الثورة /

في مشهد بانورامي قاتم يكشف عن حجم الاختراق الذي تتعرض له بنية الأمة العربية، تتشابك خيوط لعبة دولية وإقليمية معقدة، تهدف إلى إعادة صياغة الوعي والهوية والجغرافيا في آن واحد. فبينما تُفتح أبواب «الانحلال المقنن» في عواصم كانت يوماً معاقل للمحافظة، تُحاك في الغرف المظلمة مؤامرات لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير أهلها، بالتوازي مع مشاريع تمزيق ممنهج تستهدف وحدة اليمن وتنهب ثرواته، لترسم هذه التحولات ملامح «شرق أوسط جديد» مفصّل على مقاس المصالح الصهيو-أمريكية.


سقوط المحرمات.. من الكأس إلى الشاشة
في قلب العاصمة السعودية الرياض، وتحديداً داخل الحي الدبلوماسي المحصن، بدأت تتكشف فصول تحول دراماتيكي يضرب في عمق الهوية الاجتماعية للمملكة. فبالإعلان رسمياً، وبصمت مريب يشبه حركة اللصوص في الليل، شرع متجر بلا لافتة في بيع الكحول لحملة «الإقامة المميزة» من غير المسلمين، كاسراً حظراً دام لأكثر من سبعة عقود. المشهد هناك، كما يرويه شهود عيان، يبدو سيريالياً: طوابير من السيارات الفاخرة، وتزاحم محموم على زجاجات «الويسكي والنبيذ» بأسعار فلكية، وكل ذلك يدار عبر تطبيق حكومي، ما يشي بأن الدولة لم تعد تغض الطرف فحسب، بل هي التاجر والمنظم لهذه «السوق السوداء المقننة».
ولا يبدو هذا الانزلاق معزولاً عن سياق ثقافي أوسع يهدف لـ «كيّ وعي» المجتمع السعودي؛ ففي جدة، وعلى شاشات «مهرجان البحر الأحمر السينمائي»، عُرض فيلم يروج للعلاقات المثلية الصريحة، في تحدٍ صارخ لكل القيم الدينية والمجتمعية الراسخة. هذا التزامن بين «الكأس» و»الشاشة» لا يقرأه المراقبون إلا كجزء من عملية «هندسة قسرية» للمجتمع، تفرضها السلطة من الأعلى لتقديم قرابين الطاعة للغرب، ولجعل المملكة بيئة «مستساغة» للمستثمر الأجنبي والسائح الغربي، حتى لو كان الثمن هو سحق الهوية وسلخ المجتمع عن جذوره، وسط صمت مطبق تفرضه الهراوة الأمنية.
ثمن التطبيع.. فلسطين في سوق النخاسة
وفيما كان المجتمع يُدفع نحو التغريب، كانت الدبلوماسية السعودية، وقبل طوفان السابع من أكتوبر المجيد، تضع اللمسات الأخيرة على صفقة تاريخية للعار السياسي. فقد كشفت وثائق مسربة أن الرياض كانت قاب قوسين أو أدنى من التطبيع الكامل مع الكيان الإسرائيلي، مقابل فتات لا يرقى حتى لمستوى الذر للرماد في العيون. فالوثيقة التي صاغتها واشنطن وباركتها تل أبيب، لم تكن تحمل للفلسطينيين سوى مناورات بيروقراطية بتحويل تصنيفات مناطق (ب) و(ج) في الضفة الغربية، دون أن تمس جوهر الاحتلال أو توقف زحف الاستيطان.
لقد كان المخطط يسير بسلاسة مذهلة، حيث أبدى الاحتلال ارتياحه الشديد لـ «سقف التنازلات» السعودي المنخفض، الذي كان سيمنح نتنياهو تطبيعاً مجانياً مع أكبر دولة إسلامية، ويطوي ملف الدولة الفلسطينية إلى الأبد. إلا أن صبيحة السابع من أكتوبر جاءت لتقلب الطاولة، وتنسف الجدول الزمني لبلينكن، وتحول «حفلة التوقيع» المنتظرة إلى كابوس استراتيجي لواشنطن وتل أبيب، كاشفةً في الوقت ذاته عن هشاشة الموقف السعودي الذي كان مستعداً للمضي قدماً فوق أشلاء الحقوق الفلسطينية.
دبي.. »مستعمرة« سياحية وغرفة عمليات للتهجير
وعلى الضفة الأخرى من الخليج، تجاوزت الإمارات مرحلة التطبيع السياسي لتدخل مرحلة «الاندماج العضوي» مع الكيان الإسرائيلي. فدبي، التي باتت تعج بعشرات الآلاف من الإسرائيليين حتى في ذروة حرب الإبادة على غزة، تحولت إلى «رئة تنفس» للكيان، وملاذ آمن لمستوطنيه الذين وجدوا فيها بديلاً عن «تل أبيب» المحاصرة بصواريخ المقاومة. شهادات السياح الغربيين تؤكد أن المشهد في فنادق دبي بات «عبرياً» بامتياز، في مفارقة مؤلمة بينما تُدك بيوت الغزيين فوق رؤوسهم.
