على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (13 – 20)
تاريخ النشر: 16th, March 2025 GMT
"لن يستطيعَ أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تَكُنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
تلوُّن النظام الإخواني
لقد أجبرت الضغوط الشديدة التي واجهها نظام الترابي/البشير في السودان، منذ بداية التسعينات، على التلون وإلى اكتساب مهاراتٍ للبقاء جعلته يمسك بالسلطة، حتى الآن، لستةٍ وثلاثين عاما. هذه الحقيقة ينبغي، في تقديري المتواضع، أن تكون حاضرةً في ذهن القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في محاولة إيجاد نهاية للحرب البشعة الجارية الآن في السودان.
لقد استضاف نظام الترابي/البشير، في فترة التسعينات من القرن الماضي، عتاة الإرهابيين الدوليين من عيار أسامة بن لادن والثعلب كارلوس. كما قام بمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. إلى جانب ذلك، فتح النظام الباب للمتطرفين الإسلاميين من جميع إنحاء العالم، لدخول السودان، ومنحهم جوازات سفر سودانية. كما كان له دورٌ في التفجير الأول في برج التجارة الدولية في نيويورك، وفي تفجيرات السفارات الأمريكية في شرق أفريقيا، وفي حادثة تفجير المدمرة كول على سواحل اليمن. ومنذ بداية التسعينات، ناصب هذ النظام الإخواني دول الخليج العربية العداء وفتح أبواقه الإعلامية ضدها ودعا إلى الإطاحة بها. وحين غزا صدام حسين الكويت وقف مع الغازي المعتدي، فجرى تصنيفه حينها ضمن ما سُميت "دول الضد". كل تلك الأمور وضعت النظام الإخواني السوداني في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وجرى توقيع عقوباتٍ قاسيةٍ عليه. المؤسف أن النظام المصري استثمر في تلك العقوبات فقام بتأييدها، بغرض تعطيل السودان عن النهوض حتى يبقى تحت الهيمنة المصرية المستدامة. ولهذا السبب كَرِهَ النظام المصري حكومة الدكتور حمدوك وعمل على إبعادها من السلطة لأنها نجحت في إخراج السودان من أسر العقوبات، كما أعلنت أنها ستوقف تصدير السودان مواده الخام السودانية قبل أن تجري معالجتها لإضفاء القيمة المضافة عليها.
تمكن النظام الإخواني في السودان من إرخاء القبضة الاقتصادية الخانقة عليه، بالاتجاه إلى كندا، حيث دخلت شركة تاليسمان الكندية إلى السودان. لكنها، سرعان ما باعت أسهمها إلى أحد فروع شركة أويل آند ناتشورال قاس كوربوريشن الهندية، مقابل 720 مليون دولارًا أمريكيا. ويبدو أن ذلك حدث نتيجة لضغوطٍ من الحكومة الكندية، التي رأت أن عائدات النفط في السودان تذهب لإزكاء الحرب. (راجع: موقع قناة CBC على الرابط: https://shorturl.at/r8kmR). عقب ذلك، دخلت، كلٌّ من الصين وماليزيا في صناعة البترول السودانية لينجح النظام الإخواني، رغم المقاطعات، في استخراج البترول، الذي طالما تعثر استخراجه. في نهاية عقد التسعينات أطاح عمر البشير بالدكتور حسن الترابي صاحب فكرة الانقلاب الذي أتى بالبشير إلى السلطة. غير أن النظام الإخواني لم يغيِّر جلده، إذ استمر في حربه الدينية الجهادية في جنوب السودان. بل، وأضاف إليها حربًا أخرى في دارفور اتسمت بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية. كما قوَّى النظام صلته بإيران بل وأصبح وسيطًا لإرسال الأسلحة الإيرانية إلى منظمة حماس في غزة عبر بدو صحراء سيناء، الأمر الذي جرَّ إسرائيل إلى تنفيذ غارتين جويتين داخل السودان.
