بيني وبينه انقطع.
وائل محمد، شاب، كان أحدثنا عمرا، يحمل الجواز الأميركي والسوداني معا، فقد عقله داخل السجن، كان يتحدث بالإنجليزية فقط، وهو شخصية عسكرية مهمة، اتهم بأنه خطط لتفجير مقر رئاسة قوات الدعم السريع في اليوم الأول من الحرب، أخرجوه من السجن ولم نعرف وجهته.
بعد عدة أشهر من المعاناة، نُقلنا إلى سجن سوبا شرقي الخرطوم، كان الأمر بالنسبة لنا أفضل من سجننا الأول، هنا توجد عنابر ضخمة، أهم ما فيها حمام لقضاء الحاجة، الماء أوفر، ولكن الطعام قليل، حشرنا نحو 180 معتقلا في هذا العنبر.
في نهاية المطاف تبقى منا على قيد الحياة نحو 48 أسيرا، الموت هنا يحصد الناس حصدا، فعند إصابة أحدنا بالإسهال ننقله لمدخل الحمام ليصبح سكنه الدائم حتى يتوفى، ونقوم بهذا الإجراء مخافة العدوى وحتى نسهل للمريض قضاء الحاجة.
تم نقل بعض المرضى للوحدة الطبية بعد أن ساءت حالتهم، لكننا كنا نعتبر من يذهب للمشفى مفقودا وفي عداد الأموات، في كل أسبوع كنا نفقد نحو عشرة من رفاق السجن، من يتوفاه الله نحاول غسله إن توفر ماء، ونصلي عليه داخل العنبر، ثم نضعه في الممر الخارجي، يمكن أن يبقى في هذا الوضع حتى تفوح رائحته وبعدها ينقل إلى مقابر نجهل مكانها.
إعلان لحظة أملفي بداية شهر فبراير/شباط ظننا أننا سنموت جميعا في سجننا في ضاحية سوبا، فجأة سمعنا دوي الرصاص، خبراء السلاح أكدوا لنا أن هذه المعركة قريبة من سجننا، كانت أصوات الرصاص ترتفع، وبدأ الحراس بخلع ملابسهم العسكرية ثم هربوا.
سرت حالة من الفوضى داخل العنابر المغلقة بإحكام، بدأنا نتداول الحديث حول تقرير مصيرنا، اقترحت مجموعة كسر الأقفال والهروب، لكن الرأي في عنبرنا استقر على أن ننتظر الجيش، فهروبنا في مناخ الفوضى يمكن أن يجعل بعضا وقودا للمعارك.
وبعد أن كان صوت السلاح عاليا، انخفضت وتيرته قليلا، ثم اختفي شعاع الأمل، ليوضح لنا خبراء السجن أن ذلك يبدو انسحابا تكتيكيا للجيش، وغالبا سيعاود الكرة في اليوم الذي يليه، لكن ذلك لم يحدث.
عاد الهاربون أكثر غضبا، وبدؤوا في إعادة فرز المساجين، بعد أن كان التوزيع يتم على أساس قبلي، بتوجيه من بعض زعماء العشائر الذين جاؤوا إلى سجننا وفحصوا الأسرى، فأبناء الدرجة الأولى تم إطلاق سراحهم فورا، ثم خصص للآخرين عنابر كنا نسميها "عنبر أولاد القبائل" من باب الطرفة.
بعد اقتراب المعارك، أدركت بخبرتي المتواضعة أن التصنيف الجديد يعني نقلنا إلى سجن جديد، وربما نقلنا إلى مدينة أخرى، وهو ما حدث بالفعل، فاتفقت مع رفاق الغرفة على تغيير اسمي باسم شخص آخر توفي، كان يعمل بالشرطة وكنت أحتفظ باسمه كاملا ورقم هويته العسكرية.
ولأن المليشيا لا تهتم بتدوين دفاتر الوفيات، تمكنت من خداعهم، وبحكم اعتباري رجل شرطة قضي الأمر بتحويلي إلى سجن الاحتياط المركزي جنوبي الخرطوم مع مئات من السجناء، فيما نقل زملائي العسكريين إلى مدينة نيالا، حيث كانوا نحو 300 ضابط وضابط صف وجندي، وكان نقل الأسرى على عجل مؤشرا على أن قوات الدعم السريع أدركت أنها ستخسر كل المعارك في العاصمة الخرطوم.
