الإنسان في هذا الكون ليس مجرد شخص يأكل ويتكاثر، ثم يؤول إلى الزوال، ولا عددًا إحصائيًا في أرشيف الحياة، بل هي رحلة تمتد من لحظة الميلاد المختلطة بالصرخات والضحكات إلى آخر ثانية يغادر فيها هذا العالم المليء بالأسئلة الوجودية، وأهم هذه الأسئلة هو: «لماذا أنا هنا؟».
في كتاب «الإنسان والبحث عن المعنى» للكاتب فيكتور فرانكل، وهو أحد مؤسسي العلاج بالمعنى، يبحر فرانكل في عباب النفس البشرية، ويحدثنا عن تجربته كسجين في معسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية، والتي من خلالها تجلت له قيمة المعنى في هذه الحياة، فهو لم يكتب سيرة سجين في أحد سجون العالم البشع، بل كتب لنا معنى للسعادة حتى في أشد وأقسى اللحظات المؤلمة التي تمر على الإنسان.
حين يُزجّ بشخص في أقذر سجون العالم بلا جرم أو خطيئة، يكون أمام خيارين: هل يتمسك بإنسانيّته أم يتحول إلى مسخ لا تهمه إلا غريزة البقاء؟
في الفصل الأول من كتاب «الإنسان والبحث عن معنى»، يسرد فرانكل تجربته في أقذر معسكرات النازية «أوشفيتز» -وهو عبارة عن 40 معسكر اعتقال وإبادة جماعية - ليس بصفته مؤرخًا لأقسى السجون، بل طبيبًا وجد نفسه فأر تجارب ومعالجًا نفسيًا في الوقت ذاته.
يذكر فرانكل تفاصيل المشهد الأول حين اصطف في طابور طويل مجردًا من اسمه وكرامته وشرفه، حيث تنقسم الحياة إلى قسمين: البقاء أو الفناء، فهنا يتجلى لفرانكل أهم سؤال يجعله صامدًا إلى آخر لحظة له في هذا المعتقل، وهو: «ما الذي يجعل الإنسان يصمد حين تُسلب منه كل أسباب الحياة؟».
بعد ذلك لاحظ فرانكل أن أكثر الناس صمودًا في وجه هؤلاء السجانين القساة ليسوا الأقوى جسديًا، بل أولئك الذين يجدون معنى في الألم، أي كرجل يتذكر زوجته في اللحظات القاسية، فيضيء الحنين داخله شعلة تقاوم الانطفاء، وآخر يستعيد قصيدة أحبها، فيجد فيها ملاذًا يقيه وحشية الحاضر، وثالث يزرع في داخله أملًا صغيرًا بأنه سيخرج يومًا ليحكي ما حدث، فيكتسب الألم عنده قيمة الحكاية. وكما يقول أرسطو: «إن الغاية من وجود الإنسان هي تحقيق السعادة»، بمعنى أن السعادة تحتاج إلى تحقيق، والتحقيق يحتاج إلى رحلة تمتزج بها بعض المشقات التي تصادف الإنسان دون سابق معرفة، أو كما يقول نيتشه: «من الفائدة أن نعيش نكسات حقيقية في حياتنا لكي نشعر بطعم السعادة». فالسعادة مرتبطة تمامًا بالألم، وبدون ألم وتعب ومشقة، لا وجود للسعادة، ولكي يتكيف الإنسان مع الألم لا بد أن يكون هناك معنى يقوده إلى السعادة.
ويشير فرانكل بعد ذلك إلى مرحلة جديدة يمر بها الإنسان في هذا السجن البشع، وهي مرحلة التبلد العاطفي، أي إن الإنسان بعد تعرضه للكثير من الإهانة والتجويع المستمر، يظهر لديه نوع من التخدير النفسي الذي يجعله لا يبالي بأي نوع من مشاهد التعذيب والصراخ وكأنها جزء من ضجيج لا يعنيه. فهذا التبلد ليس قسوة فطرية، بل وسيلة دفاع تحمي النفس من الانهيار التام.
ويلاحظ فرانكل أن السجناء الذين نجوا نفسيًا ــ حتى لو لم ينجوا جسديًا ــ كانوا أولئك الذين استطاعوا أن يخلقوا لأنفسهم معنىً شخصيًا في التجربة، فمنهم من رأى في المعاناة فرصة لاختبار صبره، ومنهم من تخيل أنه سيقف يومًا أمام طلابه ليحدثهم عن تلك الأيام السوداء، ومنهم من تمسك بصورة الحبيب الغائب كأنها حبل نجاة وحيد. ويقول فرانكل إن المعتقل مدرسة قاسية، يتعلم فيها الإنسان طريقة يبحث فيها عن معنى يمنحه البقاء.
