سارة البريكية
sara_albreiki@hotmail.com
نقترب من يوم الوداع، ها هو يمضي حاملًا حقائب سفر كثيرة؛ فيرحل معه الكثير ويبقى شيء قليل لا يكاد يرى، أما الضيوف فرحلوا وسكان البيت بقوا في مشهد معتاد يمر علينا كل عام عندما يغادرنا رمضان.. شهر الصيام.
رمضان وضجة كبيرة في الأسواق وبين حامل ومحمول ومنفق ومنفوق عليه ومُشترٍ وبائع وسفر.
أُشعل شمعة الامل وأسعد بأنه لم يكن رمضانًا عاديًا بالنسبة لي، فقد كنت مجتهدة طبخًا ونفخًا وعبادةً، وفُزتُ بالتحدي الذي أبرمته مع نفسي، وهو أن اختم كتاب الله ثلاث مرات، وفعلت. لذا أستحق أن أفتخر وأسعدُ بهذا النصر؛ لأدرك أننا لاهون كثيرًا، وأننا لو اخترنا الآخرة لوجدنا أنفسنا نحوها نسير، ولبنينا قصورًا في الجنة؛ فالجنة دار الأنقياء الذين لا تغرهم الحياة الدنيا، لا ذهب لا مال ولا جاه ولا منصب ولا أي شيء يدوم، لا يبقى سوى العمل الصالح الذي سعينا واجتهدنا وعبرنا من خلاله.
تضج الأسواق بالمارة وتتناقص الاعداد في المساجد في عدد مهول وكأنهم فرغوا من العبادة والصلاة وكأن الحياة ستنتهي لو لم يتم النزول للأسواق.
كأني كنتُ أتحسس الموت قريبًا، فقد رحل خالي أحمد بن علي الكيومي، مع قائمة الراحلين، وأنا أكتب مقالي طرق بابنا الموت، فأحسستُ بالغربة، وأنا بين الناس، لكن قلبي لا يزال يرى خالي جالسًا على كرسي في المدرسة عند باب الحارس، وأنا أتوجه نحوه لأقول له "خالي خالي"، وها هو الان رحل في شهر كريم وهو رجل صالح.
يُعلِّمُنا رمضان الصبر والقوة على احتمال مصائب الدهر، والسكون الذي يلفنا، والطمأنينة التي تملأنا، نجدها صادقة جدًا لأنه لا يوجد غش ولا كذب في أيامه ولا تلفيق ولا بهتان، لكنه يوجد مع ضعاف النفوس الذين لا يستطيعون السيطرة على مشاعرهم وهم قومٌ يحبون الفتنة ودس السم في العسل والمبالغة بالكذب والتلفيق والافتراء، فلا يغيرهم رمضان ولا يتغيرون في غير رمضان هم عملة لوجه واحد لا يمكن أن يحدث في حياتهم ما يمكن أن يصحي فيهم الضمير الميت.
إن الانشغال في رمضان بأمور الدنيا ومتابعة المسلسلات الدرامية والبرامج التلفزيونية ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها، والنوم عن العبادات والطاعات والانخراط في الأسواق بحثًا عن عذرٍ للهرب والتنصل من المسؤولية التي يجب أن تكون في كل وقت تجاه حرمة الشهر الفضيل وأوقاته المهمة جدًا والتي قد لا تُعوَّض، هو أمر صرنا نبكيه ونحزن عليه؛ لأن أبواب الجنة مفتوحة، وهنا باب مهم ولكنهم لا يفهمون ذلك أو على أعينهم غشاوة أو على القلوب أقفالها.
لن يدرك الإنسان قيمة نفسه إلّا عندما يزنها بميزان العقل والحكمة، ولن يُثمِّن كم من الوقت أهدره على الأمور الدنيوية الزائلة، إلّا عندما يصفعه القدر، لكن يجب عليه أن يخاف؛ فبعض الصفعات لن تكون لتتعلم الدرس وإنما لتنتهي حياتك وأنت في غمرة نفسك لا تدرك أنك ماضٍ نحو أسفل السلم في لوحة من الألوان المنتهية الصلاحية ولا مجال فيها للإصلاح أو إعادة ضبط النفس وإيقافها وتعليمها وإعطاءها فرصة أخرى للتعلم من جديد.
يُغادر رمضان حاملًا أسماءً عديدة تغادر معه؛ فرمضان سيعود، لكنهم لن يعودوا وأن الفرصة لا تُعاد مرتين والمشهد لا يتكرر، والحياة ليست كما نحب، لكن هناك مُتسع للحب.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
القاتل "الفيتروفي"..الأمريكي!
محمد بن رضا اللواتي
أدين بالاعتذار إلى "دافينشي"! لأنَّ رَجُلَهُ "الفيتروفي" بريءٌ تمامًا من تجوال "الصهيو-أمريكية" بالفساد في كل ركن من أركان هذا العالم. أما في غزة وغيرها من بؤر النضال الشريف ضد الاستكبار فحدِّث ولا حرج، فهناك يشهد العالم أشد أشكال الوحشية، تُمارس لأجل إبادة شعب بأكمله وتجويعه.
حدث هذا عندما عثر "نيتشه" على جثة الإله – المسيحي – مخنوقا، فتسارعت وتيرة الأحداث، وانتهت بأن أجلست تيارات العدمية والعبثية والمادية والإلحاد والرأسمالية المتوحشة التي أغرقت الحضارة الغربية نفسها فيها، أجلست الولايات المتحدة على كرسيه طالما أنَّ القوة المطردة تجري تحت قدميها.