محاولةهنا لن تستطيع التفكير في الهروب بصوت مسموع، سيمنعك رفاق الزنزانة من ذلك، فنجاح محاولة الهروب ستلقي بتبعات عالية على المتبقين داخل الحراسات، حيث يعقب أي عملية هروب "حفل تعذيب جماعي" وتضييق في الأكل والشرب والحركة.
إعلانفقبل فترة، تمكن نحو 7 ضباط من الهروب عبر فتحة في سور السجن، صنعَتها قذيفة من الجيش، واكتفى حراس السجن بوضع أغصان الأشجار وبعض الكتل الصلبة، لكن الضباط تجاوزوا الصعاب ونالوا حريتهم بينما تذوقنا نحن طعم التعذيب.
اتفقت مع ثلاثة من زملائي على الهرب، قلت لرفاقي "إنه الموت جوعا وعطشا أو أثناء محاولة الهروب"، ووضعنا خطة لأن نقفز من عربة النقل أثناء مرورها في منطقة سوبا ذات الطبيعة الترابية التي تجعل العربة تبطئ من سرعتها، لكن المفاجأة كانت أن تم تغيير وسيلة النقل إلى باصات محكمة الإغلاق، ففشلت الخطة الأولى لكننا لم نفقد الأمل بانتزاع حريتنا.
تم نقلنا في الأسبوع الثاني من شهر فبراير/شباط إلى سجن شرطة الاحتياط المركزي جنوبي الخرطوم، بالقرب من ضاحية الدخينات، لم يكن المبني في الأصل سجنا بل مقرا للتدريب، لهذا كانت هنالك الكثير من الثغرات.
تخطي الأسواركان لقائد فريقنا أنور -وهو أحد ضباط الصف في الجيش- معرفة جيدة بالسجن، وتم اختياره كـ"حكمدار" وهي وظيفة تنسيقية بين حراس السجن والأسرى، حيث تتيح هذه الوظيفة لشاغلها حرية الحركة.
وبعد أن تفقد سجننا الجديد، وضع أنور خطة جديدة للهروب، ورغم أننا أربعة لم نكن على اتفاق على تفاصيل الخطة، لكن إصرار قائد الفريق على التنفيذ جعلنا نوافق ونتعاهد على الموت.
قامت خطة أنور على عنصر المفاجأة في تمام الساعة الثامنة مساء، حيث يكون الظلام قد حل لكن الحركة مستمرة داخل المعسكر الذي بات سجنا، وكانت الخطوة الأولى أن يكسر أنور نافذة الغرفة الضخمة دون أن ينتبه النزلاء، لم تكن مهمة سهلة، لكنه نفذها بقليل من الضوضاء وكثير من الخبرة، فلم تثر عملية الكسر إلا انتباه من كان يترقب الحدث.
قفز أنور أدنى الشباك بشكل عمودي، وبات في وضع الانتظار، تخلص من ملابسه الخارجية ذات الألوان المناهضة للستر، ووضعها في كيس كان يحمله، وبذات الخطوات نفذ ثلاثتنا المهمة، ثم زحف قائد الفريق إلى السور الأول المغطى بشجر "المسكيت" ثم تجاوزه نحو الضفة الأخرى، وفي ذات الدرب سرنا خلفه.
إعلانكانت في الزاوية البعيدة خيمة حراسة يبدو أن أفرادها مشغولون بشأنهم، وكانت العقبة الكبرى أمامنا تجاوز السور الأعظم، في زاويته يوجد برج مراقبة عليه حارس مسلح، ورغم أن هذه العقبة جعلتنا نتوقف، فإن أنور قرر أن يستكشف ما بداخل البرج في ذلك الليل الدامس.
كلما اقترب من البرج لم يكن يرى أي حركة، وعندما وصله وجده خاليا، ارتقى السلم ثم استكشف الشارع، كان خاليا تماما أيضا، وعاد إلينا يحمل البشرى، فتناوبنا القفز على السور العالي، لقد كانت مهمة شاقة لرجال جياع وعطشى فقدوا نصف وزنهم خلال أيام الأسر.
أخيرا تنفسنا الصعداء، ارتدينا ملابسنا ثم دخلنا الحي الشعبي المجاور لمعسكر الاحتياط، قبل أن نصل إلى المنزل الذي من المفترض أن نقضي ليلتنا فيه، لكننا فوجئنا بمجموعة من عناصر الدعم السريع تقف على ناصية الشارع الذي في وجهنا.