بعدها يضع فرانكل حجر الأساس لأهم فكرة في فلسفته الوجودية، وهي: «بين ما يحدث لك، وبين رد فعلك، هناك مساحة صغيرة، في هذه المساحة تكمن حريتك وكرامتك الإنسانية»، بمعنى أن السجناء أصبحوا أرقى من السجانين الذين يصرخون ويضربون بلا سبب، فهم بنظر فرانكل مجرد هراوات عمياء لا تبصر الحقيقة، بينما السجين الذي يختار أن يمنح قطعة خبزه الأخيرة لصديقه، أو الذي يبتسم رغم البرد والظلم، كان يمارس أرقى درجات الحرية الإنسانية.
وكما يعيد فرانكل تعريف البطولة فيقول: «ليست البطولة هي القوة الجسدية، ولا القدرة على تحدي الألم بصلابة، بل على العكس، البطولة هي اختيار موقفك الداخلي، حتى وأنت عاجز عن تغيير الخارج». وهنا إسقاط للمهاتما غاندي: «البطولة أن تواجه الظلم بلا عنف».
ومن أهم المفاهيم لدى فيكتور فرانكل هو «إرادة المعنى»، وهي أن الإنسان في هذا العالم يبحث عن معنى أعمق لوجوده، وأن وجوده في هذا العالم ليس مجرد مصادفة بلا معنى. كان فرانكل يعارض أفكار بعض الفلاسفة وعلماء النفس الذين قالوا إن الدافع الأساسي للإنسان هو السعي وراء المتعة (كما قال فرويد)، أو السعي وراء القوة والسيطرة (كما قال آدلر). أما بالنسبة لفرانكل، فالإنسان يمكنه تحمل الألم والجوع والمآسي، إذا عرف لماذا يتحملها.
إرادة المعنى عند فرانكل هي قوة داخلية تدفع الإنسان للبحث عن هذا الهدف الشخصي العميق، حتى لو كان في أحلك الظروف. فمثلًا، قد يكون المعنى أن تحب شخصًا عزيزًا، أو الوفاء لقضية أو رسالة، أو تحقيق حلم، أو حتى إيجاد قيمة داخل الألم نفسه.
وأشار فرانكل في الكتاب إلى سؤالين وجوديين، وهما: ما معنى الحياة؟ وما جوهر الوجود؟ ومن خلال إجابته عن هذين السؤالين، يقول إن معنى الحياة يتغير من موقف إلى موقف، ويصنعه الإنسان من خلال تجربته الفريدة واختياراته. أما جوهر الوجود فهو ثابت لا يتغير، وهو نابع من كون الإنسان كائنًا حرًا يملك حق تحديد موقفه الداخلي حتى في أسوأ الظروف.
ومن ضمن الأسئلة العميقة لدى فرانكل في تجربته المؤلمة، يدرج لنا معنى في الحب ومعنى في المعاناة، إذ يذكر أنه في أحلك وأصعب الليالي في المعتقل، كان دائمًا ما يتأمل وجه زوجته الغائبة «تيللي»، وكان يشعر أن هذا التأمل يعيد له الحياة. أما عن معنى المعاناة، فهو يشرح كيفية القدرة على تحويل الألم الشخصي إلى تجربة ذات معنى، واستخدامها لإثبات أن الإنسان أقوى من الظروف.
ومن جماليات المعنى لدى الكاتب، يضع لنا بلسمًا عن زوال الحياة، وهو أن كل لحظة في حياة الإنسان زائلة بطبيعتها، فلو كانت الحياة أبدية لما كان لها معنى خاص، أي أن قيمة اللحظة تأتي من كونها عابرة، ومن كونها فرصة لن تتكرر بنفس الشكل، وكل لحظة نعيشها، مهما كانت عابرة، تظل منقوشة في نسيج الزمن. وكل موقف تحملناه بشجاعة، وكل كلمة حب قلناها، وكل تضحية قدمناها، تبقى جزءًا من قصتنا الشخصية، والمعنى الذي نمنحه لها يبقى خالدًا للأبد.
مرت السنوات على فرانكل في المعتقل قاسية جدًا، لكنها مزهرة بالمعنى، إلى أن أتى عام 1945، حيث حررت قوات الحلفاء كل السجناء في المعتقلات النازية. عندما خرج، لم يكن فرانكل مجرد ناجٍ يبحث عن حياة جديدة، بل كان رجلًا ولد من جديد بفلسفة كاملة. كان قد فقد زوجته تيللي ووالديه وأغلب أفراد أسرته في المحرقة، لكنه خرج مقتنعًا أن المعاناة التي عاشها ليست عبثًا، بل درسًا وجوديًا عميقًا. بعدها، عاد إلى فيينا وحيدًا، وبدأ بناء حياته الشخصية من جديد بعد فقد أسرته بالكامل، وقام بتأسيس مدرسة العلاج بالمعنى أو اللوجوثيرابي، وأساس هذا العلاج هو أن الإنسان قادر على تحمل أي شيء إذا وجد معنى لحياته ومعاناته.