التعاون مع سي آي آيه
تحت وطأة الضغوط الدولية والعقوبات الاقتصادية أخذ النظام الإخواني يخطب ود الغرب مقدمًا استعداده لتقديم ملفات الإرهابيين الذين سبق أن استقطبهم وتعاون معهم. فأرسلت وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) طائرةً خاصةً إلى مدير الاستخبارات السودانية، صلاح قوش، لكي يأخذ معه كل ملفات الإرهابيين الذين تعامل معهم نظامه. وقد كانت تلك محاولةً من النظام للخروج من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، ومن ثم، رفع العقوبات عنه. قدم صلاح قوش ما طلب منه في خيانةٍ قبيحةٍ لجميع من سبق أن استقطبهم واستخدمهم من الإرهابيين. غير أن المخابرات الأمريكية استحلبت منه كل ما تريد، ولم يحصل منها على شيء نظير ما قدمه لها. وقد كشف موقع ويكيليكس عن محضر لقاءٍ جرى بين وفد من أعضاء لجنة العلاقات الخارجية واللجنة الفرعية لأفريقيا في مجلس الشيوخ الأميركي، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني السابق صلاح عبد الله قوش. وقد أشارت البرقية رقم 09KHARTOUM698، المرسلة من السفارة الأميركية في الخرطوم لرئاستها في واشنطن بتاريخ 28/5/2009م، إلى أن صلاح قوش أعرب عن خيبة أمله لدي لقائه بالسناتور الجمهوري من ولاية جورجيا، جوني آزياكسون، والسناتور الجمهوري من ولاية تينسي، بوب كريكر. وبحسب البرقية، أرجع قوش خيبة أمله إلى أنه تعاون مع وكالة المخابرات الأميركية (CIA)، طيلة التسع سنوات الماضيه، قائلاً إن هذا التعاون لم يثمر في رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وأردف قائلاً: "خلال التسعة سنوات الماضية نجحنا في إنقاذ حياة أعدادٍ كبيرةٍ من الأميركان في الإقليم وفي الشرق الأوسط، بسبب تعاوننا مع وكالة المخابرات الأميركية". وأكد قوش للوفد الأميركي أن عليهم أن يدركوا أن السودان يدفع "ثمناً باهظاً"، بسبب تعاونه مع المخابرات الأميركية في مكافحة الإرهاب. وأنه شخصيًا يدفع ثمنًا لذلك التعاون. وقال إن أعضاء الحزب الحاكم، المؤتمر الوطني أصبحوا ينعتونه بعميل أميركا. والإسلاميون يسمونه "الكافر" جراء تعاونه مع الأمريكيين. ووصف قوش، وفقًا لتلك البرقية، السياسة الأميركية بقصر النظر، وأنها متأثرةٌ بأجندة مجموعات الضغط مثال، "إنقاذ دارفور". (راجع: موقع ويكيليكس، على الرابط: https://shorturl.at/Y96R7). وفي أغسطس 2019 بلغ سوء معاملة أمريكا لصلاح قوش ورصفائه محمد عطا المولى وطه عثمان الحسين أن وقعت عليهم عقوبات تضمنت منعهم من دخول أمريكا. (راجع: صحيفة سودان تربيون على الرابط: https://shorturl.at/kHcGa).
الفريق، صلاح قوش المطلع بدقة على تعاون النظام الإخواني السوداني مع الجماعات الإرهابية والذي ذهب إلى أمريكا، كما ذكرنا، لكي يقدم لها المعلومات نظير أن ترفع أمريكا العقوبات عن النظام، هو الآن، كما سبق أن ذكرنا، ضيفٌ على مصر وجهاز مخابراتها. وكما سبق أن أشرنا أن هذا واحدًا من أبلغ الأدلة على هزال الدولة السودانية وعلى حالة الضعة والهوان التي أوصلها إليها النظام الإخواني. حيث أصبح لجوء رئيس جهاز المخابرات إلى دولةٍ جارةٍ لها مطامع في الهيمنة عليه وعلى موارده، أمرًا لا يرفع حاجب الدهشة. لقد استخدمت المخابرات المصرية الفريق صلاح قوش في كل المؤامرات التي أدت إلى انقلاب 25 أكتوبر 2023، الذي قوض الفترة الانتقالية وأطاح بحكومة عبد الله حمدوك، وقفل الطريق أمام التحول الديمقراطي. كما استخدمت كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة الفريق طه عثمان الحسين، في مرحلةٍ ما، لنفس الغرض.
