فوكوزاوا يوكيتشي.. رائدُ الحداثة اليابانية
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
أحمد الرحبي
شكَّل العصر الحديث بمفهومه الحضاري والعلمي وبما حققه من نقله في المجتمعات في العالم من النشاط الزراعي إلى النشاط الصناعي والمعتمد على العلم، وما شكَّله بعد ذلك من انقطاع ما بين هذا العصر والعصور السابقة في فهم الحياة وكُنه مفاهيمها وأسرارها والتصدي للأسئلة وصياغة الاستنتاجات حول المسائل الجدلية للحياة، فهمًا وكُنهًا نابعًا من منطلق العلم وخاصة العلم التجريبي، لا الخرافة.
هذا الأمر وسَّع مدارك الإنسان في العصر الحديث، مُعزِّزًا ثقته بالمنهج العلمي، الذي أتاح له فك مغاليق الطبيعة وأسرارها، مما قاده إلى تحقيق فتوحاته العلمية وتسجيل براءة اختراعاته واكتشافاته التي سهلت حياة الملايين في العالم، وحققت رفاهة العيش لإنسان العصر الحديث، لقد شكل العصر الحديث بالنقلة العلمية والحضارية التي استطاع أن يحققها العالم الغربي بالمفهوم العلمي المجرد، تحديا لبعض الشعوب في العالم، ومن ضمنهم العرب.
وكان للعرب رائدهم الذي حاول في بدايات ما سمي بالنهضة العربية، المُجهضة في القرن التاسع عشر، التعرف على هذا الغرب وسط الفورة الحضارية والعلمية التي يقودها، وفهم حياته وسبر مفاهيم الحياة وطرق العيش والإنجاز والعطاء فيها، مثل المهمة التي أنجزها رفاعة الطهطاوي، وهو الأزهري المُغرق في مفاهيمه التقليدية، لكن أُتيحت له فرصة الذهاب إلى فرنسا والعيش والانغماس في المجتمع الباريسي، مُسجلًا بذكاء ملاحظاته التي لا تخلو من إعجاب بهذا المجتمع في طرق عيشه وأسلوب الحياة المنفتح، وهي ما عُدت- هذه الانطباعات التي سجلها الطهطاوي- في حينه تجاوزًا للصدمة الحضارية التي عاشها المشرق العربي، على وقع المدافع الفرنسية التي دكَّت مدينة القاهرة وثلمت أنف أبو الهول، ضمن النتائج الجانبية، أثناء غزو نابليون بونابرت لمصر الذي جاء بقضه وقضيضه من جنود وعلماء؛ جنود يحاولون أن يُخضِعوا الحياة المصرية، وعلماء يدرسون كل تفاصيل هذه الحياة.
ومثل ما كان للعرب رائدهم، فإن للشعوب والأمم الأخرى روادها أيضًا، وحتى صدماتها من الحداثة، لكن ربما الفرق بينهم وبين العرب، أن بعض هذه الشعوب والأمم، تجاوزت المنعطف الصعب للصدمة الحضارية، إلى النجاح في اعتناق المفهوم العلمي والحضاري، الذي جعلهم ينخرطون في ركب الحداثة، ويحققون مساهمات وإضافات علمية، بعكس العرب الذين توقف بهم الحال بعد فشل نهضتهم العلمية وعدم تجاوزهم للصدمة الحضارية، مما جعلهم مجرد مستهلكين بدون إضافة يقدمونها.
ويعد فوكوزاوا يوكيتشي المُعلِّم الياباني الذي دعا الى المعرفة المستمدة من الحضارة الغربية خلال عهد ميجي (1868- 1912) والمؤسس لمدرسة كايو جيجوكو (جامعة كايو الآن)، من ضمن هؤلاء الروَّاد الأفذاذ، الذين أفادوا شعوبهم وأثروها بالعلم والمعرفة المعاصرين، والذي يمكن القول عن سيرته إنها ترجمة لتجربة التحديث اليابانية ونجاحها على الرغم من المعوقات التي واجهتها. لقد قام فوكوزاوا يوكيتشي، وفي فترة كان اليابانيون خلالها يجهلون العالم تقريبًا مثلما يجهلهم العالم بتعليمهم أولًا الوضع العام للعالم، ثم أدى دور رائدهم الأكثر بروزا في دراسة الفنون والعلوم الغربية وبدأ في تعليمهم الخطوط العامة لتاريخ العالم وجغرافيته والمبادي الأولية للفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وأساليب مسك الدفاتر وعلم التكتيك العسكري في الحروب الميدانية وحصار القلاع وصنع بندقيات المشاة واستخدامها وقد جمعت كتاباته في سبعة عشر مجلدا من القطع الصغير، تعكس تنوع المجالات التي تناولها واتساع نطاقها وتملكه لناصيتها.
