بعد أوكرانيا.. هل يجد داعش ثغرة جديدة لاختراق المشهد الدولي؟
تاريخ النشر: 12th, March 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تعكس افتتاحية العدد 485 من صحيفة "النبأ"، الناطقة باسم تنظيم "داعش والصادرة يوم الجمعة 7 مارس 2025، بُنية خطابية واضحة ترتكز على ثنائية "نحن" و"هم"، حيث يُعاد إنتاج السردية الجهادية التقليدية حول صراع "الإسلام والصليبية"، لكن ضمن سياق عالمي متغير. يظهر ذلك من خلال تحليل السياقات والدلالات التي تؤطر المقال، مما يكشف عن منهجية التوظيف الأيديولوجي للأحداث وتكتيك الدعاية الجهادية.
السياق السياسي والعسكري: تُقدِّم افتتاحية "النبأ" الخلاف العلني بين الولايات المتحدة وأوكرانيا داخل المكتب البيضاوي باعتباره نقطة تحوُّل كبرى في العلاقات بين الحلفاء الغربيين، حيث تصوّره على أنه لحظة مفصلية تُؤشر على بداية تصدّع المعسكر الصليبي، وفق توصيفها. المقال يعيد صياغة هذا الخلاف ضمن رؤية أيديولوجية ترى أن القوى الغربية، التي لطالما اتّحدت في حروبها ضد "المجاهدين"، باتت الآن تنهار داخليًا بفعل التناقضات والصراعات البينية. كما يربط المقال بين هذا المشهد من التوتر السياسي وبين تاريخ طويل من الانقسامات داخل "الحملات الصليبية"، في محاولة لإقناع المتلقّي بأن التفكك والانهيار سُنّة تاريخية ملازمة للغرب، وأن خلافات اليوم ليست سوى امتداد طبيعي لذلك.
وتحاول الافتتاحية تصوير الأزمة الأوكرانية باعتبارها عبئًا غير متوقع أدى إلى استنزاف القدرات العسكرية والاقتصادية للغرب، مُقدّمة الحرب في أوكرانيا على أنها فخ وقع فيه الأمريكيون والأوروبيون على حد سواء. وفق هذا الطرح، لم تحقّق الحرب أهدافها الرئيسية، بل على العكس، تسببت في إنهاك القارة الأوروبية، التي باتت مُجبرة على زيادة إنفاقها العسكري بشكل يُهدّد مستوى رفاهية مجتمعاتها. هذا التفسير يسعى إلى إبراز فشل الاستراتيجية الغربية في إدارة الصراع، وإلى التأكيد على أن هذا الاستنزاف يُهيّئ الظروف لمزيد من التفكك بين الحلفاء، وهو ما يصبّ في مصلحة أعدائهم، وعلى رأسهم تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يقدّم نفسه كخصم دائم لهذا المعسكر.
كما يطرح المقال مستقبل حلف "الناتو" في ظل هذه التوترات، ويشير إلى أن التباين في أولويات الدول الأعضاء، خاصة بين أمريكا وأوروبا، قد يُسرِّع من تفكك هذا التحالف العسكري. الخطاب يوظف هذه الفكرة في سياق أوسع، حيث يُقدّم الناتو على أنه أداة "للحرب الصليبية الحديثة" ضد التنظيم، وبالتالي فإن أي ضعف أو انهيار يعتريه يُعتبر مكسبًا استراتيجيًا للتيارات الجهادية. هذا الربط بين الأزمة الأوكرانية ومستقبل الناتو يُراد منه تعزيز الشعور بأن التهديد الذي كان يمثّله التحالف الدولي ضد التنظيم بات في حالة تراجع، وأن القوى الغربية التي خاضت معارك ضده لم تعد قادرة على الحفاظ على وحدتها، فضلًا عن قدرتها على شنّ حروب جديدة بحجم حملاتها السابقة.
تعتمد افتتاحية "النبأ" على توظيف مكثّف لمصطلح "المعسكر الصليبي"، في استعادة مباشرة للسردية الجهادية التي تضع الصراع مع الغرب في إطار ديني ممتد عبر التاريخ. من خلال هذا التأطير، لا يُنظر إلى النزاعات الجيوسياسية الحالية باعتبارها مجرد خلافات بين دول قومية ذات مصالح متباينة، بل باعتبارها استمرارًا "للحملات الصليبية" التي بدأت منذ قرون، والتي يُصوَّر الغرب فيها ككيان واحد يخوض حربًا طويلة الأمد ضد "المجاهدين". هذا الاستخدام المتكرر للمصطلح لا يخلو من بُعد تعبوي، حيث يهدف إلى تأكيد أن المواجهة مع الغرب ليست مجرد معركة سياسية أو عسكرية، بل معركة عقدية تتطلب استمرارية في الجهاد والمقاومة، بما يتجاوز حدود الخلافات التكتيكية أو الحسابات المرحلية.