مناورة طرد الإيرانيين
قبل ثلاثة أعوامٍ فقط من سقوط نظام المشير عمر البشير، خرج وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، بصورةٍ مفاجئةٍ، على قناة الجزيرة ليؤكد أن السودان قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران على خلفية التدخلات الإيرانية في المنطقة على أسسٍ طائفية، وبسبب اعتداءاتها على سفارة وقنصلية السعودية في طهران. وفي وقتٍ سابقٍ لهذا التصريح، كانت وكالة الأنباء السعودية قد أوردت أن مدير عام مكاتب الرئيس السوداني عمر البشير، الفريق طه عثمان الحسين، أبلغ هاتفيًا، وبصورةٍ شخصية، ولي العهد السعودي أن الخرطوم قررت طرد السفير الإيراني، ومعه كامل البعثة الدبلوماسية. وأنها قامت إلى جانب ذلك باستدعاء السفير السوداني من إيران. وأكد طه لولي العهد السعودي إدانة السودان لتدخلات طهران في المنطقة، وإهمالها حماية السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران. كما أعرب عن وقوف السودان مع السعودية في مواجهة الإرهاب وتنفيذ كافة الإجراءات الرادعة له، ونسبت "الجزيرة نت" ذلك الخبر إلى وكالة الأنباء السعودية. (راجع: موقع "الجزيرة نت"، على الرابط: https://shorturl.at/jyxQT). وقد جرى طرد إيران من السودان، بعد فترةٍ طويلةٍ من التعاون، كان النظام السوداني قد سمح لها فيها بالدفع للمد الشيعي للتغلغل في السودان. فنشأت الحسينيات والمراكز الثفافية الإيرانية، وانتشرت المطبوعات الشيعية، وغير ذلك مما تفعله إيران عادةً في نشر نسختها من الإسلام السياسي في مختلف الدول. وقد تبع طرد الإيرانيين انخراط النظام السوداني بالجنود في ما سميت "معركة الحزم"، التي شنها التحالف الخليجي على الحوثيين في اليمن. الأمر الذي جعل النظام السوداني منخرطًا عسكريًّا في مواجهة إيران ممثلةً في الحوثيين في اليمن.
لكن، في أثناء هذه الحرب الدائرة الآن، أعاد النظام الإخواني السوداني، الذي يجلس على رأسه حاليًا الفريق عبد الفتاح البرهان محل الرئيس المخلوع عمر البشير، العلاقات الدبلوماسية مع إيران. وأخذت الأسلحة الإيرانية تتدفق على السودان، وعلى رأسها الطائرات المسيرة. (راجع: موقع "سكاي نيوز عربية على الرابط: https://tinyurl.com/3aynrmm5). الشاهد أن كل هذه التقلُّبات تجعل المرء يتساءل: من أين تأتي الثقة في هذا النظام لدى من يتحالفون معه؟ وعلى رأس هولاء في الوقت الراهن النظام المصري. لقد أعلنت مصر أنها خسرت 7 مليارات دولار بسبب اعتداءات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر، الأمر الذي خفض حركة النقل عبر قناة السويس. وقد أصبح ميناء بورتسودان في فترة ما مزارًا للسفن الإيرانية، وهو أمرٌ يهدِّد أمن كلٍّ من مصر والسعودية. وتعلم مصر أن نظام الحركة الإسلامية السودانية، سواءً في فترة الرئيس المخلوع عمر البشير، أو الفريق عبد الفتاح البرهان الذي فرض نفسه على السوانيين بالقوة، لا ينفك يدور في الفلك الإيراني.