وصارت فلسفته مزيجًا بين التحليل النفسي والتأمل الفلسفي العميق في معنى الحياة، والحياة التي عاشها ليست عبثًا، بل درسًا وجوديًا عميقًا، بعدها عاد إلى فيينا وحيدًا، وبدأ بناء حياته الشخصية من جديد بعد فقد أسرته بالكامل، وقام بتأسيس مدرسة العلاج بالمعنى أو اللوجوثيرابي، وأساس هذا العلاج هو إن الإنسان قادر على تحمل أي شيء إذا وجد معنى لحياته ومعاناته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عن معنى معنى فی فی هذا
إقرأ أيضاً:
شَظَفُ الطَّبْع
بقلم: دانيال حنفي القاهرة (زمان التركية)- ليس إسلامُ الشخصيات العظيمة وتحولها من معتقد ديني أو حالة عقائدية ما إلى الإسلام سوى رحلةٍ في الأدب الإنساني، تعكس تطورًا مرموقًا وجديرًا بالإعجاب في شخصية الإنسان الذي يملك كل مطامع الحياة التي يسعى إليها الناس أجمعون تقريبًا: المال، والشهرة، والجنس، والأسرة، والسلطة، والعلاقات، والأموال، والعقارات.
فنرى في الشخصية الشهيرة، بعيدةِ النجوم، إنسانًا أكثر تواضعًا وبساطةً من بعض البسطاء، وذلك أدبًا واحترامًا للحقيقة التي قادته إليها محاولاته المخلصة، صافيةِ الهدف والغرض، للتوصل إلى حقيقة نفسه، وإلى حقيقة الوجود، عبر سنوات، وربما عقود طويلة من التفكر والبحث.
وأدبًا واحترامًا لما عثر عليه في محاولاته للتخلص من الخواء الإيماني الذي ملأ صدره عبر عشرات السنين، وأصبح معلَّقًا بكثير من الأسئلة الدقيقة التي تحتاج إلى أجوبة شافية، لا مجاملة فيها لأي اعتبار.
فعندما يرحل النهار، ويقبل الليل، وتضع ضوضاء الحياة رحالها، وينفض الناس والأصدقاء والجيران، كلٌّ إلى سبيله أو إلى بيته، لا يسمع المرء سوى صوت نفسه، وصوت ضميره، وصوت آلامه وأوجاع أحزانه التي تحرمه من الاسترخاء أحيانًا، ومن النوم أحيانًا، ومن الاستمتاع بحياته أحيانًا، وتدفعه إلى البحث عن إجابات نزيهة مفصّلة حتى النهاية، لا شبهة فيها ولا رياء.
فاتباعُ الإجابةِ السليمةِ القلبِ هو السبيل إلى الراحة الدائمة، وإلى السلام النفسي. وما خلا ذلك، فلن يكون سوى مرحلة جديدة من الضياع في متاهات الظن، والفكر، والتاريخ.
ومن ناحية أخرى، يجد المرء أن تجاهل تساؤلات القلب واستفسارات الضمير ليس قوة ولا عظمة ولا “شطارة”، بل هو استكبار وعلوّ، لا خير فيه، ولا نماء، ولا أدب.
فإن لم يكن هناك التزامٌ خارجيٌّ مسلَّطٌ على المرء يدفعه للبحث عن إجابات لأسئلته، فإن الكرامة الإنسانية، والفضول الحميد، يدفعان الإنسان إلى إنكار الكذب، ولو جاء من المقرّبين، ومن الأصدقاء، ومن نادٍ من الرفاق وأصحاب المصالح، ويدفعانه إلى تلمّس النور والاقتراب منه.
والاقتراب من النور يمنح شعورًا بالرضا عن النفس، وشعورًا بالفرح والابتهاج، ويُبيّن للباحث أنه في طريقه إلى الخروج من الظلمات إلى النور.
ولأن الإنسان مفطور على الخير، وعلى محبة الخير، فلا يجد الباحث عن الحقيقة أجمل ولا أمتع من تتبّع شعاع النور الذي يتلألأ من بعيد، ويشق طريقه إلى القلب وإلى الروح، في يسر وبساطة، لا ريبة فيها.
ولولا الأدب في طبع هذه الشخصيات العظيمة، واسعة الشهرة، والسلطة، والتأثير العالمي، لما وجدوا طريقًا إلى الخير الأكبر، وإلى الإيمان، وإلى الإجابات الصافية الحقيقية لكل أسئلتهم المعقدة.
فالعظمة بين الناس تُغري بكل تجبّر، وتُغري بالتجاهل حتى النهاية، وحتى السقوط. ولكن الأدب يهزم الغرور، ويهزم شظفَ الطبع، ويُنصف صاحبَه، وينصره على نفسه، وعلى الغير، وعلى تحديات الحياة.
Tags: الاسلام