وإلى جانب تأطير الصراع كحرب دينية، تعتمد الافتتاحية على توظيف المفاهيم العقائدية لتفسير خلافات الغرب وانقساماته الداخلية، حيث تُقدَّم هذه الانقسامات على أنها "عقاب إلهي" ونتيجة حتمية لفساد العقائد الغربية وانحرافها عن الدين الحق. هذا الطرح يستند إلى الآية القرآنية: "فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، والتي تُوظَّف هنا كدليل على أن التفكك والانقسامات سمة دائمة للمجتمعات الغربية، وأنها تتكرر عبر العصور، مما يعزّز من فرضية الافتتاحية بأن الانقسام الحالي بين أمريكا وأوروبا ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل تجلٍّ جديد لسُنن التدافع بين الحق والباطل. بهذا الشكل، يتحوّل الخلاف السياسي بين حلفاء الناتو إلى تأكيد لما يعتبره الخطاب الجهادي "وعدًا إلهيًا" بهزيمة الأعداء وتآكل قوتهم من الداخل. علاوة على ذلك، فإن هذه الرؤية لا تكتفي بتفسير الخلافات الغربية كعقاب إلهي، بل توجّه رسائل تعبئة لأنصار التنظيم بأن هذا الانقسام يُمثّل فرصة استراتيجية يجب استغلالها. من خلال تصوير القوى الغربية على أنها تفقد وحدتها وتغرق في مشاكلها الداخلية، يسعى المقال إلى زرع قناعة بأن ما عجزت عنه العمليات العسكرية المباشرة للتنظيم قد يتحقق بفعل انهيار أعدائه من الداخل. هذا الخطاب يستهدف رفع معنويات أتباع التنظيم وإقناعهم بأن "النصر" ليس بعيدًا، بل هو نتيجة حتمية لمسار تاريخي مقدّر، ما يعزز من فاعلية الدعاية الجهادية ويمنحها طابعًا حتميًا يصعّب التشكيك فيه داخل الأوساط المؤيدة لهذا الفكر.
توجّه افتتاحية "النبأ" رسائل مزدوجة تستهدف جمهورين رئيسيين: أنصار التنظيم من جهة، وخصومه الجهاديين الذين انخرطوا في العمل السياسي أو تعاونوا مع قوى دولية من جهة أخرى. بالنسبة لأنصار التنظيم، تسعى الافتتاحية إلى بث الأمل في نفوسهم عبر التأكيد على أن القوى الدولية التي شكّلت تحالفًا عالميًا لمحاربة "الدولة الإسلامية" تعاني الآن من أزمات داخلية تُهدّد بانهيارها. يتم تقديم الانقسامات الغربية، خاصة بين الولايات المتحدة وأوروبا، على أنها دليل على حتمية ضعف الأعداء، وأن الجهود العسكرية والسياسية التي بُذلت لضرب التنظيم لم تؤدِّ سوى إلى إنهاك من خاضوها. هذه السردية تهدف إلى تحفيز الأتباع على مواصلة القتال، حيث يُصوَّر لهم المشهد العالمي على أنه يسير باتجاه يخدم مصلحتهم دون الحاجة إلى تحقيق انتصارات عسكرية مباشرة، وإنما بفعل انهيار أعدائهم من الداخل.
أما الرسائل الموجهة إلى خصوم التنظيم من التيارات الجهادية الأخرى، فتتخذ شكل تحذير مبطن ونقد ضمني لمن يعتبرهم المقال "النكث"، أي الجماعات والفصائل التي اختارت العمل ضمن الأطر السياسية أو التحالف مع قوى إقليمية ودولية. تستخدم الافتتاحية مثال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي بات يواجه التوبيخ والإهانة من حلفائه في الغرب، لتقديم نموذج لما سيحدث لمن يثق في دعم القوى الدولية. الرسالة الضمنية هنا واضحة: أي جماعة جهادية تسلك المسار السياسي أو تتحالف مع دول مثل تركيا أو القوى الغربية ستلقى المصير نفسه، حيث سيتم التخلي عنها في اللحظة التي تتغير فيها المصالح الدولية. بهذا، تحاول الافتتاحية إعادة ترسيخ رؤية التنظيم الرافضة لأي شكل من أشكال التفاوض أو التسويات السياسية، مؤكدة أن "الاستقلال الجهادي" هو الخيار الوحيد الآمن. علاوة على ذلك، تحمل الافتتاحية نبرة ازدراء تجاه الفصائل التي سعت إلى كسب الدعم الخارجي، معتبرة أن هذه الجماعات قد أخطأت في حساباتها عندما ظنت أن بإمكانها المناورة والاستفادة من التناقضات الدولية. في المقابل، يدعو المقال أنصار التنظيم إلى النظر إلى الانقسامات الغربية كفرصة يجب استغلالها، وليس كإشارة إلى التكيف مع النظام الدولي أو البحث عن دعم خارجي. هذه الرسائل تأتي في سياق خطاب دعائي يسعى إلى إعادة توحيد الصفوف الجهادية تحت راية "الدولة الإسلامية"، عبر تصوير كل الخيارات الأخرى على أنها مؤقتة وزائلة، تمامًا كما يتلاشى دعم الغرب لأوكرانيا، وفقًا لما تطرحه الافتتاحية.