رغم كل ما سبق ذكره، راهنت مصر على الفريق عبد الفتاح البرهان، فقط لأنها وجدت فيه من الخضوع والانبطاح ما لم تجده في حاكمٍ عسكريٍّ سودانيٍّ قبله، متجاهلةً كل مخاطر الاعتماد على شخصٍ طبيعته الأصلية المكر والغدر وتقلُّب المواقف وتناقضاتها. فالرجل قد عاش لعقودٍ ضمن بنية نظامٍ طبعه التقلُّب والمكر والغدر فانطبع بطابعه، وليس له من ذلك فكاكٌ قط. وينطبق هذا على السعوديين الذين لا ينفكون يتعرضون للدغات النظام الإخواني في السودان، كل حينٍ وآخر. ومن الغريب أن قناة "العربية الحدث" التي تمولها السعودية يسيطر على مكتبها في الخرطوم المنتمون إلى حزب الرئيس المخلوع عمر البشير، المؤتمر الوطني، والتي ما انفكت توظف تقاريرها غير المهنية المرسلة إلى القناة لخدمة أجندة النظام الإخواني في السودان، ثم لا تجد استغرابًا أو مساءلةً من رئاسة القناة. بل، يبدو أنها تجد منها المباركة والتشجيع. باختصارٍ شديد، هذا النظام الذي ترأسه الرئيس المخلوع عمر البشير لثلاثين عامًا وورثه منه الفريق عبد الفتاح البرهان نظامٌ ذئبيٌّ ثعبانيٌّ لا تتغير طبيعته أبدًا، ولسوف يقوم بلدغ حليفه، طال الزمن أم قصر. ولسوف يلدغ الفريق البرهان كلَّا من مصر والسعودية، إن هما سارتا معه بنفس الصورة الجارية معه اليوم. باختصارٍ شديدٍ، من تلوث بدنس الإخوان المسلمين، لن يستطيع تطهير نفسه حتى تواريه ظلمة القبر.
تقسيم السودان في صالح مصر
منذ أن قبلت حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير بانفصال الجنوب، بعد خمسة عشر سنة من الحرب مع حركة العقيد جون قرنق، طرح القيادي الإسلاموي، ووزير المالية السابق عبد الرحيم حمدي في عام 2005، فكرة تقسيم السودان. وهي الخطة التي أخذ السودانيون يشيرون إليها بـ "مثلث حمدي". أحسَّت ما تسمى "الحركة الإسلامية" أن عددًا من أقاليم السودان تقف بطبيعتها الثقافية عاملاً معيقًا لإنشاء "دولة إسلامية" تهيمن فيها الثقافة العربية وحدها. فالتنوع العرقي والديني والثقافي هو في نظرهم ما يجعل البلاد غير مستقرة بصورةٍ تمكنهم من أقامة النموذج "الإسلامي" الذي يودونه. لذلك، جاءت فكرة "مثلث حمدي" التي اقترح فيها الوزير الأسبق عبد الرحيم حمدي، فصل عددٍ من أجزاء السودان، تشمل جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، ودارفور. وذلك لكي تقوم دولةٌ "إسلاميةٌ" في المثلث الجغرافي المنحصر بين دُنقلا وسِنَّار والأُبَيِّض. وقد برر حمدي الفكرة بعدم الانسجام الثقافي لتلك الأقاليم مع المثلث الذي يرى أنه متجانس ثقافيا. ويرى حمدي، أيضا، أن هذه الأقاليم التي ينبغي التخلص منها تعيق الاستثمار ويصعب مع وجودها حدوث أي تنميةٍ مستدامةٍ، لكونها تتسبب في دوام القلاقل وعدم الاستقرار. وقد نفى حمدي في لقاء صحفي هذه المزاعم، لكن ما جرى في الواقع منذ انفصال الجنوب، وما يجري الآن لا يزال يؤكد هذا المنحى.