ولم يقف الدور الإماراتي عند حدود السياحة والتجارة، بل امتدت أصابعه لتعبث بمصير سكان غزة عبر مخطط «التهجير الطوعي». التقارير تشير إلى تورط شبكات وساطة تتخذ من الإمارات مقراً لها، وبالتنسيق مع دوائر استخباراتية، لتسيير رحلات جوية مشبوهة تهدف لإفراغ القطاع من أهله تحت غطاء «الإنسانية» و«فرص العمل». وقد تنبهت دولة جنوب أفريقيا لهذا الفخ، مسارعةً لإلغاء إعفاء التأشيرات للفلسطينيين لقطع الطريق على استخدام أراضيها كمحطة ترانزيت في مشروع «الترانسفير» الجديد، الذي تشارك أبوظبي في هندسة لوجستياته، متماهية تماماً مع الرغبة الصهيونية في تصفية الوجود الديموغرافي للمقاومة.
اليمن.. بين »أنياب« التقسيم وصراع الوكلاء
وفي الجنوب اليمني، تكتمل حلقات المسلسل التآمري، حيث تتحول الجغرافيا إلى ساحة مفتوحة لنهب الثروات وتمزيق النسيج الوطني. ففي حضرموت، تدور رحى حرب شعواء بين الوكلاء المحليين للرياض وأبوظبي، انتهت فصولها الأخيرة بتسليم «المنطقة العسكرية الأولى» لقوات درع الوطن والانتقالي، في خطوة تمهد لعزل المحافظة النفطية عن محيطها اليمني.
إن تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعومة إماراتياً، للسيطرة على منابع النفط في «بترومسيلة» والتمدد نحو المهرة، لا يمكن قراءتها إلا في سياق مشروع تشطيري مقيت، يهدف لتحويل جنوب اليمن إلى «كانتونات» متناحرة يسهل التحكم بها ونهب مقدراتها. ورغم التخبط الذي يعيشه قادة الانتقالي، وارتهان قرارهم للأجندة الخارجية، فإن الخطر يكمن في تحويل هذه التحركات إلى واقع سياسي يشرعن الانفصال، ويخدم الأطراف الدولية الطامعة في السيطرة على الممرات المائية وباب المندب.
وتشير المعلومات الميدانية إلى أن منع الفصائل الإماراتية لتعزيزات القوات السعودية من دخول عدن، وما يقابله من ضغوط سعودية في حضرموت، يعكس عمق الخلاف على «الكعكة» اليمنية، بينما يبقى الشعب اليمني هو الضحية الأولى لهذا الصراع العبثي. كل ذلك يجري تحت أنظار «الشرعية» المزعومة التي باتت هيكلاً مفرغاً من المضمون، لا يملك من أمره شيئاً سوى توقيع البيانات المعدة سلفاً في فنادق العواصم المشغلة.
خاتمة.. معركة الوجود
إن ما يجمع بين متجر الكحول في الرياض، والفيلم المثلي في جدة، والسائح الإسرائيلي في دبي، والمدرعة الإماراتية في حضرموت، هو خيط واحد ناظم: «محاولة تفكيك منظومة المناعة للأمة».
إننا أمام هجمة شاملة لا تستهدف الأرض فقط، بل تستهدف القيم والعقيدة والوعي، لتمهيد الطريق أمام هيمنة صهيو-أمريكية مطلقة لا تجد من يقول لها «لا». وبينما تتساقط الأقنعة عن الأنظمة الوظيفية، يبقى الرهان معقوداً على وعي الشعوب وجذوة المقاومة التي أثبتت، من غزة إلى صنعاء، أنها الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه أو شطبه من معادلات المنطقة.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

دلالات الانعطافة الحادة للكيان الإسرائيلي نحو تايوان

قبل يوم واحد من بدء وزير الخارجية الصيني وانغ يي جولته للمنطقة العربية للقاء نظرائه في الإمارات العربية المتحدة والعربية السعودية والأردن، كشفت وكالة رويترز تسريبات عن زيارة نائب وزير الخارجية التايواني فرانسوا وو للكيان الإسرائيلي خلال كانون الأول/ ديسمبر الحالي، في استفزاز يعد الأقوى للتنين الصيني من قبل الكيان الإسرائيلي خلال العام الحالي (2025)، فقد سبقته زيارات في تشرين الأول/ أكتوبر قام بها وفد من الكنيست الإسرائيلي لتايوان، التقى فيها الرئيس لاي تشي، بعد أن كان 72 من أعضاء الكنيست الإسرائيلي طالبوا بدعم انضمام تايوان لمنظمة الصحة العالمية وعدد من المنظمات الأممية التابعة للأمم المتحدة، لتسبقها زيارة المدير العام لوزارة الرفاه الاجتماعي الإسرائيلي بنون ارون لوزير الخارجية التايواني في تايبيه في أيلول/ سبتمبر الماضي.