فكرنا في تغيير وجهتنا، لكن ذلك كان سيثير شكوكهم، فاخترنا أن نمضي نحوهم بشكل مباشر، ونلعب دور مدنيين يعيشون في هذا الحي إن تم استجوابنا، أو نخوض غمار مواجهة وننزع بعض أسلحتهم، لكن عندما اقتربنا منهم ردوا على تحيتنا بغير اهتمام، وأحسب أنهم ظنوا أننا قوة من رجالهم الذين ينتشرون في الأمسيات بشكل عشوائي.
أخيرا.. وصلنا إلى بغيتنا، منزل شقيق أحد أفراد الفريق، وفيه نمنا ليلتنا الأولى ونحن أحرار، وفي الصباح تفرق شملنا بإحساس من هزم الموت أكثر من مرة، لكن لن تكتمل فرحتنا إلا بمعرفة مصير رفاقنا في سجون مليشيا الدعم السريع.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان قوات الدعم السریع إلى سجن بعد أن
إقرأ أيضاً:
من السرير لأصوات نزلاء قربه.. ساركوزي يروي تفاصيل قضاها بالسجن بعد إدانته بأموال ليبيا
(CNN)-- كتب الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، في كل أربع وعشرين ساعة قضاها خلف القضبان، أكثر من عشر صفحات من كتابه الجديد الذي يروي فيه تجربته في سجن لا سانتيه بباريس.
ويتذكر الرئيس الفرنسي الأسبق في كتابه، الذي صدر، الأربعاء، بعد شهر من خروجه من السجن في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، قائلاً: "كان من الممكن أن يكون فندقاً متواضعاً، لو تجاهلنا الباب المدرع ذي فتحة المراقبة".
ويصف ساركوزي السجن بأنه "جحيم"، وذلك في "مذكرات سجين"، التي تتناول موجة الاهتمام والتدقيق الشعبي المكثف الذي أحاط بإدانته في سبتمبر/ أيلول بتهمة التآمر الجنائي لتمويل حملته الانتخابية عام 2007 بأموال من ليبيا.
وأُفرج عن ساركوزي مبكراً من عقوبته البالغة خمس سنوات في نوفمبر/ تشرين الثاني بانتظار البتّ في استئنافه، ويقول عن فترة سجنه إن المنظر من نافذته كان محجوباً بألواح بلاستيكية، مضيفاً أنه كان من المستحيل رؤية السماء أو حتى معرفة حالة الطقس، ويكتب أنه كان يتعرض ليلاً لسخرية زملائه السجناء التي كانت تتردد أصداؤها في أرجاء مجمع السجن. وفي إحدى الليالي، استيقظ على صوت سجين أشعل النار في زنزانة مجاورة.
فترة عصيبة
كانت تلك الفترة بعيدة كل البعد عن الرفاهية التي كان يتمتع بها كرئيس لفرنسا بين عامي 2007 و2012.
وكتب: "جلستُ على السرير، الذي لم يكن مُرتبًا، فصُدمت. لم أشعر قط، حتى خلال خدمتي العسكرية في الجيش، بمرتبة أقسى من هذه. حتى الطاولة كانت ستكون أنعم"، ومع ذلك، وكغيره من السجناء فيما يُسمى بجناح الشخصيات المهمة، الذي يتألف من 18 زنزانة، كان يتمتع بتلفاز خاص، ودُش، وثلاجة، وموقد طهي.
ويروي الكتاب تفاصيل حياته اليومية في السجن، ويتخللها لمحات من الأسابيع التي تلت صدور الحكم عليه وحتى وصوله إلى أبواب سجن لا سانتيه في 21 أكتوبر/ تشرين الأول.
وفي فرنسا، أُثيرت ضجة كبيرة حول اللقاءات الرسمية التي عُرضت على ساركوزي بعد إدانته.
وفي السجن أيضاً، زاره زميله السابق ووزير العدل الحالي، جيرالد دارمانين، مما أثار استنكاراً شديداً من كثيرين في فرنسا. ووفقاً للكتاب، تلقى رسائل ومكالمات دعم من قادة العالم وسفراء.
وقال ساركوزي إن السفير الأمريكي في باريس، تشارلز كوشنر، والد جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب، طلب أيضاً لقاءه لأول مرة في السجن. وكان كوشنر الأب، الذي عفا عنه ترامب لاحقاً، قد قضى عقوبة السجن بتهمة التهرب الضريبي، والانتقام من شاهد فيدرالي، والكذب على اللجنة الانتخابية الفيدرالية.