فصل الجنوب وغيره من الأقاليم
بعد اتفاقية نيفاشا في عام 2005 ودخول الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق شريكًا في الحكم لفترة السنوات الخمس السابقة لاستفتاء تقرير المصير الذي نصت عليه الاتفاقية، عمل نظام عمر البشير بكل سبيلٍ ممكنٍ ليجعل خيار الوحدة بالنسبة للجنوبيين في الاستفتاء القادم خيارًا غير جاذب. وبالفعل، جرى الاستفتاء في نهاية فترة شراكة الحكم بين الطرفين، واختار الجنوبيون بنسبة بلغت 99%، الانفصال عن جمهورية السودان. وقد قام خال الرئيس عمر البشير، المرحوم الطيب مصطفى، مالك صحيفة "الصيحة"، ذات الخط التحريري المتطرف، بذبح ثورٍ أسود احتفاءً بانفصال الجنوب. وأيضًا، ما أن اختار الجنوبيون الانفصال، قال الرئيس المخلوع عمر البشير: إن حقبة تطبيق الشريعة الإسلامية "المدغمسة"، أي الملتبسة وغير الواضحة والصريحة، قد ولَّت وحانت الفرصة لحكومته لتطبيق الشريعة الإسلامية الصريحة. كل ذلك يؤكد أن ما تسمى الحركة الإسلامية السودانية لا تمانع قط من تقليص مساحة السودان لإقامة ما يعتقدون خطأ أنه كيانٌ متجانسٌ ثقافيًا يمكن أن يقوم فيه نموذج مستقر للدولة "الإسلامية" النموذجية، المتوهمة، التي طالما حلمت بها قوى الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي.
هذا التصور الإخواني المتمثل في تقليص السودان يصب في النظام المصري لكونه يمكنه من الهيمنة على الجزء الشمالي من السودان، الذي سوف يصبح من جراء الانقسامات، أضعف من أن يحمي نفسه. ولن يجد سندًا إلا من مصر التي ستتقايضه الحماية بالخضوع الكامل لها. وقد أوضحت الفترة التي سيطر فيها الفريق البرهان على مقاليد الأمور في السودان منذ انقلابه على حكومة حمدوك الشرعية في 25 أكتوبر 2021، هذا المنحى. أيضًا، أخذ هذا التصور صيغةً جديدةً، أبدلت المرتكز من الإسلام إلى العنصر. وهي النعرة الجديدة المسماة "دولة النهر والبحر"، التي يدعو لها عبد الرحمن عمسيب. والغريب أن قوى الثورة التي لم توافق على ميثاق نيروبي التأسيسي وعلى تشكيل حكومة في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، أخذت تقول إن ميثاق نيروبي التأسيسي وما يتبعه من إعلان حكومة سيقود إلى تقسيم السودان. وفات على هؤلاء أن خطة تقسيم السودان معتمدةٌ أصلاً لدى الحركة الإسلامية منذ عقود، وأن تنفيذها يجري على مراحل وفقًا لمسارات الأمور على أرض الواقع. وعقب هذه الحرب التي يتعذر فيها الحسم العسكري، فإن خيار الانفصالات لدى الإسلامويين سوف يصبح، من الناحية العملية، هو الخيار المُحبَّذ والمُرجَّح لديهم. ولسوف يسقط شمال السودان، من تلقاء نفسه كالثمرة الناضجة، في الفك المصري الفاغر، المتلهف لالتهامه منذ فجر التاريخ.
(يتواصل)
elnourh@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الفریق عبد الفتاح البرهان الحرکة الإسلامیة النظام المصری تقسیم السودان فی السودان على الرابط هذا النظام السودان من صلاح قوش سبق أن
إقرأ أيضاً:
هل تشهد الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية أفولًا؟
سالم بن حمد الحجري **
لم تكن حرب غزة التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023 مجرد جولة عنف أخرى في الصراع العربي الإسرائيلي الطويل؛ بل كانت زلزالًا جيوسياسيًا هزَّ أركان النظام الدولي الذي هيمنت عليه الثنائية الأمريكية- الإسرائيلية لعقود.