ويعبر هذا الرائد العظيم عن فخره، في مذكراته، بما تقوم به اليابان من سعي حثيث لمعانقة حداثة العصر، والثمار التي جنتها في مجال النقل البحري، على سبيل المثال، والذي كان في ذلك الوقت يقوم اعتماده على الطاقة البخارية، يقول فوكوزاوا يوكيتشي: "فيما أتأمل كل شعوب الشرق الأخرى، على نحو ما هي عليه اليوم، يساورني الشعور بالاقتناع بأنه ليست هناك أمة أخرى لديها المقدرة أو الشجاعة على الإبحار بسفينة بخارية عبر المحيط الهادئ بعد فترة خمس سنوات من الخبرة في الإبحار والهندسة. ولا يقتصر على الشرق بروز هذا الإنجاز كعمل لم يسبق له مثيل من أعمال المهارة والجرأة".
وحتى إمبراطور روسيا بطرس الأكبر، الذي مضى إلى هولندا لدراسة الملاحة، لم يستطع بكل إنجازاته أن يصل إلى ما يعادل هذا الإنجاز الذي حققه اليابانيون في هذه المغامرة الكبرى.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كولن ودوسلدورف.. رحلة لقلب ألمانيا حيث التاريخ يصافح الحداثة
إذا كنت تبحث عن وجهة تمنحك مزيجا فريداً من التاريخ العريق والثقافة الغنية والمناظر الطبيعية الخلابة والتسوق المتميز، فإن خيارك الأمثل في ألمانيا قد يكون مدينتي كولن ودوسلدورف في شمال غرب البلاد.
وتقع هاتان المدينتان على ضفاف نهر الراين، أحد أشهر أنهار أوروبا، مما يضفي عليهما جواً رومانسياً وسحراً خاصاً يجذب ملايين الزوار سنوياً.
ما المميز في كولن ودوسلدورف؟كولن حيث التاريخ تحكي قصصاً عبر القرون، وهي ستسحرك من اللحظة الأولى التي ترى فيها كاتدرائيتها العملاقة ذائعة الصيت، هذه التحفة المعمارية التي استمر بناؤها على مدى أكثر من ستة قرون!
يصل ارتفاع مبنى الكاتدرائية إلى أكثر من 144 مترا، وسيكون بإمكانك صعود المئات من الدرجات إلى قمة البرج الجنوبي لمشاهدة أجمل إطلالة بانورامية على نهر الراين وبقية معالم المدينة.
متحف الشكولاتةولكن كولن ليست مجرد كاتدرائية، فهي تقدم لك أيضا رحلة إلى العصر الروماني، وذلك عبر زيارة المتحف الروماني الجرماني الذي يضم فسيفساء رائعة تعود إلى القرن الثالث الميلادي. وفي كولن أيضا لا يفوتك زيارة متحف مميز وجذاب هو متحف الشوكولاتة، حيث تشم رائحة الكاكاو، وتشاهد كيف تتحول حباته إلى أشهى أنواع الشوكولاتة.
ومن خارج المتحف، سيمتعك شكل المبنى الذي يبدو وكأنه قارب زجاجي على ضفاف نهر الراين، لكن المتعة الأكبر ستكون بالداخل وأنت تتابع بشكل عملي مراحل صنع الشوكولاتة.
إعلان نزهة على الراينغير بعيد عن المتحف، سيكون بإمكانك القيام بنزهة رومانسية على طول رصيف الراين بمقاهيه الحديثة والمطاعم العائمة، كما يمكنك زيارة حي بلوتنك الذي يعج بالمقاهي الفنية والمتاجر المميزة.
وأنت تقوم بجولة على نهر الراين، ربما يكون من معالم الجذب ذلك الجسر الذي يتوافد عليه العشاق كي يضعوا أقفالا، يعتقدون أنها ستضمن لهم استمرار المحبة.