مع لقاءات مباشرة مع عائلته مرة كل يومين على الأقل، فإن واقع ساركوزي في السجن يختلف تمامًا عن وصفه لحياة النزلاء فيما يُسمى بجناح كبار الشخصيات أو جناح العزل. يكتب: "لا أحد يراهم. لا أحد يقابلهم".
ولادة جديدة
بالنسبة لساركوزي، يُمثل الكتاب محاولةً لتحسين صورته العامة.
انتهى زمن الجدل الدائر حول تطبيق العدالة الصارمة. فقد صرّح الرئيس الفرنسي، المعروف بتشدده في تطبيق القانون والنظام، عام 2012: "يجب على المحاكم الفرنسية أن تُعاقب، لأنّ كون المرء مجرماً رفيع المستوى أسوأ بكثير من كونه مجرماً عادياً".
وفيما حلّ محلّ ذلك، رواياتٌ وردية عن حياته بعد الإدانة.
ويروي بالتفصيل كيف اصطحب مريضاً مراهقاً مصاباً بالسرطان إلى مباراة كرة قدم قبل أيام من دخوله السجن، وكيف استقبله الجمهور بالتصفيق في المطاعم. ويقول إنّ مشجعي كرة القدم غمروه بالدعم، ويتذكر كيف اصطفت العائلات على جانبي الشوارع أثناء اصطحاب موكبه إلى السجن، وهو ما يُشابه، على حدّ قوله، الحشود التي هلّلت له ليلة انتخابه رئاسياً.
وتلقى موظفو السجن سيلاً من رسائل المعجبين، شملت 20 نسخة من الكتاب المقدس، و30 نسخة من الرواية نفسها الحائزة على جوائز، ومئات الرسائل يومياً – "أكثر مما تلقيته كرئيس"، كما كتب.
ولمن قد يظن أن الكتاب يبالغ في تصوير فترة سجنه، يحذر السطر الأول من الكتاب: "هذه ليست رواية".
رئيس مدان
متمسكاً ببراءته المعلنة، يخصص ساركوزي نصف فصل لانتقاد التحقيق الصحفي الذي أدى إلى إدانته في نهاية المطاف.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني، أيدت أعلى محكمة في فرنسا إدانته في قضية منفصلة تتعلق بتمويل غير قانوني لحملته الانتخابية لإعادة انتخابه عام 2012. وهو من بين القلائل من القادة السياسيين المعاصرين الذين خاضوا تجربة السجن كسجين.
ومن المثير للدهشة أنه يقارن نفسه بألفريد دريفوس، السجين السابق في سجن لا سانتيه، والذي أصبح قضيةً بارزةً في فرنسا بسبب اضطهاده الظالم. وقد سعت فرنسا لاحقًا، بعد أن كان دريفوس ضحيةً لمعاداة السامية الشرسة، إلى تصحيح الظلم الذي لحق به.
وتُعدّ زيارات قسيس السجن كل أحد من أهم محطات فترة سجن ساركوزي التي استمرت 20 يومًا. ويُصرّح الرئيس السابق بأنه استعاد إيمانه، مستمدًا العون من سيرة السيد المسيح التي أحضرها معه إلى زنزانته. كما أحضر معه مجلدين من رواية "الكونت دي مونت كريستو"، التي تُصوّر قصة هاربٍ أسطوري من السجن.
يبدو أن السياسي اليميني قد تأثر بشكل لا يُنكر بفترة سجنه. فبعد أن لمس رعاية الموظفين، وواقع الحياة القاسية خلف القضبان، بدا ألم الفراق عن عائلته جليًا. وكذلك تقديره الجديد لكل ما فقده: "في سجن لا سانتيه، بدأت حياتي من جديد"، هكذا يختتم كتابه.
لكن يكاد يخلو الكتاب، المؤلف من 213 صفحة، من أي تعاطف مع زملائه السجناء. فهو يُصوّر نفسه كرجلٍ مُختلف، حرفيًا - معزولًا عن زملائه السجناء ويحظى بمعاملةٍ من الموظفين - ومجازيًا، كرجلٍ بريء يعيش "ما لا يُتصور"، كما يدّعي.
ويكتب ساركوزي في الصفحات الأخيرة من كتابه، مستذكراً حشود الشرطة والإعلام والمؤيدين التي أحاطت به خلال فترة سجنه: "دخلتُ السجن رئيساً للدولة، وخرجتُ منه بنفس المنصب".
لكنّ واقع سجن ساركوزي أكثر قسوة. فقد دخل السجن مداناً، وخرج منه بنفس المنصب.