أبو العباس السبتي متصوف اختلى في جبل 40 عاما أيام دولة الموحدين بالمغرب
تاريخ النشر: 18th, March 2025 GMT
أبو العباس السبتي عالم ومتصوف مغربي ولد بمدينة سبتة سنة 524هـ/1129م، وتوفي بمدينة مراكش عام 601هـ/1205م. يرتبط اسمه بمذهب صوفي اجتماعي يقوم على العطاء والبذل، إذ كان يعدّ الصدقة أصل كل العبادات ودواء لكل داء.
اشتهر بالتجول في الأسواق والساحات، ودعوة الناس إلى "المتاجرة مع الله" بإخراج الصدقات، وكان يرى أن قضاء الحاجات ورفع الضرر والمرض والفقر والجفاف وغيرها لن يتحقق إلا بالتصدق.
لم يكن واعظا للناس داعيا لهم للإنفاق فقط، بل كان أول من طبق مذهبه وأفكاره، فكان في البدء يتصدق بنصف ما يملك وبعد ذلك بالثلثين ثم في نهاية حياته كان يقسم ما لديه إلى 7 أقسام، فيبقي له ولأهله قسما ويتصدق بالباقي.
ويذكر الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد أن مذهب أبي العباس السبتي أن "الوجود ينفعل بالجود"، ووصفه الشيخ المتصوف ابن عربي "بصاحب الصدقة في مراكش".
تحولت زاويته في مراكش إلى مزار يقصده ذوو الحاجات والفقراء، خاصة يوم الأربعاء، واستمر مذهبه قرونا بعد وفاته من خلال ما يسمى "بالعباسية"، وهي عادة منتشرة في عدد من مناطق المغرب، إذ يحرص أصحاب محلات الطعام والمشروبات على توزيع بضاعتهم مجانا في اليوم الأول طلبا للبركة وتزكية لمالهم وسيرا على منهج أبي العباس.
ولد أبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي بمدينة سبتة عام 524هـ/1129م.
نشأ يتيما واضطرت أمه لأخذه إلى نساجي الحرير في المدينة ليتعلم الحرفة مقابل أجر، لكنه كان يفر منهم ويذهب إلى مجلس الفقيه أبي عبد الله الفخار لتلقي العلم، فتضربه أمه وتعيده إلى النساج للعمل.
إعلانمع تكرار الواقعة، سألها الشيخ الفخار عن سبب ضربها إياه، فقالت إنها تريده أن يعمل ليساعدها على تكاليف الحياة، بينما اختار هو السير في طريق العلم، فاقترح الشيخ أن تترك الصبي يتعلم في مجلسه مقابل أن يدفع لها أجره، فقبلت.
حفظ القرآن الكريم كاملا في 6 سنوات، وتعلم الفقه ودرس فنون اللغة العربية وآدابها، وعندما بلغ 16 من عمره قرر السفر لطلب العلم، فرحل إلى مراكش لأنها كما قال لشيخه "مدينة العلم والخير والصلاح".
وصل إلى مراكش في وقت كانت فيه محاصرة من جيوش عبد المومن الكومي الموحدي، عام 541هـ، فأقام في جبل غليز بقبيلة هرغة بالأطلس الكبير، وكان المكان حينئذ مقصدا للزهاد والمتصوفة، ومنهم القاضي عياض والإمام السهلي والإمام وايحلان.
بقي في خلوة بالجبل نحو 40 سنة (من سنة 540 إلى 580)، وهي السنة التي تولى فيها يعقوب المنصور الموحدي الحكم، ولم يكن يقطع خلوته إلا للذهاب لمجالسة الشيخ أبي يعقوب بن أمغار برباط تيط قرب مدينة الجديدة.
كان السلطان المنصور الموحدي يميل إلى مجالسة الصلحاء والعلماء، فوجه إلى أبي العباس السبتي دعوة لدخول مدينة مراكش -عاصمة الدولة آنذاك- فوافق.
أعطاه المنصور دارا قرب جامع الكتبية فتزوج وأنجب عدة أولاد ذكورا وإناثا، وأوقف عليه مدرسة كان يدرس فيها الحساب والنحو.
يذهب بعض المؤرخين إلى أن السلطان الموحدي اتخذ أبا العباس السبتي شيخا له، وذلك بعدما لم يتسن له ملاقاة الشيخ أبي مدين الغوث الذي توفي وهو في طريقه إلى مراكش.
تضمنت عدد من الكتب بعض صفاته، ومنها أنه كانت له بسطة في اللسان وقدرة على المجادلة والكلام، و"كان سريع الجواب كأن القرآن ومواقع الحجج على طرف لسانه"، وفق ما ذكرت مصادر تاريخية، كما كان كثير الدعابة ولكن مع قول الحق.
يدور مذهب أبو العباس السبتي على الصدقة، وترجع الروايات جذور مذهبه إلى طفولته عندما سأل شيخه الفخار عن معنى قوله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"، واكتملت معالمه أثناء خلوته في جبل غليز حيث كان كثير التعبد والتدبر للقرآن الكريم.
إعلانكان يرد أصول الشرع والعبادات إلى الصدقة، فيرى أن التكبير في الصلاة بقول "الله أكبر" يعني الالتزام بعدم البخل على الله بشيء، ورفع اليدين للتكبير معناه التخلي عن كل شيء، وكان يرى أن الركوع يعني المشاطرة، والسلام بعد الصلاة هو الخروج من كل شيء.
كان يقول إن سر الصوم هو الشعور بالجوع وتذكر الجائع وما يقاسيه للتصدق والعطاء، والزكاة فرضت على المسلم في كل عام ليتدرب على البذل والعطاء في كل أيام السنة، أما الحج فقد فرض على الناس ليظهروا في زي المساكين بحلق الرأس ولبس النعلين والتجرد من ثياب الرفاهية والبذل لله تعالى وإظهار العبودية.
ويرى الشيخ السبتي أن سر الجهاد هو بذل النفس في مرضاه الله تعالى والتخلي له عن كل شيء وترك التعلق بأسباب الدنيا، وأن معنى التوحيد توحيد الله تعالى دون أن تجعل معه إلها غيره من متاع الدنيا، فالإنفاق دليل على أن المنفق تخلص من الشرك الخفي الذي يتسرب إلى القلب من حب المال.
اشتهر بالتجول في الأسواق والطرقات وحضّ الناس على الصدقة والمتاجرة مع الله، وكان يقول "درهم يساوي عشرة"، في إشارة إلى قوله تعالى "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها".
وكان إذا جاءه أحد يشكو من مرض أو ضيق أو هم أو فقر يقول له "تصدق تصل إلى ما تريد"، ويدعو الناس عندما يشتكون من الجفاف وانحباس المطر إلى الصدقة ويقول "لو تصدقوا لمطروا".
لم يقسم أبو العباس الناس إلى أغنياء وفقراء، بل إلى كرماء وبخلاء، فكان يدعو الجميع إلى التصدق مما لديهم قليلا كان أو كثيرا، ويقول "سبَق درهم مائة ألف درهم"، ويحث على ذلك بآيات من القرآن الكريم والأحاديث.
وكان قول الله تعالى "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" من أكثر الآيات ورودا على لسانه وبها كان يوضح مذهبه، فالعدل عنده هو المشاطرة، مستدلا بذلك من مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، إذ تقاسم الأنصار أملاكهم مع إخوانهم المهاجرين، فعقد السبتي مع الله ألا يأتيه شيء إلا شاطره الفقراء، فسار على ذلك عشرين سنة يتصدق بنصف ما يملك.
إعلانعاد للتدبر في الآية فتبين له أن العدل هو الشطر وأن الإحسان ما زاد عليه، وخلص إلى أن الإحسان هو المشاطرة والإيثار، أي إعطاء النصف مع إيثار المحتاج ومساعدته من النصف الثاني، فعاهد الله أن يخصص له ولأهله الثلث ويتصدق بالثلثين، وهو ما فعله مدة عشرين سنة.
ولم يقنع أبو العباس بهذا القدر، بل أراد تجاوز مقام الإحسان بشكر النعمة، فقسم ما يأتيه إلى 7 أقسام: قسم هو حق النفس وحق الزوجة والأولاد ومن تجب عليه نفقتهم، ويصرف الباقي لمستحقيه، فظل على هذه الحال 14 سنة، ويقول معاصروه إنه أصبح بمقتضى هذه الحال مجاب الدعاء.
وتذكر بعض المصادر أن درجة الاستجابة بلغت حدا جعل القدماء يقولون: "لا يمكن لأي مخلوق أن يساوي عبادة الحسن البصري وزهد داود الطائي ومعارف أبي مدين وهمة أبي العباس السبتي"، أي إنه كانت له همة عالية تنفعل لها الأشياء.
تجاوزت سيرته مراكش إلى باقي مناطق الغرب الإسلامي والأندلس والمشرق، وأرسل أبو الوليد ابن رشد أحد تلاميذه من قرطبة إلى مراكش ليسأل عن مذهبه، فلما عاد وأعلمه به قال عنه ابن رشد "هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود".
وكان الشيخ الأكبر ابن عربي قد وصفه في الفتوحات المكية "بصاحب الصدقة بمراكش"، وذكر أنه رآه وعاشره.
توفي في مراكش في 3 جمادى الثانية سنة 601 هـ/1205م، ودفن في قبر كان مدفن العلامة ابن رشد الذي توفي عام 595 قبل أن تأتي عائلته بعد 100 يوم من دفنه وتقرر نقل جثمانه إلى قرطبة مسقط رأسه.
وقد ظل القبر فارغا إلى أن توفي أبو العباس السبتي ودفن فيه، وفي فترة لاحقة بنيت على القبر زاوية (تكية) تحولت إلى مزار للفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات.
في عام 1012هـ/1605م، بنى السلطان أبو فارس عبد العزيز السعدي قرب الزاوية مسجدا كبيرا أطلق عليه اسم أبي العباس السبتي ومدرسة أوقف عليها كتبا نفيسة.
إعلانخضعت الزاوية لأشغال ترميم وتوسعة في فترات لاحقة، وتتلقى هبات من ملوك المغرب بشكل منتظم إلى جانب تبرعات وأعطيات المحسنين وتوزع شهريا على المحتاجين.
العباسيةلم ينقطع مذهب أبي العباس السبتي بوفاته، بل استمر من خلال ما يعرف بالعباسية، وهي عادة ارتبطت باسمه وتنتشر في مناطق عدة من المغرب وخاصة في المجتمع المراكشي، إذ يحرص بائعو الحلويات ومحلات الأكل على توزيع الطعام مجانا في أول يوم لافتتاح مشاريعهم، وكذلك أصحاب الحمامات التقليدية يقدمون خدماتهم في اليوم الأول من دون مقابل، وذلك طلبا للبركة والفأل الحسن وسيرا على منهج أبي العباس السبتي في البذل والعطاء في سبيل الله.
وما زال التجار في مدينة مراكش يخصصون أول ربح يكسبونه في صباح كل يوم لصندوق زاوية أبي العباس ويسمونه العباسية، وفي نهاية الشهر يوزع القائمون على الزاوية ما جمع في الصندوق على المعوزين والأرامل والمحتاجين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات رمضان مدینة مراکش إلى مراکش ابن رشد
إقرأ أيضاً:
ورحل أفقر الرؤساء
كما يقال بحق: الموت سبيل الأولين والآخرين.
إلا أن رحيل رجل بقامة وبنبل "موخيكا" يجعل في الحلق غُصة وبالقلب جرح وندبة لا تمحي ولا تزول. فقد كان "أفقر رئيس دولة"، ويكفيه هذا وساماً في زمن اغتنى فيه دون وجه حق، أو جهد، أو استحقاق ذاتي أو موضوعي من أتوا من القاع وكانوا لا يملكون شروي نقير. وصفه الصحفيون الغربيون في حياته بـ "أفقر رئيس في العالم"، فضحك وهو يرد قائلاً: " الشخص الفقير هو الشخص الذي يبحث دائماً عن المزيد، أما أنا فلست فقيراً، أنا أعيش حياة بسيطة، لأنني لا أريد الكثير".
في زمن الفواجع والمواجع والعبث والمساخر هذا الذي نعيش أجدني في غاية الحزن (ولا أخجل) أن أشهد رحيل واحد من أنبل الرجال.
وكنت ما يزيد عن عقد من الزمان كتبت عن هذا الرئيس "الظاهرة" العجائبية ربما بشيء من السخرية، ولكن كما يقول الشاعر توماس إليوت "الهزل هو أيضا طريقة لقول شيء جدي".
يا له من مجنون .. رئيس دولة وفقير ؟!!
22 نوفمبر، 2012
عزالدين صغيرون
انتابتني نوبة من الضحك وأنا اقرأ قصة المواطن الأوروغواني (من رعايا دولة الأوروغواي) السيد خوسيه موخيكا (76 عاماً) ،فهذا الرجل الذي يعمل كموظف عام ويشغل في بلده وظيفة “رئيس الدولة” يتقاضى راتباً شهرياً وقدره 12 ألفا و500 دولار ، ويعيش منذ بداية شهر مارس/آذار 2010 في بيت ريفي مع زوجته لوسيا توبولانسكي ،وهي عضو في مجلس الشيوخ .
ما أضحكني أن الموظف هذا يتبرع بـ90% من راتبه لصالح الأعمال الخيرية ويحتفظ لنفسه بمبلغ 1250 دولارا فقط بينما يتبرع بالباقي للجمعيات الخيرية وهو يقول إن المبلغ الذي يتركه لنفسه يكفيه ليعيش حياة كريمة، بل هو يعتقد بأن هذا المبلغ “يجب” أن يكفيه، خاصة وأن العديد من أفراد شعبه يعيشون بأقل من ذلك بكثير.
وزوجة هذا الرجل فيما يبدو لا تقل جنوناً عن زوجها، فهي الأخرى تتبرع بجزء من راتبها.
وبما أن الناس لا يطيقون أن يتركوا أحداً لحاله فقد أخذت أجهزة الإعلام والتواصل تبحث بفضول في هذه “الظاهرة” الشاذة والغريبة على عالم السياسة والعمل العام وتوصل موقع “ياهو نيوز” بعد استقصاء في سيرة الرجل بأن الرئيس يعيش “مستوراً” وإنه لا يملك حسابات مصرفية ولا ديون، وانه يعيش حياة بسيطة ويستمتع بوقته برفقة كلبته “مانويلا”. وأن كل ما يتمناه عند انقضاء فترة حكمه العيش بسلام في مزرعته، برفقة زوجته.
وفي مقابلة أجرتها صحيفة “إل موندو” مؤخراً، قال موخيكا إن أغلى شيء يملكه هو سيارته “الفولكس واجن بيتل” التي تقدر قيمتها بـ 1945 دولارا أمريكيا.
فهل هذا رئيس دولة ؟ .
(2)
أي رئيس دولة هذا الذي يعلن عن راتبه الشهري للناس، في الوقت الذي يرفض فيه رؤساء الدول الكشف عن رواتبهم، التي ربما هم أنفسهم يجهلونها، باعتبارها من أسرار الدولة التي يجب عدم الكشف عنها، خاصة في ظل (تربُص أعداء الأمة العربية والإسلامية بدولنا وحكامنا).
وهل يستطيع أكبر موظف في رئاسة الجمهورية على سبيل المثال، أن يعرف كم يبلغ راتب الرئيس عمر البشير؟.
أي رئيس دولة هذا الذي لا يرضى بغير سيارته التي لا يبلغ سعرها ألفي دولار ؟.
ليس هذا وحسب، بل ويتفاخر بها وكأنها “ليلى علوي” في زمنها وليس الآن.
ألم يسمع هذا الذي يعيش في كوكب آخر بأن هناك شيء اسمه “التمكين” في دولة الشريعة الإسلامية، يمكن أن يحيل موظفاً لم يُتح له أن يعُدَّ مائة ألفا من الجنيهات مرة في عمره إلى ملياردير بين "ليل صفقة وضحاها"؟!.
هل الأوروغواي دولة فقيرة و” مسكينة” إلى هذه الدرجة ؟.
أم انه لم يسمع برئيسنا الذي أتى من أفقر أقاليم السودان ليسكن في “كوبر” بالعاصمة القومية، بفضل دعاء الوالدين والتحاقه بالكلية الحربية جندياً ضابطاً ثم صار رئيساً للبلاد كلها بفضل دعاء الوالدين فيما أظن أيضاً ولحنثه بالقسم ويمينه على المصحف عند تخرجه ضابطاً باحترام الدستور والحفاظ على وحدة السودان.
ثم ليأتي وبعد عقدين من الحكم ويعترف "بمنتهى الشفافية" على التلفاز في اللقاء الذي أجراه معه الطاهر حسن التوم فى قناة النيل الأزرق مساء يوم الجمعة الموافق 3 فبراير 2012م ونقلته فى نفس الوقت قناة التلفزيون القومية وقناة الشروق وإذاعة أم درمان، مصارحاً العالم بأنه شخصياً قد أودع أبراء ذمة عند النائب العام وفيه أقر أنه يملك منزلاً فى كافوري وآخر بالمنشية وشقة بمجمع نصر ومزرعة كبيرة بالسليت، لينفي عن نظامه فرية الفساد التي يروِّج لها بغاث الطير والمرجفون في المدينة.
ما يدعوك إلى محاولة التخمين وأنت تسأل نفسك معجباً بهذا الموظف العصامي: ترى كم يبلغ راتبه "الشهري في اليوم" ؟!.
لغبائك أنت تسأل هذا السؤال لأنك وبالحساب المجرد لو افترضت بأن البشير حتى لو كان يتقاضى في الشهر الواحد ما يتقاضاه موخيكا في السنة كلها فإنه لن يستطيع بناء قصر واحد، لأنك ستخصم ما يصرفه البشير من هذا الراتب لتغطية احتياجاته واحتياجات أسرته، خاصة والرجل “محمول” بزوجتين، والثانية منهما لها عيال من زوجها المتوفى وهو كافلهم (أعانه الله وجزاه خيراً على فعل الخيرات).
(3)
صحيح “الناس على دين ملوكها”.
لقد أكد السيد موخيكا بسياساته عملياً صحة هذا المأثور في أقوال العرب.
فمؤشر منظمة الشفافية العالمية يشير إلى أن معدل الفساد في الأوروغواي انخفض بشكل كبير خلال ولاية موخيكا، إذ يحتل هذا البلد الواقع في أمريكا الجنوبية المرتبة الثانية في قائمة الدول الأقل فساداً في أمريكا اللاتينية. وبالطبع فإن لذلك علاقة مباشرة بسلوك أكبر موظف في تلك الدولة، وهو واع تماماً بتأثير سلوكه على سائر موظفي الخدمة العامة في كل مفاصل ماكينة الدولة، ومن ثمَّ على المواطنين عموماً، ولذلك يقول بـأن: "أهم أمر في القيادة المثالية هو أن تبادر بالقيام بالفعل حتى يسهل على الآخرين تطبيقه".
وهذا مماثل تماماً لمقولة "إذا كان ربُّ البيت بالدفِّ ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص” في الاتجاه المقابل المعاكس!.