عاصمة الأناقة والفنونتحتاج كولن إلى يومين أو ثلاثة كي تستمتع بأبرز معالمها، ثم يمكنك لاحقا التوجه إلى دوسلدورف، التي لا تبعد عن كولن إلا 40 كيلومترا تقطعها السيارة في 35 دقيقة، مقابل 20 دقيقة فقط على متن القطار السريع.
وربما يكفيك يوم واحد في هذه المدينة التي ستدهشك بمعالمها وتناقضاتها الساحرة وأبرزها:
الشارع الملكي الشهير حيث تصطف أشجار الزيزفون على قنوات المياه، بينما تلمع واجهات المحلات الفاخرة.أفضل الأوقات لزيارة كولن ودوسلدورف هي:
فصل الشتاء (يناير/كانون الأول): أسواق الميلاد الساحرة التي تحول المدينتين إلى لوحة من الأضواء. فصل الشتاء (فبراير/شباط ومارس/آذار): مشاهدة كرنفال كولن الصاخب (أكبر كرنفال في شمال أوروبا). فصل الصيف (يوليو/تموز وأغسطس/آب وسبتمبر/أيلول): للاستمتاع بالمقاهي الخارجية والرحلات النهرية. كيف تصل وتتنقل؟يمكك الوصول إلى المدينتين بسهولة، خاصة وأن مطار كولن وكذلك مطار دوسلدورف وأيضا بون لا تبعد كثيرا عن المدينتين، كلها تصلها رحلات مباشرة من دول عربية عديدة. وحتى إذا حطت طائرتك في فرانكفورت عاصمة المال الأعمال في ألمانيا، فلن يكون الأمر صعبا حيث تبعد عن كولن 180 كيلومتراً، وعن دوسلدورف 215 كيلومترا، مع وقت سفر يقدر بنحو ساعتين بالقطار السريع.
هذه المسافات القصيرة تجعل من السهل جداً زيارة المدن الثلاث (كولن ودوسلدورف وبون) في رحلة واحدة لا تنسى! وأما في داخل كل من كولن ودوسلدورف فإن شبكات المواصلات العامة الممتازة تجعل التنقل سهلاً وبأسعار معقولة.
إعلانوبالنسبة للمسافات بين هذه المدن، فإن كولن ودوسلدورف تقعان على مسافة قريبة جدا من بعضهما البعض، حيث تفصل بينهما حوالي 40 كيلومتراً فقط، ويمكن الوصول من إحداهما إلى الأخرى في أقل من ساعة بالقطار أو السيارة.
وجهتان من الأهمية بمكانكولن ودوسلدورف – مدينتان تمنحانك أفضل ما في ألمانيا، من التاريخ إلى الحداثة، من الثقافة إلى الترفيه، ومن الاسترخاء إلى المغامرة. سواء كنت مسافراً مع العائلة، كزوجين، أو مع الأصدقاء، ستجد في هاتين المدينتين ما يلبي جميع الأذواق ويخلق ذكريات لا تنسى.
وإذا سافرت إلى دولسلدورف فلا تغادرها دون تناول وجبة في المطعم التاريخي (الذي زاره نابليون بونابرت)، ولا تغادر كولن دون شراء زجاجة من ماء كولونيا الأصلي من المتجر التاريخي حيث اخترعت هذا العطر الشهير قبل أكثر من ثلاثة قرون، ففي هذه المدينة وُلد أشهر عطر في العالم (ماء كولونيا) خلال العام 1709 على يد الإيطالي جيوفاني ماريا فارينا.
ويمكنك زيارة متجر "فارينا" التاريخي قرب الكاتدرائية، حيث ما زال يُحفظ سر التركيبة الأصلية التي تجمع بين نضارة الحمضيات ودفء الأعشاب.
وسواء اخترت العبوة الكلاسيكية ذات الطابع التراثي أو النسخ المعاصرة، ستأخذ معك عبقا يمزج بين تاريخ المدينة العريق وأناقتها الحديثة، لتبقى ذكرى رحلتك عالقة في ذهنك كلما استنشقت هذه الرائحة الفريدة، استعد لرحلة ستبقى في ذاكرتك للأبد، رحلة إلى قلب الراين حيث السحر الحقيقي!