رمضان في عُمان.. خيوط متصلة
تاريخ النشر: 9th, March 2025 GMT
حمود بن علي الطوقي
وأنا أستعيدُ تلك الذكريات الرمضانية، وجدت أنني لست وحدي من عاش هذه التفاصيل، أشاد عدد من الأصدقاء الذين قرأوا ما كتبتُ، مؤكدين أن رمضان في مختلف قرى وولايات السلطنة يحمل الطابع ذاته؛ حيث تتشابه العادات والتقاليد، وكأنها خيوط مُتَّصلة تنسج نسيجًا واحدًا من الروحانية والتآلف الاجتماعي.
ومهما اختلفت المواقع والمسميات، فإن الأجواء تبقى متقاربة: الاستعداد المبكر للشهر، موائد الإفطار التي تجتمع حولها العائلات، والتواصل الاجتماعي الذي يزدهر في هذا الشهر الفضيل. يبدو أن رمضان في عُمان ليس مجرد طقس ديني، بل هو حالة وجدانية يعيشها الجميع بروح واحدة، رغم تنوع البيئات والمناطق.
كان رمضان في ذلك الزمن مختلفًا، له طعم خاص، وكانت عقارب الساعة تمر ببطء، وكأن الوقت مبارك تزيد فيه البركة في كل شيء. يبدأ اليوم منذ الصباح الباكر بصلاة الفجر جماعة، ثم الجلوس في حلقات تحفيظ القرآن، وأذكر أننا كنا نجلس مع آبائنا بعد صلاة الفجر في دائرة نقرأ القرآن، ونستمر في التلاوة حتى طلوع الشمس، ثم نستعد للذهاب إلى المدرسة. لم تكن الحافلات متوفرة كما هو الحال اليوم؛ بل كنا نذهب في سيارات "البيك آب"، التي كانت وسيلة النقل الشائعة في ذلك الوقت، فنعيش مع الطريق رحلتنا اليومية بروح من الألفة والبساطة.
وكان المذياع هو رفيق الأمسيات الرمضانية، فقد كان الوسيلة الأهم لمتابعة برامج الشهر الكريم، حيث لم يكن التلفزيون قد دخل بعد إلى أغلب البيوت. كنا نحرص على متابعة فوازير رمضان والمسابقات الإذاعية، إلى جانب المسلسلات المحلية التقليدية، ومن بينها المسلسل العُماني الشهير “الفك المفترس” (شنكوب وفاغورة)، الذي كان من بطولة الفنان صالح شويرد وفخرية خميس، كما كنا نتابع المسلسل السوري “غوار الطوشة”، الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في ذلك الوقت. ولم يكن المذياع مجرد وسيلة للترفيه، بل كان أيضًا نافذتنا إلى العالم، حيث كنا نستمع إلى إذاعة "بي بي سي" الشهيرة، وخاصة برنامجي "ما يطلبه المستمعون" و"قول على قول"، اللذين كانا يحظيان بمتابعة واسعة.
ومع توالي هذه الذكريات، وجدت أن ما أرويه ليس مجرد استعادة لمواقف مضت؛ بل هو توثيق لمرحلة تتطلب التوثيق، خاصة في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها الزمن. رمضان الذي عشته في قريتي، بكل تفاصيله من الاستعدادات المُبكِّرة إلى وداعه في لياليه الأخيرة، لم يكن مجرد طقوس نؤديها، بل كان نمط حياة متكاملًا، يتجدد كل عام بروح الجماعة والتراحم. هذا السرد هو محاولة لحفظ ملامح تلك الأيام، قبل أن تتلاشى في زحام الحداثة، وقبل أن تصبح مجرد حكايات تُروى للأجيال القادمة عن زمن كان فيه رمضان أكثر بساطة ودفئًا.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
من أولويات ما بعد الحرب مجلس وزاري أعلى لمكافحة الجريمة
وسط زحمة التحديات التي تواجه البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، من إعادة الإعمار إلى معالجة آثار الانهيار المؤسسي، هناك خطر لا يعلو صوته لكنه لا يقل خطورة: الجريمة. التي تستغل الفوضى، وتتمدد في غياب أو ضعف الرقابة، وتتشكل كل يوم في صورة جديدة. من السطو المسلح إلى الاتجار بالبشر، ومن المخدرات إلى الابتزاز الرقمي، وحتى جرائم الاحتيال المعقدة… كل ذلك أصبح مشهداً يوميًا في بعض المناطق، ينذر بأننا أمام موجة أمنية جديدة لا تكفي فيها المعالجات التقليدية.