تعتمد افتتاحية "النبأ" على ثنائية "نحن" و"هم" كأساس لبنيتها الخطابية، حيث يجري تقسيم العالم إلى معسكرين متمايزين تمامًا: "نحن"، وهم المجاهدون وأتباع "الدولة الإسلامية" الذين يُقدَّمون بوصفهم "الطائفة المنصورة"، و"هم"، أي المعسكر الصليبي الذي يشمل الدول الغربية، إضافة إلى "المرتدين" و"النكث" من الفصائل الجهادية الأخرى التي اختارت مسارات سياسية أو تحالفت مع قوى إقليمية ودولية. هذا التقسيم الحاد لا يُستخدم فقط لتعزيز الإحساس بالتمايز العقائدي، بل أيضًا لترسيخ فكرة أن المعركة المستمرة ليست مجرد صراع سياسي أو عسكري، وإنما هي امتداد لصراع عقدي أزلي بين الحق والباطل، حيث لا مجال للحلول الوسط أو المصالح المتبادلة. من خلال هذه الثنائية، يتحول كل خلاف بين القوى الغربية إلى دليل على ضعف العدو، وكل انتكاسة تصيب الفصائل الأخرى إلى برهان على صحة منهج التنظيم، ما يضمن للأتباع إحساسًا دائمًا بالتفوق المعنوي، حتى في ظل التراجع الميداني.
إلى جانب ذلك، تُستخدم هذه الثنائية لتبرير استمرار القتال رغم تقلّص سيطرة التنظيم على الأرض، إذ يتم تقديم المواجهة على أنها ليست معركة جغرافية بقدر ما هي حرب وجودية يجب أن تستمر حتى وإن تراجعت المكاسب العسكرية. في هذا السياق، تصبح الأزمات والانقسامات التي تعصف بالقوى الغربية أو الفصائل الجهادية الأخرى دليلًا إضافيًا على صوابية خيار "الدولة الإسلامية" في رفض العمل ضمن أي منظومة سياسية أو تحالف دولي. هذا التوظيف الدعائي يسعى إلى حماية التنظيم من التفكك الداخلي، عبر منع التساؤلات حول استراتيجياته أو جدوى الاستمرار في القتال، حيث يُحاط الأتباع بخطاب يُقصي أي بدائل، ويُصوِّر كل تراجع على أنه مرحلة في طريق النصر المحتوم، وفقًا لمنطق الصراع المستمر بين "نحن" و"هم".
كما تعتمد افتتاحية "النبأ" على لغة تقريرية ذات طابع يقيني، تُقدّم من خلالها استنتاجات نهائية للقارئ دون ترك مساحة للتساؤل أو النقاش. يستخدم الكاتب تعبيرات حاسمة مثل "إنه انقسام كبير في المعسكر الصليبي هو الأبرز في عصرنا"، و"كل ما سبق يمهد لتفكك النظام الدولي الأمريكي – الأوروبي"، وهي عبارات تحمل في طياتها يقينًا مطلقًا بأن الأحداث الجارية تقود إلى نتائج حتمية. هذه الصياغة الخطابية لا تكتفي بوصف الواقع، بل تسعى إلى فرض تفسير واحد له، مما يمنح القارئ انطباعًا بأن التحليل المعروض هو الحقيقة النهائية التي لا تحتمل التشكيك. في هذا الإطار، يتم تصوير الخلافات بين الدول الغربية ليس كأزمات مرحلية أو تحديات سياسية، بل كعلامات مؤكدة على انهيار وشيك، مما يرسّخ لدى المتلقي الشعور بأن التنظيم يسير في طريق النصر، حتى وإن لم يكن هناك دليل عملي مباشر على ذلك.
إضافة إلى ذلك، تُستخدم هذه اللغة اليقينية كأداة تعبئة نفسية تهدف إلى شحذ حماسة أنصار التنظيم، حيث يتم تقديم الواقع الدولي وكأنه يخضع لمنطق حتمي يتوافق مع الرؤية العقائدية للتنظيم. فبدلًا من عرض الخلافات الغربية كصراعات ذات أسباب سياسية واقتصادية معقدة، يتم تبسيطها إلى كونها "تصدّعًا داخليًا" وانهيارًا "حتميًا" للعدو. هذه المبالغة الخطابية تعمل أيضًا على عزل القارئ عن أي سرديات بديلة، إذ لا تترك مجالًا لاحتمالات أخرى مثل إعادة ترتيب التحالفات الغربية أو نجاح القوى الدولية في تجاوز أزماتها. وبهذا، يتحول المقال إلى أداة لتوجيه القارئ نحو استنتاجات محددة سلفًا، بحيث يصبح التشكيك فيها بمثابة خروج عن "الرؤية الصحيحة" التي يطرحها الخطاب الدعائي للتنظيم.