وقد فجّرَت فداحة الضرر الإنساني، ووضوح سياسة العقاب الجماعي، واستمرار العدوان رغم قرارات الأمم المتحدة، أسئلةً وجوديةً حول شرعية هذه الهيمنة ومدى قدرتها على الصمود في وجه تحولات الرأي العام العالمي وصعود قوى دولية جديدة. فهل يمكننا الجزم بأنَّ حرب غزة أنهت عهد الهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية على المشهد الدولي؟ الإجابة ليست بـ"نعم" أو "لا" قطعية؛ بل هي عملية تحول تاريخي بدأت معالمها تتشكل بوضوح.
ولفهم عُمق التحول، يجب أولًا استعراض طبيعة هذه الهيمنة التي بُنيت على عدة ركائز:
1. الهيمنة الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية: حيث كانت الولايات المتحدة، باستخدام حق النقض "فيتو" في مجلس الأمن، الدرع الواقي الذي يحمي إسرائيل من أي مساءلة أو عقوبات دولية فعلية. وجعلت الدبلوماسية الأمريكية القضية الفلسطينية قضية "مساعدة إنسانية" بدلًا من قضية سياسية تتعلق بإنهاء الاحتلال.
2. هيمنة "اللوبي" والسردية الإعلامية: سيطر تحالف المصالح بين اليمين المحافظ الأمريكي واللوبي الإسرائيلي (وعلى رأسه آيباك AIPAC) على صنع القرار في واشنطن، بينما روّجت وسائل الإعلام الغربية الرئيسية- لسنوات- للسردية الإسرائيلية التي تقدم إسرائيل كـ"ديمقراطية" تواجه "إرهابًا"، مع تغييب شبه كامل للسياق التاريخي للاحتلال ومعاناة الشعب الفلسطيني.
لكن جاءت حرب غزة لتُعرِّي تناقضات هذه الهيمنة وتسارع في تفكيكها من خلال عدة عوامل:
1. ثورة المعلومات والفضاء الرقمي: إذ فشلت الآلة الإعلامية التقليدية في احتواء السردية هذه المرة. وعبر منصات التواصل الاجتماعي، شاهد العالم بأسره، وعلى الهواء مباشرة، صور الدمار والمذابح في غزة. ولم يعد الأمر مجرد تصريحات سياسية؛ بل أصبحت هناك مقاطع حية مصورة للقصف، وصور للأطفال الضحايا، وشهادات للأطباء. هذا التدفق غير المسبوق للمعلومات كسر حاجز التعتيم الإعلامي وأجبر وسائل الإعلام التقليدية على تعديل خطابها، ولو جزئيًا.
2. الصدى العالمي غير المسبوق: خرجت عشرات الآلاف من المظاهرات في عواصم العالم الغربي والشرقي، من لندن وباريس إلى واشنطن ونيويورك، حاملةً علم فلسطين. هذا الحراك الشعبي العارم، الذي امتد إلى الجامعات والنخب الثقافية، وضع الحكومات الغربية في موقف دفاعي لأوَّل مرة، مُظهرًا الفجوة الواسعة بين مواقف النخب الحاكمة والرأي العام.
3. تغير مواقف الدول: من التضامن الرمزي إلى الخطوات العملية، وهنا يكمن جوهر التحول؛ إذ لم يعد الأمر يقتصر على إدانات روتينية، وانقسم إلى:
** دول الجنوب العالمي: قادت دول مثل جنوب إفريقيا (التي رفعت دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية)، والبرازيل، وكولومبيا، موقفًا مناهضًا بوضوح للهيمنة الأمريكية، مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار وفرض عقوبات. وقد صرح الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بضرورة تغيير نظام التصويت بمجلس الأمن؛ لأنه "لا يُمكن لدولة واحدة أن تفرض رأيها على العالم".
** الدول الأوروبية: شهد الموقف الأوروبي انقسامات حادة. بينما ظلت ألمانيا وبعض الدول موالية للموقف الأمريكي التقليدي، شهدنا تحولًا في دول مثل إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج التي اعترفت رسميًا بدولة فلسطين، في خطوة هي بمثابة صفعة للدبلوماسية الأمريكية والإسرائيلية. هذه الخطوات لم تعد "تضامنًا" فحسب؛ بل هي إعادة تعريف للشرعية الدولية.
** اجتماع الأمم المتحدة والاعتراف بدولة فلسطين: قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو 2024، الذي منح فلسطين حقوقًا إضافية ودفع بأوروبا للتفكير جديًا في الاعتراف، كان مؤشرًا واضحًا على أن الأغلبية الساحقة من دول العالم (143 دولة صوتت لصالح القرار) لم تعد تقبل بالهيمنة الأمريكية. والاعتراف المتسارع بدولة فلسطين في اجتماع الجمعية العامة الأخير الذي عقد في سبتمبر 2025 وتجاوز عدد الدول المعترفة بفلسطين 150 دولة حتى الآن، هو تجسيد لإرادة دولية تسعى لتحقيق توازن جديد، يقوم على القانون الدولي وليس على الهيمنة الأحادية.
ورغم كل هذه المؤشرات القوية، من السابق لأوانه إعلان نهاية الهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية، وذلك للأسباب التالية:
1- القوة الأمريكية لا تزال هائلة: الولايات المتحدة لا تزال المُموِّل والعاضد العسكري الرئيسي لإسرائيل. ودون ضغط أمريكي حقيقي، من الصعب إجبار إسرائيل على التغيير. التغيير داخل المؤسسة الأمريكية لا يزال بطيئًا ومحكومًا بمعادلات السياسة الداخلية.
2. اللوبي لا يزال قويًا: رغم تراجع تأثيره النسبي، لا يزال اللوبي المؤيد لإسرائيل يمتلك قدرة هائلة على التمويل والتأثير في الانتخابات الأمريكية، مما يحد من قدرة أي رئيس على تبني سياسة متوازنة حقًا.
3. فجوة بين القول والفعل: الاعتراف بدولة فلسطين خطوة دبلوماسية بالغة الأهمية، لكنها لم تترافق بعد مع آليات فعلية لإنهاء الاحتلال وتمكين هذه الدولة على الأرض. النظام الدولي يعاني من أزمة في "الانتقال من التصويت إلى التنفيذ".
الخلاصة.. إنَّ أفول الهيمنة وولادة نظام دولي جديد متعدد الأقطاب- واقعيًا- لن تنهي الهيمنة الأمريكية- الإسرائيلية بين عشية وضحاها، لكنَّ حرب غزة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد كشفت الحرب عن أفول الشرعية الأخلاقية والسياسية لتلك الهيمنة؛ فالعالم لم يعد يقبل بأن تكون القيم التي يتبناها الغرب- كحقوق الإنسان وحق تقرير المصير- قابلة للتطبيق بشكل انتقائي.
وما نشهده الآن هو عملية تاريخية لتفكُّك النظام الأحادي القطبية وولادة نظام دولي أكثر تعددية؛ حيث ترفض دول الجنوب العالمي- وحتى حلفاء تقليديون للولايات المتحدة- أن تُفرض عليهم أولويات لا تتوافق مع القانون الدولي والضمير الإنساني.
حرب غزة لم تكن نهاية المطاف؛ بل إنها بداية النهاية لعهد الهيمنة غير المقيدة، وأصبحت القضية الفلسطينية محكًا أساسيًا لشرعية أي قوة تُريد قيادة العالم الجديد. المستقبل سيكون لمنطق القانون الدولي والتعددية، وليس لمنطق القوة العمياء والاستثناء من المحاسبة.
** محلل سياسي