التسريب والتحركات الإسرائيلية تجاه تايوان لم تعد ظواهر فردية لعضو هنا أو هناك في الكنيست الإسرائيلي، بل موقف سياسي أقرب إلى اعلان التراجع عن مبدأ الصين الواحدة الذي أقره الكيان الإسرائيلي في العام 1992 لإقامة علاقات دبلومآسية طبيعية مع الصين الشعبية في حينه، اذ تعتبر بكين جزيرة تايوان جزء من أراضيها وشرط لتطور العلاقة معها.

التدهور في العلاقات الصينية مع الكيان الإسرائيلي بات ملموسا، ولكنه لم يأت على خلفية الحرب والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية ودول الجوار بما فيها إيران، بل جاء نتاج الاستجابة للموقف الأمريكي الداعي إلى الحد من العلاقة الاقتصادية والتقنية المتنامية بين بكين والكيان الإسرائيلي، التي بلغ حجم الشراكة فيها ما يقارب 24 مليار دولار نهاية العام 2022، من ضمنها استثمارات في قطاع التكنولوجيا الفائقة، والنقل والشحن، كالموانئ وخطوط سكك الحديد الخفيفة داخل الكيان الإسرائيلي.

تايوان تمثل البديل الإحلالي للاستثمارات الصينية من ناحية، ومن ناحية أخرى استجابة استراتيجية للرفض الأمريكي للعلاقة المتطورة بين الكيان وبكين، ما يجعلها خيارا إجباريا للكيان يكشف مقدار التبعية وغياب المرونة أمام الضغوط الأمريكية خلافا لواقع كل من أبو ظبي والرياض وعمّان التي تستقبل وزير الخارجية الصيني بدءا من اليوم الجمعة الموافق 12 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بناء على دعوات من هذه العواصم.

في ضوء ذلك يمكن القول: إن الموقف الصيني الناقد للاحتلال والذي لم يختلف عن مواقف إسبانيا والنرويج والدنمارك وأيرلندا وهولندا وفرنسا وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، وغيرها كثير من دول القارة الأفريقية والآسيوية لم يكن السبب والدافع الحقيقي للموقف الإسرائيلي، كما أن الانفتاح الصيني على إيران بعيد العدوان الإسرائيلي وقبله لم يكن الدافع أيضا، فروسيا قدمت ما هو أكثر من بكين لطهران وللحوثيين في اليمن، والحال ذاته في رعاية الصين للقاء المصالحة للفصائل الفلسطينية الأربعة عشر في بكين في تموز/ يوليو 2024، إذ سبقتها إلى ذلك موسكو بعام كامل ولأكثر من جولة.

تايوان بالنسبة للكيان الإسرائيلي تعد محاولة لإعادة إنتاج دورها الوظيفي للراعي الأمريكي، فمن خلاله تحاول أن تعكس مرونتها في مقابل انعدامها لدى دول المنطقة التي تملك علاقات تجارية واقتصادية وثقافية آخذة في التنامي مع الجانب الصيني الذي يزور وزير خارجيته وانغ يي المنطقة العربية بناء على دعوة تلقاها من نظرائه الإماراتي عبد الله بن زايد، والسعودي فيصل بن فرحان، والأردني أيمن الصفدي؛ لزيارة البلدان الثلاثة بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) يوم أمس الخميس.