كما يستخدم المقال توظيفًا مكثفًا للمفاهيم الدينية، حيث تُضفى الشرعية العقائدية على التحليل السياسي من خلال الاقتباسات القرآنية. على سبيل المثال، الاستشهاد بآية {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} يوظَّف لإعطاء بُعد ديني لخلافات الغرب، بحيث لا تبدو مجرد صراعات سياسية طبيعية بين دول ذات مصالح متباينة، بل تتحول إلى دليل على تحقق "الوعد الإلهي" بانقسام أعداء الإسلام. هذا الأسلوب يُحوّل الأزمات السياسية الغربية من كونها نتائج لمتغيرات اقتصادية وعسكرية إلى ظواهر مقدّرة مسبقًا في سياق التدافع بين الحق والباطل. وهكذا، يصبح أي خلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا، أو أي توتر داخل "المعسكر الصليبي"، ليس مجرد حدث سياسي، بل علامة على "نصر إلهي قادم"، مما يعزّز إحساس أتباع التنظيم بأنهم جزء من مشروع ديني ممتد عبر الزمن، وليس مجرد فصيل مسلح يخوض معركة عسكرية عادية.
إضافة إلى ذلك، يلجأ المقال إلى استدعاء مفهوم "الحروب الصليبية"، حيث يتم تأطير الصراع الحالي بين التنظيم والغرب ضمن امتداد تاريخي طويل للحروب بين "المجاهدين" و"التحالف الصليبي". هذا الإطار العاطفي - الديني يخاطب المشاعر أكثر من المنطق السياسي، إذ يعيد إحياء صورة العدو التقليدي، ما يضمن استجابة نفسية قوية لدى المتلقي المستهدف. فبدلًا من التعامل مع الولايات المتحدة والغرب بوصفهم قوى سياسية ذات مصالح متغيرة، يتم تصويرهم كامتداد للصليبيين الأوائل الذين خاضوا حروبًا ضد المسلمين في العصور الوسطى. هذا الربط الزمني يُعزّز إحساس المظلومية والعداء الديني لدى القارئ، ويجعله أكثر تقبلًا لفكرة أن الصراع الحالي ليس مجرد مواجهة سياسية، بل "حرب مقدسة" يجب الاستمرار فيها بغض النظر عن التحديات.
رسالة إلى الأنصار: الفرصة سانحة
تحمل الافتتاحية رسالة واضحة لأنصار التنظيم، مفادها أن لحظة الاضطراب الدولي تمثل فرصة يجب اغتنامها. فحين يشير المقال إلى ضرورة "استغلال الانقسام والاستعداد له"، فإنه لا يكتفي بوصف المشهد السياسي، بل يوجه دعوة ضمنية إلى تكثيف العمليات الإرهابية، مستغلًا حالة التصدع داخل المعسكر الغربي. يتم تقديم هذا التوتر الدولي وكأنه "نافذة فرص" يجب ألا تضيع، حيث يروج المقال لفكرة أن القوى الغربية أصبحت منشغلة بمشكلاتها الداخلية، مما يفتح المجال أمام التنظيم لاستعادة زمام المبادرة. هذه الرسالة تخدم غرضين رئيسيين: الأول، تحفيز عناصر التنظيم على الاستمرار في القتال رغم التراجعات العسكرية التي شهدها، والثاني، تعزيز الشعور بأن التنظيم جزء من معادلة عالمية كبرى، وليس مجرد فصيل معزول يحارب في ظروف غير مواتية.
رسالة إلى الجهاديين المنافسين
يوجه المقال انتقادًا ضمنيًا إلى الجماعات الجهادية الأخرى التي اختارت نهجًا مختلفًا، مثل "هيئة تحرير الشام" أو الفصائل الموالية لتركيا، معتبرًا أن لجوءها إلى المجتمع الدولي لم يجلب لها سوى الوهم. فحين يُبرز المقال كيف أن "أمريكا تتخلى عن أقرب حلفائها"، فإنه يرسي مقارنة غير معلنة بين زيلينسكي، الذي تعرض للإهانة رغم كونه شريكًا للغرب، وبين الفصائل الجهادية التي حاولت كسب دعم القوى الدولية. الرسالة هنا تهدف إلى تحقير تلك الجماعات وإثبات أن "الرهان على الغرب هو خيانة خاسرة"، وبالتالي تشويه خياراتهم السياسية والعسكرية. بهذه الطريقة، يسعى المقال إلى استقطاب أعضاء هذه التنظيمات، أو على الأقل زعزعة ثقتهم بقياداتهم، عبر الإيحاء بأن التنظيم وحده هو الذي تمسك بـ"الطريق الصحيح" ولم يقع في فخ التنازلات السياسية.
على الرغم من أن المقال لا يخاطب الغرب بشكل مباشر، إلا أنه يعيد إنتاج صورة "الغرب المتفكك" بهدف تعزيز الدعاية الجهادية. يتم تقديم الصراعات داخل التحالفات الغربية ليس كمجرد أزمات عابرة، بل كعلامات مؤكدة على الانهيار القادم، مما يزرع لدى القارئ الشعور بأن "النصر مسألة وقت". هذا الخطاب يُستخدم لتعزيز صورة التنظيم كقوة صامدة تواجه خصومًا يتداعون من الداخل، في محاولة لإعادة الثقة لدى الجمهور الجهادي بعد الانتكاسات الميدانية التي تعرض لها التنظيم. علاوة على ذلك، فإن هذه السردية تسهم في إضعاف هيبة القوى الغربية في نظر المتعاطفين مع التنظيم، من خلال التشكيك في قدرتها على إدارة تحالفاتها أو الاستمرار في مواجهة طويلة الأمد، وهو ما يعزز بدوره الدعاية القائلة بأن المشروع الغربي في الشرق الأوسط بات هشًا وقابلًا للانهيار.