من هذا المنطلق، أرى أن الوقت قد حان للتفكير خارج الأطر المعهودة، وأن نرتقي في مستوى المواجهة إلى مستوى الدولة نفسها، عبر إنشاء “مجلس وزاري أعلى لمكافحة الجريمة”، لا يكون حكرًا على وزارة الداخلية، بل يضم كل الأطراف ذات الصلة: وزارات العدل، المالية، التعليم، التعليم العالي، الشؤون الاجتماعية، الشؤون الدينية، النيابة العامة، وكل الوزارات و المؤسسات ذات الصلة بالإضافة إلى قادة الأجهزة النظامية.
لماذا هذا المجلس؟
لأن الجريمة لم تعد مسألة شرطية فقط. أصبحت تمس كل قطاع في الدولة، ولهذا، لا بد من مظلة سيادية تنفيذية عليا تعالج المسألة بمنظور شامل، تنسّق الجهود، وتوحّد السياسات، وتتخذ قرارات مشتركة.
ما الذي يمكن أن ينجزه هذا المجلس؟
1. يضع استراتيجية وطنية واضحة وعملية لمكافحة الجريمة، ترتكز على تحليل الواقع لا الأمنيات.
2. يحدد الأولويات حسب درجة الخطورة وانتشار الظاهرة.
3. يضمن تنسيقًا حقيقيًا بين مؤسسات الدولة لا مجرد مخاطبات ورقية.
4. يطور برامج تدريب حديثة تستجيب لتطور الجريمة.
5. يقيس مستوى الأداء الأمني باستمرار لتقويم الخطى.
6. يدعم الشراكة المجتمعية، لأن المواطن هو خط الدفاع الأول إذا تم إشراكه لا تهميشه.
كيف يُقام هذا المجلس؟
الأمر لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى إرادة. يُنشأ بقرار من مجلس السيادة الانتقالي، ويُسن له قانون خاص يُسمى “قانون المجلس الأعلى لمكافحة الجريمة”. يترأسه السيد وزير الداخلية، وتُنشأ له أمانة فنية تتبع للوزارة تُعنى بالتحضير والتنسيق ومتابعة التنفيذ.
ما الذي نكسبه من هذه الخطوة؟
أولاً: تنسيق فعلي وفاعل بين المؤسسات، لا مجرد اجتماعات شكلية.
ثانيًا: كفاءة في استخدام الموارد، وهي شحيحة بطبيعة الحال في هذه المرحلة.
ثالثًا: شعور أكبر بالأمن لدى المواطن، وهذا مفتاح الاستقرار.
وأخيرًا: تأسيس لمرحلة جديدة من العمل الأمني في السودان، تقوم على الجهد الجماعي لا الفردي.
ولماذا أتوقع أن يجد المقترح اهتمامًا؟
لأن من يقود وزارة الداخلية اليوم، السيد الفريق شرطة بابكر سمرة، ليس غريبًا عن هذا الملف. بل هو من أبناء هذه المؤسسة، ومن الذين خدموا في قلب العمل الجنائي، حين كان على رأس الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية. ومن خبر دهاليز الجريمة ومكافحتها، يدرك تمامًا أن الأمر لم يعد يحتمل التأجيل، وأن المعالجة الجزئية صارت تُكلفنا أكثر مما تنفعنا. وكما تقول المقولة الأجنبية
،”There is no permanent benefit from temporary solutions! ”
“لا توجد فائدة دائمة من الحلول المؤقتة! ”
لذا أتوقع من سيادته أن يتلقف هذا المقترح، لا كفكرة جديدة، بل كامتداد طبيعي لمسيرة مهنية نعرف أنه يؤمن بها ويعي أهميتها.
خلاصة القول…
لسنا في ترف تنظيمي، بل في مواجهة وجودية مع الجريمة التي تتكاثر حين يغيب التنسيق بين مؤسسات الدولة. ومجلس كهذا لن يكون مجرد لجنة عليا أخرى، بل سيكون بمثابة غرفة عمليات وطنية تُعيد ترتيب أولويات الدولة في ملف الأمن، وتنقله من طور التفاعل إلى طور المبادرة.
نعم، بلادنا تستحق هذا الجهد. والأمن، كما نعلم، لا يُصنع بالشعارات، بل بالرؤية والعمل المشترك.
✍️ عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
6 يوليو 2025م