الدور الإسرائيلي الوظيفي لم يكن وما بهذا الوضوح، فالموقف من الصين لا يعد خيار إسرائيليا بل وظيفة وتكليف أمريكي، وهنا تكمن الصدمة التي تميط اللثام عن المرونة المزعومة، فالكيان مطالب بتزويد تايوان بالتقنية والتكنولوجيا التي تتيح لها تطوير قبتها الحديدية المتعددة الطبقات (تي-دوم) لموجهة التهديدات الصينية، الأمر الذي لا تستطيع واشنطن القيام به، في حين تستطيع دولة الكيان فعله دون تبعات استراتيجية كبرى تترتب على طاولة المفاوضات بين بكين وواشنطن، فميزانية الدفاع الأمريكية الأخيرة والمقدرة بـ900 مليار دولار تتضمن بنودا واضحة لتقديم الدعم العسكري والتقني للكيان لتطوير منظومة الدفاع الجوي الخاص به، وكأن دولة الاحتلال قاعدة أو لواء يتبع للجيش الأمريكي، لا أكثر ولا أقل، وهو تعريف لا سابقة له، كون الولايات المتحدة اعتادت تقديم الدعم بشكل منفصل وعبر اتفاقات ومنح ومساعدات تقر من الكونغرس ولجانه لا من قبل وزارة الحرب الأمريكية، وكان آخرها ما أقرته إدارة بايدن بتقديم 38 مليار دولار لدولة الاحتلال في العام 2023 للأعوام الخمس التي تلي ذلك.

انعطافة الكيان الإسرائيلي باتجاه تايوان كشفت عن فقدان المرونة السياسية وتحولها إلى أداة وبند مالي في وزارة الحرب الأمريكية، الأمر الذي ستكون له انعكاسات سلبية على العلاقة الإسرائيلية مع العملاق الصيني الصاعد، والذي بات معنيا بإعادة ترسيم علاقاته مع دول المنطقة وفقا للحقائق التي كشفها التصعيد الإسرائيلي الأخير تجاه الصين ووفقا للتعريف الأمريكي الجديد للكيان ودوره، باعتباره أحد أدوات مواجهة النفوذ الصيني في مضيق تايوان والمنطقة العربية.

المرونة المعدومة للكيان الإسرائيلي في رسم ملاح العلاقة مع الصين كرستها وعمقتها التحولات التي نشأت عن عملية طوفان الأقصى، بإعادة تعريف وظيفة الكيان الإسرائيلي كاحتلال معزول يصعب إدماجه في المنطقة بأدوات اقتصادية وثقافية من ناحية، يقتصر دوره على وظيفة أمنية حددتها له وزارة الحرب الأمريكية بدقة مؤخرا في بند الإنفاق والتطوير، معلنة بذلك فشله كمشروع مستقل قائم بذاته.

موازنة أمريكا الحربية لهذا العام استثنائية، وجلها لن يذهب لقواعدها في المنطقة العربية والمحيط الهادي، ولا لتمويل حاملات الطائرات في البحار والخلجان العربية والمحيط الهندي، بل لتمويل القبة الذهبية للدفاع عن أجواء وفضاء أمريكا كونها تتجاوز ثلت موازنة الحرب الأمريكية، إلى جانب تطوير وتحديث منظومة الأسلحة النووية والصواريخ الفرط صوتية، وأخيرا الحرس الوطني المناط به التعامل مع المهاجرين والتحديات الداخلية والحدودية، إلى جانب التحديات شمال الاسكا وجنوب البحر الكاريبي في أمريكا الجنوبية.

ختاما.. انعطافة الاحتلال نحو تايوان بعيدا عن الصين لا تعد خيارا إسرائيليا يمكن الرجوع عنه، بل دور رُسم لها مسبقا من وزارة الحرب الأمريكية، وعلى الجانب الآخر الصين التي وجدت في الاحتلال أداة متعفنة لإعاقتها جيوسياسيا، ما يعني أن دول المنطقة ستجد في الصين مستقبلا دولة أكثر انفتاحا واستعدادا لتطوير العلاقات على نحو يعالج الفراغ المتوقع والموثوقية المفقودة للولايات المتحدة التي تتعامل مع دول المنطقة العربية، من خلال قرارات تنفيذية للرئيس الأمريكي سرعان ما تنتهي صلاحيتها بانتهاء رئاسته.

x.com/hma36

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: تهجير ألف فلسطيني منذ بداية العام من المنطقة ج في الضفة
  • أمريكا.. من إرث الإبادة إلى هندسة الخراب العالمي
  • دلالات الانعطافة الحادة للكيان الإسرائيلي نحو تايوان
  • الصدر: بات التطبيع والديانة الإبراهيمية على الأبواب والفساد سجية والظلم منهجاً
  • محلل سياسي: اجتماع طهران يستهدف استعادة العلاقات بين الرياض وإيران
  • العدو الإسرائيلي يقتحم المنطقة الشرقية في نابلس
  • الاحتلال الإسرائيلي يقتحم المنطقة الشرقية في نابلس
  • وكيل إمارة الرياض يرأس الاجتماع الحادي عشر للجنة التنفيذية للإسكان التنموي بالمنطقة
  • اليمن.. عقدة الجغرافيا التي قصمت ظهر الهيمنة: تفكيك خيوط المؤامرة الكبرى