رابعًا: تحليل البنية الدعائية للمقالالتضخيم والتفسير الانتقائي للأحداث: يعتمد المقال على تضخيم الخلاف بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، مقدمًا "موقعة المكتب البيضاوي" كمؤشر على انهيار العلاقة بين الحليفين، في حين أن الدعم الأمريكي لكييف لا يزال مستمرًا، وإن كان يخضع لحسابات سياسية داخلية. هذا التفسير الانتقائي يتجاهل العوامل المركبة التي تحكم السياسة الأمريكية، مثل الأولويات الانتخابية والمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى، ويركز بدلًا من ذلك على لحظة محددة من التوتر لتقديمها باعتبارها دليلًا قاطعًا على تصدع المعسكر الغربي. كذلك، فإن الإصرار على تصوير زيلينسكي كزعيم "مُهان ومُذلول" يخدم غرضًا دعائيًا واضحًا: التشكيك في جدوى التحالف مع الغرب، ليس فقط بالنسبة لأوكرانيا، بل أيضًا كرسالة موجهة إلى الجماعات الإسلامية التي تتعاون مع القوى الغربية، في تلميح بأن مصيرها لن يكون أفضل من مصير زيلينسكي.
التلاعب العاطفي والدينييستخدم المقال مفردات مُحمّلة بدلالات عاطفية ودينية قوية، مثل "الانقسام الصليبي"، "النكث"، و"التحالف العالمي ضد الدولة الإسلامية"، وهي عبارات مصممة لإثارة مشاعر جمهور التنظيم وتعزيز إحساسه بالمظلومية والاستهداف. من خلال إعادة إنتاج سردية الصراع التاريخي بين الإسلام والغرب، يسعى المقال إلى تقديم المشهد السياسي المعاصر كامتداد للحروب الصليبية، مما يضفي عليه طابعًا دينيًا يتجاوز كونه صراعًا جيوسياسيًا تقليديًا. هذه الاستراتيجية تجعل الصراع يبدو وكأنه حتمي وأبدي، مما يساعد في تبرير استمرار العمليات الجهادية باعتبارها "رد فعل مشروعًا" على العدوان الغربي، كما تخلق إحساسًا بالتمايز بين "المجاهدين" و"العالم الجاهلي"، وهو ما يعزز الشعور بالولاء والانتماء لدى القاعدة الجهادية.
تشتيت الانتباه بعيدًا عن خسائر التنظيميتجاهل المقال تمامًا أي إشارات إلى الضربات التي تعرض لها التنظيم مؤخرًا، سواء من حيث فقدان الأراضي أو استهداف قياداته، وبدلًا من ذلك، يصوغ سردية تركز على تفكك الأعداء، مقدمًا ذلك كدليل على أن التنظيم لا يزال صامدًا رغم الضغوط التي يواجهها. هذه الاستراتيجية ليست جديدة في الخطاب الجهادي، حيث يتم تجنب الحديث عن النكسات العسكرية والتنظيمية، واستبدالها بروايات حول ضعف وتشرذم الخصوم، ما يهدف إلى الحفاظ على الروح المعنوية للأنصار والمتعاطفين. كما أن هذه المقاربة تخلق انطباعًا بأن انهيار "التحالفات الصليبية" هو مسألة وقت، مما يعزز لدى الجمهور الجهادي قناعة بأن التنظيم لا يزال يمتلك زمام المبادرة، حتى لو كانت الحقائق الميدانية تعكس واقعًا مختلفًا.
الخطاب ضمن مساره العام
هذه الافتتاحية نموذج واضح لاستراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية في توظيف الأحداث العالمية لخدمة دعايته، إذ يتم انتقاء الأخبار التي تدعم سرديته، والتلاعب بدلالاتها لتبدو كإشارات على قرب انهيار التحالفات الغربية. ومن خلال إعادة إنتاج السرديات التقليدية حول "الصليبية"، يسعى المقال إلى تعميق عزلة أنصاره نفسيًا وفكريًا، وإبقائهم ضمن دائرة التفسير الجهادي للعالم.
لكن في الوقت نفسه، يُظهر المقال نوعًا من القلق الضمني؛ فالإفراط في التركيز على "ضعف العدو" قد يعكس حاجة التنظيم لتعويض حالة الانحسار التي يعيشها. وهنا تكمن المفارقة: الخطاب يبدو واثقًا، لكنه في الواقع يكشف عن أزمة وجودية يحاول التنظيم إخفاءها عبر دعاية تعتمد على الإسقاط والانتقاء.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: تنظيم داعش الحملات الصليبية زيلينسكي بین الولایات المتحدة الدولة الإسلامیة یسعى المقال إلى القوى الدولیة القوى الغربیة الاستمرار فی بأن التنظیم أن التنظیم التشکیک فی الشعور بأن یتم تقدیم سیاسیة أو من الداخل على أنها الخطاب ی لیس مجرد دلیل على أن القوى ا الخطاب على أنه على ذلک من خلال توظیف ا ما یعزز على أن
إقرأ أيضاً:
محاولة فرنسية طموحة لاختراق حصانة الأسد
واجه السعي إلى تحقيق المساءلة عن الفظائع الجماعية المرتكبة إبان النزاع السوري عقبات جسيمة في بنية النظام القانوني الدولي، ولا سيما عندما يكون المتهم يشغل، أو شغل سابقا، أعلى هرم السلطة في الدولة.