"نيتشه" الذي عثر على جثة الإله الغربي مخنوقاً هتف يقول بأنَّ الكسل الأخلاقي المتغلغل والمؤدي إلى وجود عبثي وخيبة أمل وغياب الهدف بغياب المعنى وظهور التشاؤم والكفر الميتافيزيقي، إذن: البربرية قادمة!
وها نحن نعيشها اليوم، فهل من بربرية تفوق قتل الأطفال والنساء والعجزة وهدم المستشفيات والمدارس ومنازل الأبرياء؟
ولكن لماذا ينبغي أن يقتل الناس الإله؟ لماذا ينبغي ألا تسمح حكومات الولايات المتحدة له بأن يكون حاضرا في أفق الإنسان؟
"كارل يسابرز" يجيب: "لأنَّ الله يرى أعماق الإنسان، والإنسان لا يتحمل أن يبقى حيَّاً شاهدا من هذا النوع". كل المصلحين والأنبياء والأئمة لو عاشوا في هذه الحضارة لقاتلتهم الحكومات الأمريكية التي تريد عالمًا يخلو من ذكر المصلحين، وتعمل ليل نهار على طمس سيرتهم وتشويهها وتقليبها رأسا على عقب.
عندما نعود إلى "الإنسان الفيتروفي" الذي صممه "دافينشي"، - يستمد اسمه من المهندس المعماري الشهير "ماركو فيتروفيوس" من القرن الأول قبل الميلاد – نجد له تحليلات عديدة، ومن تلك التحليلات أنه أراد بذلك أن يُعبر عن مُعتقده في التناغم بين الفن وبين العلوم من جهة، وبين الإنسان وبين الطبيعة من جهة ثانية، وبين قوى الإنسان وبين الكون من جهة ثالثة، فالكون يستجيب لنداء وطلبات الإنسان ويتماهى معه.
مربع ودائرة متداخلان في بعضهما البعض، وفي كل منهما رجل، والأدق أنه رجل واحد ولكن يبدو لنا وكأنه اثنان وليسا واحدا، وبأربعة أذرع وأربعة أرجل! وسرُّ ذلك أنَّ الجسد المادي قد جعله "دافينشي" في إطار "المربع"، بينما جعل روحه في الإطار الذي هو على هيئة "الدائرة"، ذلك لأن الدائرة عند "فيتروفيوس" هي التي تمثل الكمال والقداسة، وكانت الكنائس القديمة تحاكي فلسفته، لذا روعي في تصميها الأشكال الدائرية التي ترمز للروحانيات العالية والكمالات الإلهية.
إنسان "كامل" تسري قوته فيه من تعاطيه لفضائل الأخلاق ومحاسنها.
ذاك هو إنسان "دافينشي"، والذي أخذت تجاذبه شتى التيارات، وكل ٌتصوره رمزا لها، فبعض المجلات الرياضية وضعته شعارا على أغلفتها، وبعض نوادي اليوغا، وشركات صناعة الأدوية، والمستشفيات، وحتى النقود المعدنية لبعض البلدان، وإذا بالرأسمالية المتوحشة أيضا قامت باستغلاله ليكون شعارا للشراء تماما كما تم تحوير كلمة "ديكارت" الشهيرة: "أنا أفكر إذن أنا موجود" فتحولت إلى "أنا أتسوق إذن أنا موجود"، على هذا الغرار تم التعامل مع هذا الرمز، فإذا بنا نراه على فنجان قهوة "استار باكس" وفوقه كُتب "Double Coffee".
تعالوا نتخيل "الإنسان الفيتروفي" عندما تقرر "الصهيو - الأمريكية" والتي استولغت في دماء أبرياء غزة ولبنان واليمن والعراق بنحو لا نظير له، أن تتخذه شعارا لها؟
يداه ستبدوان ملطختين بدماء الشهداء، والمربع الذي يحوي جسده قد بات أحمر قانيًا، أما الدائرة التي تقبع فيها روحه، والذي كان مثالا للتواصل مع الإله المطلق، فقد امتلأ بالجثث تحت رجليه. إنه "القاتل الأمريكي الفيتروفي".
وسوف تعمل بعد ذلك الآلة الإعلامية لأجل أن تقنعنا بأننا أمام أرقى لوحة في العالم!
شاهدنا "الإنسان الفيتروفي الأمريكي" جميعًا في مجلس الأمن، ينطق بفيتو قذر آخر، يريد بذلك أن يمنع توقف سيلان الدماء في غزة وفلسطين، ويمنع دخول المساعدات الإنسانية فيها حتى يرى وقد أمضَّ العطش الصغار وأهلك الجوع الكبار!
أرفق "دافينشي" مع اللوحة نصاً لا يمكن قراءته إلا إذا جعلناه أمام المرآة! أوضح فيه النسب المثالية لأعضاء الإنسان الكامل. ولكن لماذا جعل قراءة هذه النسب لا تتم إلا إذا وضعناها أمام المرآة؟ لستُ أدري تحديدا، ولكن كثيرا من المرات تكون المرآة صادقة للغاية، عندما تكشف لنا معالم الحقيقة التي لا نريد أن نعرفها في زمن تم فيه قلب الحقائق رأسا على عقب أمام مرأى ومسمع العالم.
لا شك أنَّ الإنسان "الفيتورفي" كما صممه الفنان الإيطالي الكبير نموذج للإنسان الكامل لا يمت بصلة إلى الوحش الأمريكي كما صممته الصهيونية.
رابط مختصر