لجريدة عمان:
2025-12-14@20:15:41 GMT

الفلسفة وشهر رمضان

تاريخ النشر: 26th, March 2025 GMT

الفلسفة وشهر رمضان

لا شك أن شهر رمضان هو شهر الصوم والعبادة والتقرُّب إلى الله بكثرة قراءة القرآن وبالنوافل إلى جانب الصيام. وهنا يأتي السؤال؟ هل هذا يعني ألا مجال للفلسفة في شهر رمضان؟ أليس لها أي دور يمكن للمسلم أن يحتاجه في شهر رمضان؟ هل نكتفي بممارسة شعائر الدين الإسلامي ونضع ممارسة التفلسف جانبًا؟

الحقيقة أن الإنسان بطبعه لا يكف عن التفكير.

منذ بدء الخليقة وقبل نزول الأديان السماوية أعمل الإنسان فكره وعقله في التفكير في أصل الخلق والكون وطبيعته، وما إذا كان هذا الكون الفيزيقي هو فقط ما يوجد أم أن هناك وجودًا ذا طبيعة مختلفة لا نراه. وما طبيعة معرفتنا له وكيف نتحقق من وجوده؟ وما الموت؟ ما الذي يحدث عندما يموت الفرد؟ أين تذهب الروح؟ لم يقتنع الإنسان -قبل الأديان- بأن الروح تفنى بفناء الجسد. فتساءل هل سيكون هناك بعث بعد الموت؟ وهل يكون البعث بالروح أم بالروح والجسد؟

جاء الدين الإسلامي مجيبًا عن هذه الأسئلة الميتافيزيقية بأن الله واحد أحد، خالق هذا الكون، وأن هناك عالمًا آخر سماويًّا، وأن هناك بعثًا بعد الموت إلخ. هل هذا يعني أن دور الفلسفة قد انتهى؟

لا شك أنه لم ينتهِ بالنسبة لغير المسلم أو غير المتديّن الذي سيظل يبحث عن إجابات عقلانية صرفة لهذه الأسئلة تشبع رغبته في الفهم والمعرفة، وقد تنتهي به إلى الإيمان بوجود الخالق أو تنتهي به إلى الإلحاد. ولكن ما الأمر بالنسبة للمؤمن؟

الرأي لدينا أن المؤمن يظل في حاجة إلى جوهر الفلسفة وهو التفكير وذلك في أمرين: الأول هو التفكير في إجابات حسمها الدين ولكن يستحسن وضع مبررات عقلية لها تمثل أساسًا عقليًّا لإيمانه يعضد إيمانه القلبي، والثاني تفكير في أمور مستجدة لم ينص الدين صراحة على إجابات لها لأنها لم تكن قد جدت بعد بحكم تطور الحياة. وربما هذه الأمور المستجدة هي ما لسببه جعل الله التفكير هو جوهر العبادة وحث عليه على الدوام.

من أمثلة النوع الأول وهو التفكير في إجابات تمثل الأساس العقلي للإيمان التفكير في أدلة وجود الله. عندما ناقش الفلاسفة المسلمون في العصور الوسطى كالكندي والفارابي والغزالي وفخر الدين الرازي أدلة وجود الله وتنافسوا في وضعها، لم يكن ذلك انطلاقًا من عدم كفاية قناعتهم بوجود الله، ولكنهم وضعوا هذه الأدلة كأساس عقلي على وجود الله قد يقنع غير المتديّن أو الملحد بأن الله موجود، كما أنها تمثل بالنسبة للمؤمن الأساس العقلي للإيمان ليكون ركيزة إلى جانب الأساس القلبي له.

أما الأمور المستجدة التي يحتاج المسلم بالضرورة إلى التفكير فيها فمن أمثلتها ما نشعر به منذ بدء الثورة الصناعية والمتمثل في غربة الإنسانية في عصر العلم الذي لا يقوم على أخلاق محددة. لقد تحوَّل الإنسان ذلك الذي كرَّمه الله وجعله خليفته على الأرض إلى «شيء» قيمته تساوي قيمة أي موجود آخر. هنا يحتاج المسلم المؤمن للتفكير في كيفية مجاراة ركب الحياة الحديثة التي قوامها ثورة إلكترونية تتطور بتسارع شديد مع الحفاظ على النظر للإنسان من حيث هو إنسان لا من حيث هو سلعة تتمثل قيمتها في منفعتها. المؤمن في حاجة إلى التفكير في كيفية التوفيق بين هذا وذاك.

نحيا الآن بسبب التسارع في الإنتاج الإلكتروني عصر ما بعد الإنسانية. ما نعنيه بما بعد الإنسانية هو عصر الإنسان الجديد أو الكيان الذي سيتأثر بأعضاء تُزرَع فيه من كائنات حية أخرى أو رقائق معدنية تُزرَع فيه إما للعلاج أو لتُطوِّر من إمكانياته الإدراكية وبالتالي يختلف عن الكائن البشري الذي نعرفه الآن. هنا علينا كمسلمين التفكير في مدى وكيفية قبول هذا الأمر قبولًا يتّسق مع عقيدتنا وشريعتنا وأخلاقنا ولا يتعارض معها.

أضف إلى هذا أن الانتشار المتزايد للتكنولوجيات قد أثّر في تغيّر صور العلاقات الاجتماعية بشكل متزايد مثل علاقات التعارف والصداقة والحب والزواج. هذه العلاقات أصبحت تقوم في الفضاء الإلكتروني. قد تبدأ وتنتهي هناك- في الفضاء الإلكتروني، وقد تبدأ هناك ثم تقوى في الواقع المتجسد. هنا سنحتاج إلى مراجعة نسقنا القيمي الأخلاقي الإسلامي وتحديثه كنسق يحدد لنا أي هذه العلاقات يمكن قبولها قبولًا يتّسق وعقيدتنا وأخلاقنا الإسلامية.

الإرهاب يحيط بنا من كل جانب وديننا دين وسطي أهله «أمة وسطا» بنص القرآن الكريم. هنا نحتاج إلى تحديد معنى الإرهاب المرفوض دينًا وشرعًا وهو ما يقدمه لنا الفلسفة والدين: الفلسفة بوضعها قواعد التعريف تساعدنا على «تعريف» الإرهاب، والدين بتحديده الدين الوسطي والتطرف والإرهاب يعيننا على تحديد ما نقبل وما نرفض. الفلسفة على هذا النحو تعيننا على أن نحيا مسلمين كما أرادنا الله: مسلمين بثوابت الإسلام مع تحديدها لما يمكن قبوله من مجريات التطور حيث لا يرفضه الإسلام لكونه لا يتعارض مع هذه الثوابت وما يجب رفضه لكونه مستهجنًا من الإسلام.

بالإضافة إلى ما تقدَّم، تقدِّم الفلسفة مهمة جلية نحتاجها أثناء ممارسة التفكير وهي قواعد التفكير الصحيح. جميعنا يفكر، ولكن ما ضمان أننا نمارس التفكير بشكل صحيح؟ وضعت الفلسفة -أو بالأحرى المنطق الصوري القديم قبل أن يتطور إلى منطق رمزي ويستقل عن الفلسفة- أسسًا للتمييز بين التفكير الصحيح وغير الصحيح وهي القواعد التي عُرِفت بقواعد الاستدلال. بتعلم هذه القواعد وتعلم كيفية ممارستها، نضمن أن يكون تفكيرنا تفكيرًا صحيحًا ونستطيع التمييز بين الحجج السليمة وغير السليمة، أيًّا كان موضوع التفكير.

هل هذا التفكير تفكير يختص به شهر رمضان فقط؟ بالطبع لا، ولكن لما كان شهر رمضان هو شهر العبادة، والتفكير هو جوهر العبادة، فالفرصة فيه أكبر من أي شهر آخر، أن نفكر في كيفية التمسك بالدين الصحيح من خلال التذكير بالثوابت وممارسة الشعائر التي يذكرنا بها التفكير ويكشف لنا عن قيمتها وفائدتها في السمو الأخلاقي والروحي بالفرد وبالتالي البعد بها عن كونها مجرد طقوس اعتدنا على تكرارها حتى أنسانا تكرارها معناها ومغزاها وفائدتها للمؤمن، ثم التفكير في الأمور التي تستجد باستمرار وكيفية التنسيق بينها وبين ثوابت الإسلام.

مما سبق يتبين لنا أن المسلم في حاجة للفلسفة على الدوام ولكن بما أن شهر رمضان هو شهر العبادة، والتفكير جزء أصيل من العبادة، فممارسة التفكير مطلوبة في هذا الشهر أكثر منها في غيره.

د. بهاء درويش كاتب مهتم بالفلسفة والعلوم

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التفکیر فی وجود الله شهر رمضان وجود ا

إقرأ أيضاً:

الفلسفة ليست ترفًا… بل مقاومة يومية ضد التفاهة

نعيش في زمن تُهيمن عليه السرعة، اللحظة الخاطفة، المحتوى الخفيف، والصوت الأعلى لا الأعمق. زمنٌ تتقدّم فيه التفاهة بثقة، وتُصبح «الترندات» معيار القيمة، ويقاس الإنسان بما يقدّمه من ترفيه لا بما يصنعه من معنى. وربما وأنت تقرأ هذا الآن، يا صديقي، تشعر أن المشهد مألوف أكثر مما ينبغي. في عالم كهذا، يبدو التفكير الفلسفي كأنه فعل خارج السياق... أو هكذا يُراد له أن يكون. لكن الحقيقة، يا عزيزي، أن الفلسفة اليوم ليست رفاهية، بل فعل مقاومة.
الفلسفة في جوهرها ليست كلامًا معقّدًا، بل قدرة على التوقف حين يركض الجميع، وعلى التفكير حين يكتفي الآخرون بالتلقي، وعلى رؤية ما وراء الضجيج. وأنت تعلم، يا صديقي، أن التفاهة لا تنتصر بالقوة، بل بالهيمنة على الوعي، عبر محتوى سريع يلهيك عن السؤال. وهنا تظهر الفلسفة في صورتها الأجمل: شجاعة السؤال في زمن يكره الأسئلة.
الفلسفة تُعلّم الإنسان ألا يبتلع ما يُقدَّم له دون تساؤل، وألا ينساق خلف الرائج فقط لأنه شائع. وربما توقفتَ هنا لحظة، يا عزيزي، لتفكر في كمّ الأفكار التي مرّت عليك دون فحص. التفاهة تُحب النسخ، أما الفلسفة فتُقدّس الفرد. التفاهة تشغلك، والفلسفة تُصغي لك. التفاهة تمنحك متعة عابرة، بينما الفلسفة تمنحك معنى يبقى.
كما تكشف الفلسفة كيف تُصنع الرغبات، وكيف يتحوّل الإنسان إلى مستهلك للمحتوى بدل أن يكون صانعًا لمعناه. وربما هنا، يا صديقي، تبدأ الأسئلة الحقيقية. إنّها تُعيد الإنسان إلى موقعه الأصلي: كائن يفكّر لا كائن يُقاد. الفلسفة ليست معركة ضد أحد، بل معركة مع النفس؛ لاستعادة الوعي من قبضة الضجيج.
وحين نفهم هذا، نكتشف أن الفلسفة في زمن التفاهة تشبه إشعال شمعة في غرفة مزدحمة بالضوضاء؛ لن تطرد الظلام، لكنها تمنحك رؤية. وربما، يا عزيزي، كل ما نحتاجه اليوم هو هذه المساحة الصغيرة. فهي ليست دعوة للانعزال، بل لاستخدام العقل وسط الزحام، ولتذوّق الحياة ببطء حين يصبح كل شيء سريعًا.

إن مقاومة التفاهة لا تتم بالرفض فقط، بل بالفعل: بأن نقرأ بعمق، نفكر بصدق، ونتأمل بوعي. وربما توافقني، يا صديقي، أن الفلسفة لا تجعل العالم أهدأ، لكنها تجعلنا أقل هشاشة أمام الضجيج.
وفي النهاية، حين نقف في وجه التفاهة، نحن لا نحارب العالم، بل نحمي ذواتنا. وحين نختار الفلسفة، نختار أن نكون أعمق من السطح، وأوعى من كل ما يحاول أن يسحبنا إلى الأسفل.
الفلسفة ليست نظرية... إنها مقاومة.
كاتب في السرديات الثقافية وقضايا الشرق الأوسط
[email protected]

مقالات مشابهة

  • قناة عبرية: الموساد يشارك في التحقيق بالهجوم الذي وقع في أستراليا
  • أجمل كلمات التهنئة بشهر رجب الفضيل 1447
  • الفلسفة ليست ترفًا… بل مقاومة يومية ضد التفاهة
  • "سِفر عاديم"
  • التفكير في الطلاق.. الإفتاء تحذر الزوجين من اعتباره حلا لـ5 أسباب
  • حكم الدين في عدم الإنجاب.. أزهري: الشخص الذي يرفض النعمة عليه الذهاب لطبيب نفسي
  • فضل الله بعد لقائه سلام: الملف الأساسي الذي ناقشناه يرتبط بإعادة الأعمار
  • الجميل: وعدُنا أن نكمل الطريق الذي استشهد لأجله جبران وبيار وباقي شهداء ثورة الأرز
  • موعد شهر طوبة 2026 في التقويم القبطي وطقس الشتاء في مصر
  • محمد رمضان لـ«أجمد 7»: «كلمة ثقة في الله سر نجاحي»