وفي هذا السياق، تبرز الحملة القضائية الفرنسية المطولة ضد بشار الأسد، الرئيس السوري الهارب، بوصفها من أهم التطورات في هذا المضمار.
فقد تطورت هذه الحملة من شكاوى تحقيقية أولية إلى إجراءات قضائية مباشرة، بلغت ذروتها في إصدار مذكرات توقيف دولية تتحدى، عمليا ونظريا، مبادئ الحصانة السيادية الراسخة.
شكل انهيار نظام الأسد في نهاية 2024 نقطة تحول حاسمة، فقد أدى تقاطع فقدان الأسد للحصانة الشخصية بعد الإطاحة به وهروبه إلى روسيا، مع التطورات الفقهية البارزة في القضاء الفرنسي، إلى خلق ظروف غير مسبوقة لمساءلة رئيس دولة سابق عن جرائم ضد الإنسانية.
تطور الإجراءات القانونية: من الشكاوى التحقيقية إلى المقاضاة المباشرةسلكت الحملة القانونية ضد بشار الأسد مسارا تدريجيا اتسم بالانتكاسات الإجرائية والتقدم الإستراتيجي المتدرج؛ فقد بدأ انخراط القضاء الفرنسي في التعامل مع الفظائع المرتكبة في سوريا من خلال شكاوى تحقيقية رفعها ناجون ومنظمات مجتمع مدني، قادت إلى فتح تحقيقات أولية في حوادث محددة، من أبرزها هجمات الأسد بالأسلحة الكيميائية على الغوطة الشرقية.
وقد جرى تقييد هذه الإجراءات الأولى بمبدأ الحصانة الشخصية الذي يحمي رؤساء الدول من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية بموجب القانون الدولي العرفي.
وعلى الرغم من هذه الانتكاسات، مثّل إصدار مذكرة التوقيف عام 2023 محاولة طموحة لاختراق حصانة الأسد، وهو لا يزال في السلطة.
مع ذلك اصطدمت هذه المحاولة بعقبة متوقعة عندما وصلت القضية إلى أعلى هيئة قضائية في فرنسا. إذ ألغت محكمة النقض مذكرة التوقيف ملتزمة التزاما صارما بقواعد القانون الدولي العرفي المتعلقة بحصانة رؤساء الدول.
إعلانورفضت المحكمة صراحة الحجج القائلة؛ إن الجرائم الدولية تشكل استثناء من الحصانة الشخصية التي يتمتع بها القادة الحاليون، مؤكدة بذلك الإطار القانوني التقليدي الذي يعطي الأولوية لاستقرار سير العلاقات الدولية، على حساب الملاحقة الجنائية الفردية.
أدى سقوط نظام الأسد في نهاية عام 2024 إلى تغيير جذري في هذه المعادلة القانونية؛ إذ أفضى هروب الأسد اللاحق إلى روسيا إلى سقوط الحصانة الشخصية عنه، باعتبار أن الحماية مرتبطة بالمنصب لا بالفرد. وكانت النتيجة المباشرة إصدار ما عُرف بـ "مذكرة أكتوبر/تشرين الأول 2025″، وهي ثالث وأهم إجراء قضائي موجه ضد الرئيس السابق.
وقد استفادت المذكرة من زوال العقبات الإجرائية التي أحبطت الجهود السابقة، ما جعلها أداة قانونية قابلة للتنفيذ، تحول الإجراءات الفرنسية من إدانة رمزية إلى مقاضاة جوهرية ذات أثر قانوني وقضائي فعلي.
التعامل مع مبدأ الحصانة: الشخصية والوظيفيةتعتمد الجدوى القانونية لمذكرة أكتوبر/تشرين الأول 2025 على التمييز بين شكلين من الحصانة السيادية، ويشكل توضيحهما أحد أهم الإسهامات الفقهية التي أفرزتها الإجراءات الفرنسية؛ ففهم هذا التمييز يعد أمرا أساسيا؛ لاستيعاب القيود التي عرقلت جهود المساءلة لعقود طويلة، وكذلك إدراك التحول الذي أتاح في النهاية إمكان الملاحقة القضائية.
الحصانة الشخصية، تحمي بعض كبار مسؤولي الدولة، ومن بينهم رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، من الخضوع للولاية القضائية الجنائية الأجنبية طوال مدة ولايتهم.
وهذه الحصانة مطلقة في نطاقها، وتمتد لتشمل جميع الأفعال بغض النظر عن طبيعتها، وتستند أساسا إلى ضرورة تمكين الدولة من إدارة علاقاتها الخارجية دون اضطراب قد ينشأ عن ملاحقات جنائية في محاكم أجنبية.