فالسودان الذي لا يملّ رئيسه وقيادات وكوادر حزبه التأكيد بأن نظامه يقوم على الإسلام وشرعه، ولا يكفون عن التغني بالتقوى وطهارة اليد، يعترف رئيسه بامتلاكه خمس عقارات من فئة الخمسة نجوم ،وهو الذي كان لا يملك شروي نقير قبل أن يصبح رئيساً لسلطة اغتصبها بالانقلاب، وقد أصبح السودان بفضل نهجه الإسلاموي يحتل المركز الثالث قبل “الطيش” في الفساد، كما ويحتل المرتبة 170 من بين 179 دولة في مؤشر حرية الصحافة العالمي الذي تصدره منظمة صحفيون بلا حدود في إشارة لا تخلو من دلالات حول متلازمة الفساد وكبت ومصادرة الحريات.
وواحد من نتائج هذا النهج وسياساته ما تمخض عنه تقرير رسمي، حيث أظهرت نتائج المسح الأساسي لبيانات الأسرة الذي تم في العام 2009، أن معدلات الفقر في شمال السودان بلغت 46,5%، وأكد مدير الجهاز المركزي للإحصاء يسن الحاج عابدين أن أدنى معدلات الفقر سجلتها ولاية الخرطوم بنسبة 26%، وكان هذا قبل انسداد شريان البترول، والسياسات التقشفية التي أطاحت بالبقية الباقية من مستوري الحال في حفرة الفقر المظلمة.
(4)
ما قطع علي ضحكتي وأنا أقرأ حكاية هذا الرئيس “الظاهرة” ان بعض القراء العرب المسلمين ممن تسيطر عليهم العاطفة الدينية كتبوا يقولون بأن الرجل إنما يجسد بسلوكه هذا القيم الإسلامية الصحيحة ويطبق الإسلام في نفسه وباختياره دون وعي مستذكرين سيرة الفاروق غمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، بل دعا بعضهم أن يهديه الله إلى الإسلام ليدخله الله الجنة !!.
وكأنما النطق بالشهادتين كاف وحده ليصبح المرء زاهداً وقنوعا وأميناً !.
فقد رحت أسأل نفسي: إلى أي دين إذن ينتمي صحابة أجلاء آخرون مثل الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) الذي روي عنه قوله “لقد رأيتني مع رسول الله ? صلى الله عليه وسلم ? وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار" ؟. أو أبي هريرة (رضي الله عنه) الذي ولاه عمر بن الخطاب على البحرين التي كانت غنية سنة 20هـ. وعزله بعد ذلك لما بلغه عنه ما يخل بأمانته وولىّ مكانه عثمان بن أبي العاص، ووجد عنده لبيت المال أربعمائة ألف ، ومبلغ عشرين ألف دينار خاصة به ،ولما سأله من أين له هذا المبلغ رد قائلاً : كنت أتجر، فأمره بأخذ رأس ماله ورد الباقي لبيت مال المسلمين !.
أو لم يكونوا صحابة أيضاً ؟ ، أم أن عثمان بن عفان الذي قتله المسلمون بعد أن اتهموه الكفر ورفضوا دفنه في مقابر المسلمين ودفن في مقابر الكفار ولم يمشي في جنازته إلا أولاده الثلاثة ألم يكن ثالث الخلفاء الراشدين ؟!.
مقابل هذا نجد سلمان الفارسي الذي دخل عليه قوم وهو أمير على المدائن حينها، فوجدوه يعمل على الخوص، فقيل له: لِم تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك الرزق ؟ فقال لهم: إني أحب أن آكل من عمل يدي، فقد كان (رضوان الله عليه) يشتري خوصاً بدرهم فيعمله ويبيعه بثلاثة دراهم ينفق درهماً ويتصدق بدرهمين، ورغم أن راتبه كان خمسة آلاف دينار، إلا أنه كان يتصدق بها جميعا ويأكل من عمل يديه !.
وبلغ من إكبار الفاروق له، انه زار المدينة أثناء ولايته فجمع عمر الصحابة وقال لهم: هيا بنا لاستقبال سلمان، ولم يفعل ذلك لغيره.
هذا صحابيّ أيضاً مثل أولئك، كما وإنه غير عربي أو قرشي بين العرب.
فالمسألة إذن ليست ما يدين به المرء من دين !.
izzeddin9@gmail.com