هل تحكم العالم اليوم أسوأ نخبة سياسية في تاريخه الحديث؟
تاريخ النشر: 26th, March 2025 GMT
في البدء، لا بد من الإقرار بأن التاريخ ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو موجات متكسرة، تتلاطم فيها القوى، وتتصارع فيها الأوهام والحقائق. لقد ظن العالم، بعد سقوط جدار برلين عام 1989، أن عجلة التاريخ قد توقفت، وأن “نهاية التاريخ” التي بشّر بها فوكوياما قد حلت، حيث لم يعد هناك صراع، بل سيادة مطلقة لقيم الليبرالية الغربية.
في الولايات المتحدة، تتجسد هذه الحركة النكوصية في عودة ترامب، ليس كشخص بل كحالة، كفكرة جذرها الخوف وساقها العنف. لم يكن ترامب سوى انعكاس لحقيقة أكثر عمقًا: أن الديمقراطية الليبرالية، التي يفترض أنها بلغت قمتها، قد بدأت في التآكل من الداخل، ولم تعد سوى غطاء شفاف يحجب تحت سطحه تصدعًا أخلاقيًا وسياسيًا. إن الشخصيات التي تحيط به الآن—من ستيف بانون الذي يحلم بثورة يمينية شاملة إلى جي دي فانس الذي يرى في السلطة المطلقة حلًّا لكل شيء—تكشف عن نزعة فاشية تتبلور ببطء، وتعيد إلى الذاكرة مشاهد صعود الطغاة في ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن التآكل الأمريكي ليس مجرد صراع أيديولوجي، بل هو انعكاس لفشل اقتصادي عميق. فقد صنعت الرأسمالية المتوحشة طبقة صغيرة تملك كل شيء، فيما تآكلت الطبقة الوسطى، ما خلق حنقًا شعبيًا غذى الشعبوية اليمينية.
إن هشاشة البنية الاجتماعية ليست سوى ممر مفتوح للديكتاتوريات القادمة.
ولكن، هل يمكن فصل هذه التحولات عن صعود الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط وأفريقيا؟ هل يمكن فصل صورة الطاغية العربي، المتكئ على بندقية القمع، عن صورة السياسي الغربي، الذي يتحدث عن الديمقراطية فيما يوقّع صفقات الأسلحة مع أمراء الحرب؟ من القاهرة إلى موسكو، ومن الرياض إلى الخرطوم، تتشابك المصالح في نسيج من الدمار، حيث يصبح المواطن البسيط مجرد رقم في معادلة القوة، وحيث تُعاد كتابة الخرائط بدماء الشعوب.
في السودان، مثلًا، لم يكن النزاع بين الجيش والدعم السريع مجرد صراع داخلي، بل كان امتدادًا لسياسات دولية ترى في البلاد مجرد رقعة شطرنج، تُحرَّك فيها القطع كيفما تشاء مراكز القوى. وفي سوريا، حيث تحولت البلاد إلى مسرح مفتوح للقوى المتنافسة، من الولايات المتحدة وروسيا إلى إيران وتركيا، باتت سيادة الدولة فكرة هشة، بينما تقتسم الفصائل المسلحة، المدعومة من الخارج، أراضيها كغنائم حرب. أما في اليمن، فقد أصبح البلد ساحةً لحرب لا تنتهي، مدفوعة بأطماع إقليمية وخارجية، حيث تُستخدم المأساة الإنسانية كأداة ضغط سياسي، وحيث الموت اليومي لا يُعد خبراً يستحق الذكر.
وفي الخليج، تبدو الصورة أكثر فجاجة. أنظمة ملكية مترفة تحكم بالحديد والنار، تدفع الأموال بسخاء للإمبريالية كي تضمن بقاءها على العرش، وتنفذ الأجندات الغربية بوعي الطامع في الخلود السياسي.
السعودية، التي تحلم بأن تكون قوة عالمية، تمارس أعتى أشكال القمع الداخلي، فيما تشتري شرعيتها الدولية من خلال عقود السلاح والصفقات الاقتصادية الضخمة.
لكنها ليست فقط دولة بوليسية، بل هي نموذج لرأسمالية ريعية تُبقي شعبها في حالة خضوع من خلال توزيع الريع النفطي، بينما تبني ناطحات سحاب تعكس وهم الحداثة. الإمارات، التي تقدم نفسها كواحة للاستثمار والانفتاح، لا تتردد في سحق أي صوت معارض، وتدير عمليات تدخل خفية في دول أخرى لإعادة تشكيل المشهد السياسي بما يتناسب مع مصالحها.
نموذجها الاقتصادي، الذي يقوم على العمالة المهاجرة الرخيصة وقوانين الاستثمار التي تخدم النخبة العالمية، ليس سوى واجهة لاستبداد مموه بحداثة زائفة. أما قطر، التي تتباهى بإعلامها الحر، فلا تزال تحكم بقبضة العائلة الواحدة، حيث الديمقراطية مجرد زينة لا تتجاوز حدود الاستعراض. هذه الدول، التي تتاجر بواجهات الحداثة، تحافظ على جوهرها السلطوي، حيث يصبح الولاء للعرش أهم من الولاء للوطن، ويصبح الشعب مجرد تفصيل ثانوي في معادلة الحكم.
في بغداد، المدينة التي كانت يومًا قلب العالم النابض بالمعرفة، ومركزًا للفكر والفلسفة، لم يبقَ سوى أطلال تحكي حكاية مدينة خُذلت مرارًا. هناك، حيث كانت الحلقات الفلسفية تُعقد تحت ظلال النخيل، وحيث كان الورّاقون ينسخون كتب أرسطو وأفلاطون، لم يتبقَّ سوى أنقاض تحرسها الميليشيات، وشوارع تنتظر قدوم الضوء من نفق لا يبدو أن له نهاية.
في بغداد، كما في دمشق، كما في بيروت، تبدو المدينة وكأنها تجاهد لتبقى على قيد الحياة، تحاول أن تتذكر أيامها الخوالي، لكنها لا تجد في حاضرها سوى الخراب.
لقد أدرك غرامشي، حين كتب من سجنه، أن “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لم يولد بعد”، وهذه هي المعضلة التي يعيشها العالم اليوم: أنظمة فاسدة لكنها متجذرة، وحركات مقاومة لم تجد بعد لغتها الخاصة. المثقف، في ظل هذا كله، يبدو كمن يقف على حافة هاوية، متسائلًا عن جدوى كلماته في عالم يحكمه الصخب والسلاح.
ما مصير المثقف في زمن الهيمنة المطلقة؟ هل يُعقل أن يكون قدره الصمت، أو أن يتحول إلى أداة في يد السلطة، كما فعل كثيرون ممن ارتدوا عباءة الثورة ثم باعوا أنفسهم في مزاد المصالح؟
إن مصير المثقف في هذا الزمن يشبه إلى حد بعيد مصير بطل كونديرا في “كائن لا تحتمل خفته”، الذي يجد نفسه ممزقًا بين ثقل الالتزام وخفة التجاهل. هل يكون شاتوف، ذلك المثقف الروسي الذي قتله أصدقاؤه الثوريون في “الشياطين” لدوستويفسكي، أم يكون ساراماغو الذي كتب عن العمى في عالم يرى لكنه لا يبصر؟ المثقف الذي يرفض الانخراط في اللعبة السياسية يجد نفسه منفيًّا داخل وطنه، مسجونًا في لغة لم تعد قادرة على وصف الخراب، لكنه، رغم ذلك، يظل الشاهد الأخير، ذاك الذي يسجل الهزائم حتى حين يكون عاجزًا عن منعها.
أما المواطن البسيط، فهو الضحية الحقيقية لهذا النظام العالمي المختل. في السودان، في العراق، في اليمن، في فلسطين، في كل مكان حيث الحروب تدار كاستثمارات، يتحول الإنسان إلى مجرد وقود في آلة السلطة. المواطن، الذي كان يحلم بحياة كريمة، يجد نفسه مطاردًا بالجوع والخوف، مرغمًا على قبول واقعه كأنه قدر مكتوب.
إن الحروب الحديثة، التي يديرها أمراء الحرب بشراكة مع القوى العظمى، لم تعد تحتاج إلى مبررات أيديولوجية كما كان الحال في القرن العشرين، بل صارت تدار بوقاحة لا تخفى: حرب من أجل الغاز، حرب من أجل النفط، حرب من أجل النفوذ، بينما الشعوب تدفع الثمن وحدها.
في نهاية المطاف، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل نحن في زمن تولي الأشرار زمام الأمور، أم أن العالم لطالما كان يحكمه الطغاة، لكننا فقط صرنا أكثر وعيًا بهذه الحقيقة؟ هل يمكن أن يولد من هذا الدمار شكل جديد من المقاومة، أم أننا محكومون بالعيش في هذا الدوران العبثي؟ هل سيسجل التاريخ هؤلاء الطغاة كمنتصرين، أم أن هناك، في مكان ما، في زقاق ضيق، أو في قلب مدينة تشتعل، ثائرًا يحمل في عينيه وعدًا لم يتحقق بعد؟
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
«بناء الأجسام» يشارك في «كوريا برو»
أبوظبي (الاتحاد)
غادر فريق بناء الأجسام، التابع لإدارة أمن المواصلات بدبي، إلى كوريا الجنوبية للمشاركة في بطولة «كوريا برو 2025»، التي تنطلق السبت، والمؤهلة إلى «مستر أولمبيا»، الحدث الأهم عالمياً، وتعتبر «كوريا برو»، واحدة من أبرز البطولات الدولية في مجال اللياقة البدنية، وبناء الأجسام.
تأتي المشاركة في إطار حرص الإدارة على دعم الكوادر الرياضية من منتسبيها، وتشجيعهم على التميز وتحقيق البطولات، بما يعكس صورة مشرفة للدولة في المحافل الخارجية، ويضم الفريق نخبة من الرياضيين الذين أظهروا مستويات متقدمة في الجاهزية البدنية والفنية، خلال فترة الإعداد، وذلك تحت إشراف مدربين متخصصين ذوي كفاءة عالية.
وحظي الفريق بدعم مباشر من اللواء عبيد الحثبور، مدير إدارة أمن المواصلات، الذي أكد أهمية الاستثمار في الطاقات الرياضية، وتعزيز روح التنافس الإيجابي بين المنتسبين، مشيداً بالجهود المبذولة في إعداد الفريق.
ويهدف الفريق، الذي يمثله موسى البلوشي وعبدالله درويش، إلى قطع تذكرة الاحتراف والتأهل إلى «مستر أولمبيا»، ما يُعد إنجازاً كبيراً يعكس التطور المستمر للرياضة في صفوف منتسبي الإدارة، وهناك نخبة من أبطال العالم يشاركون فيها من 17 إلى 25 مايو الجاري، مما يجعلها منصة عالمية للتنافس وقياس الجاهزية نحو أعلى مستويات الاحتراف.