وقد جسد إلغاء محكمة النقض مذكرة عام 2023، التطبيق الصارم لهذا المبدأ؛ إذ قررت المحكمة أن وضع الأسد كرئيس في السلطة وقت إصدار المذكرة يحول دون ممارسة الاختصاص القضائي الفرنسي، بصرف النظر عن خطورة الجرائم المنسوبة إليه. ولم يسقط هذا الدرع القانوني إلا عند انتهاء رئاسته فعليا، وعند تلك اللحظة أصبح معرضا للملاحقة عن أفعاله السابقة.
ومع زوال الحصانة الشخصية نتيجة فقدان الأسد لمنصبه، انتقل التركيز تلقائيا إلى الفئة الثانية من الحماية: الحصانة الوظيفية أو الموضوعية، وينصرف هذا النوع من الحصانة إلى الأعمال الرسمية التي تنفذ باسم الدولة، لا إلى الشخص القائم بها. وبموجب هذا المبدأ، يتمتع المسؤولون السابقون بحماية إزاء الأفعال التي قاموا بها بصفتهم الرسمية، باعتبار أن هذه الأفعال تنسب إلى الدولة ذاتها لا إلى الفرد.
شكل القرار الصادر في يوليو/تموز 2025، والمتعلق بمحافظ البنك المركزي السوري السابق أديب ميالة، سابقة قضائية أثرت مباشرة في مسار محاكمة الأسد؛ فقد قضت المحكمة العليا الفرنسية في تلك القضية بعدم جواز التذرع بالحصانة الوظيفية في مواجهة الجرائم الدولية، ومن بينها الجرائم المرتبطة بالحرب الكيميائية.
ورسخت سابقة ميالة عمليا أن فئات معينة من السلوك، وتحديدا تلك التي تشكل جرائم فظيعة بموجب القانون الدولي، لا يمكن توصيفها بوصفها وظائف دولة مشروعة تستحق الحماية بالحصانة.
إعلانويترتب على تطبيق هذا المبدأ على محاكمة الأسد نتيجة واضحة: أن الرئيس السابق، قد أصبح الآن مواطنا عاديا، لا يمكنه الاحتماء بالحصانة الوظيفية عن أفعاله الرسمية المتمثلة في إصدار الأوامر بشن هجمات كيميائية، باعتبارها، وفق منطق محاكمة ميالة، أفعالا منبتة عن الوظائف المشروعة للدولة، وبالتالي لا يبقى أي دفاع قائم على الحصانة متاحا له.
الأطر القضائية والمحاكمة الغيابيةتستند الإجراءات الفرنسية إلى إطار متين للاختصاص القضائي ذي طابع مزدوج، يمكّن القضاء الوطني من العمل كوكيل للعدالة الدولية عندما تتعطل المحاكم المحلية أو الدولية. ويتألف هذا الإطار من أساسين متكاملين لتأكيد الاختصاص على الجرائم المرتكبة خارج الإقليم الفرنسي.
الركيزة الأولى؛ هي الاختصاص القضائي خارج الإقليم القائم على وجود ضحايا فرنسيين/سوريين، وهو ما يعرف في القانون الدولي بمبدأ "الشخصية السلبية".يسمح هذا المبدأ لفرنسا بمقاضاة الجرائم المرتكبة في الخارج عندما يكون الضحايا من حاملي الجنسية الفرنسية. ويشكل العدد الكبير من مزدوجي الجنسية داخل الجاليات السورية في فرنسا أساسا صلبا لمثل هذا الادعاء القضائي، إذ يربط الجرائم الواقعة في سوريا مباشرة بالنظام القانوني الفرنسي من خلال رابطة الجنسية.
أما الركيزة الثانية؛ فهي الولاية القضائية العالمية، التي توسع نطاق الاختصاص الفرنسي ليشمل الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، بغض النظر عن مكان ارتكابها أو جنسية الجاني أو الضحية.ومع أن ممارسة الولاية القضائية العالمية في فرنسا تخضع لجملة من الشروط، مثل اشتراط الإقامة الاعتيادية للمشتبه به على الأراضي الفرنسية في بعض الحالات، فإن الطبيعة الخاصة لجرائم الأسلحة الكيميائية بوصفها جرائم ضد الإنسانية تتيح تطبيقا أكثر مرونة لهذا الاختصاص.
ويضمن هذا النهج المرن عدم إفلات أخطر انتهاكات القانون الإنساني الدولي من المساءلة، تحت ذريعة التعقيدات المرتبطة بالتواجد أو الإقامة.
ومن السمات المميزة للنظام القانوني الفرنسي، والتي اكتسبت أهمية إستراتيجية في إجراءات محاكمة الأسد، السماح بالمحاكمة الغيابية. فعلى خلاف المحكمة الجنائية الدولية، التي تشترط حضور المتهم جلسات المحاكمة، يجيز القانون الفرنسي استمرار الإجراءات حتى في غياب المتهم.
وتحول هذه الخاصية الإجرائية مذكرة التوقيف الصادرة في أكتوبر/تشرين الأول 2025 من مجرد خطوة رمزية إلى آلية لإنشاء سجل قضائي. وحتى لو امتنعت روسيا عن تسليم المتهمين -وهو ما يعد متوقعا- فإن المحاكمة المقررة عام 2027 ستتيح تقديم الأدلة، وسماع الشهود، وإصدار حكم علني.
وبهذا، لا تؤدي المحاكمة الغيابية الوظيفة المباشرة المتمثلة في إقرار المسؤولية الجنائية فحسب، بل تضطلع كذلك بدور أوسع يتمثل في توثيق الفظائع عبر نتائج قضائية موثوقة وقابلة للاستخدام في سياقات أخرى.
تحديات التنفيذ وإستراتيجية سلسلة القيادةيؤدي إصدار الإنتربول نشرات حمراء بناء على مذكرة التوقيف الفرنسية إلى تفعيلها في 191 دولة عضوا، ما ينشئ آلية إنفاذ عالمية تتيح، نظريا، توقيف الأسد وتسليمه حيثما وجد.
غير أن لجوءه إلى روسيا يطرح في الواقع العملي عائقا جوهريا أمام التنفيذ الفوري؛ فموسكو تمتلك الإرادة السياسية والذرائع القانونية- سواء صيغت في إطار الحماية الإنسانية أو الاستناد إلى بقايا مفترضة من حصانة دبلوماسية- لرفض تسليمه.
لقد وصف الوضع الناجم عما سبق بأنه "تأثير القفص الذهبي"؛ فمع أن احتمال الاعتقال الفعلي يبدو مستبعدا في الأمد القريب، تقيد مذكرة التوقيف قدرة الأسد على السفر إلى أي دولة عضو في الإنتربول، وتحد من قدرته على الوصول إلى الأنظمة المالية في الولايات القضائية التي تلتزم بالتزاماتها القانونية الدولية.
وبهذا، يصبح الأسد محصورا فعليا داخل الأراضي الروسية، أو في عدد محدود من الدول المستعدة لتجاهل مذكرات التوقيف الدولية (غالبا دول استبدادية موالية لروسيا)، وهو قيد مهم حتى إن لم يرقَ إلى مستوى الاحتجاز المادي.
إعلانوإدراكا للقيود الملازمة لملاحقة القائد الأعلى وحده، اعتمدت وحدة جرائم الحرب في فرنسا ما يمكن وصفه بإستراتيجية "التحقيق الهيكلي". فمن خلال رسم خريطة منهجية لسلسلة القيادة بأكملها، من الفرقة الرابعة التي لعبت دورا محوريا في العمليات العسكرية، إلى مركز الدراسات والبحوث العلمية الذي أشرف على تطوير برنامج الأسلحة الكيميائية، يهيئ المدعون العامون ملفات قضايا ضد قادة من المستوى المتوسط قد يكونون أكثر عرضة للتوقيف من الأسد نفسه.
ويضمن هذا النهج الشامل للمساءلة تفكيك البنية التحتية الإجرامية للنظام قانونيا، حتى لو ظلت قمته بعيدة المنال مؤقتا. وتعكس هذه الإستراتيجية فهما متقدما لمتطلبات العدالة في سياق الفظائع الجماعية، إذ تركز على منظومة جرائم الدولة ككل بدلا من الاكتفاء بالتركيز على الشخصيات القيادية الكبرى.
خاتمةتمثل الإجراءات الفرنسية ضد بشار الأسد نقلة نوعية في تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية على رؤساء الدول السابقين. فمن خلال تجاوز ما يمكن وصفه بـ "فجوة الحصانة" عبر تضافر ظرفين رئيسين: انهيار نظام الأسد، والتطور الفقهي المتمثل في حكم ميالة بشأن الحصانة الوظيفية، أرست المحاكم الفرنسية نموذجا يحتذى لمقاضاة الدكتاتوريين المخلوعين.
ستؤدي المحاكمة المتوقعة عام 2027 وظائف متعددة في آن واحد؛ فأهميتها الأولى تكمن في توفير منبر قضائي يتيح قدرا من العدالة لضحايا الأسد، وعلى مستوى أوسع، ستكون بمثابة اختبار لمدى فاعلية المحاكم الوطنية في إنفاذ قواعد القانون الإنساني الدولي في حقبة لا تزال فيها الآليات الدولية رهينة سياسات القوى الكبرى.
وبذلك، لا تنحصر الحملة الفرنسية في كونها ممارسة قضائية وطنية، بل تسهم في تشكيل البنية المتطورة للعدالة الجنائية الدولية، مثبِتة أن مبدأ المساءلة عن أخطر الجرائم يمكن أن يجد تجسيده من خلال النظم القانونية الوطنية عندما تكون مجهزة بالأطر القضائية المناسبة، والإرادة السياسية اللازمة.
ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا النموذج سيثبت قابليته للتكرار في سياقات أخرى، غير أن السابقة التي كرستها الإجراءات الفرنسية تمثل تطورا مهما في المسار العالمي نحو مساءلة مرتكبي الجرائم الفظيعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline