ياروسلاف كويش ـ كارولينا ويجورا
يبدو المسرح العالمي مختلفًا تمام الاختلاف عن أي بلد صغير، فقد تقوم القوى العالمية الكبرى بتحريك التحولات الجيوسياسية الجذرية، لكن كان على اللاعبين الآخرين دائما أن يوجدوا طريقة للبقاء في الفجوات الناجمة عن هذه التحولات.
في غضون شهرين، هدّدت إدارة ترامب حلفاءها بالتعريفات الجمركية والحروب التجارية، وفككت هيئة المساعدات الخارجية، وأخرست إذاعة صوت أمريكا.
تتضح لنا الآن ملامح عقيدة ترامب في السياسة الخارجية، على الأقل في خطوطها العريضة. إذ تسعى أمريكا في عهد ترامب إلى قيادة عالم تستحوذ فيه القوى النووية العظمى على ما تستطيع الاستحواذ عليه. فهي تختار مجالات نفوذها، وحجم أراضيها، وشكل حدودها. وقد نفهم نهج الرئيس ترامب تجاه القوى الكبرى الأخرى باعتباره قائما على الصفقات أو الواقعية. أما بالنسبة للعديد من البلاد الديمقراطية الأصغر في أوروبا الشرقية وجنوب وشرق آسيا، التي ربطت مصيرها لعقود بأمريكا ظنا منها بأن أمريكا ستمكنها من الاستمرار في الوجود قرب حدود روسيا أو الصين، فإن عقيدة ترامب في السياسة الخارجية هي الخيانة.
منذ سقوط الشيوعية، تكيفت العديد من الدول الصغيرة ومتوسطة الحجم في أوروبا الشرقية، ومنها دول البلطيق وجمهورية التشيك وبولندا والمجر، لكي تلبي المعايير الصارمة للديمقراطية الليبرالية. فكتبت هذه البلاد دساتيرها وعدّلتها، وأضفت طابعا ديمقراطيا على الحياة السياسية، وأنشأت اقتصادات السوق، ووقعت اتفاقيات تجارية. بل إن البعض منها وافق على إنشاء قواعد عسكرية أمريكية أو سجون سرية لوكالة المخابرات المركزية. وانضمت جمهورية التشيك وبولندا والمجر إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1999 وتبعتها دول أخرى لاحقا. وكان هذا التكيف منقوصا وغير متوازن ـ وانظروا على سبيل المثال إلى «الديمقراطية غير الليبرالية» التي انتهجها رئيس الوزراء فيكتور أوربان في المجر، وحكم حزب القانون والعدالة القومي الشعبوي في بولندا لمدة ثماني سنوات، والذي لم ينته إلا عام 2023ـ ولكن الاتجاه العام للمسار بدا واضحا على الدوام: وهو أن الديمقراطيات الصغيرة في أوروبا الشرقية سوف تحدِّث أنفسها وترسي دعائم الديمقراطية، ومن خلال بناء أقوى الروابط الممكنة مع القوة العظمى الديمقراطية الأولى في العالم، سوف تصبح أكثر ثراء وأمنا. (ومع مراعاة الاختلافات، يمكن قول الشيء نفسه تقريبا عن كوريا الجنوبية وتايوان في حالة آسيا).
تطلّب هذا الإيمان بفكرة الغرب قدرا من النسيان الدبلوماسي للخيانات السابقة. فقد ردّ رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين على ضم ألمانيا النازية لمنطقة السوديت التابعة لتشيكوسلوفاكيا عام 1938 بقوله: إن ذلك جزء من «شجار في بلد بعيد، بين شعوب لا نعرف عنها شيئا». وفي ثلاثينيات القرن العشرين، بدا من السهل على تشامبرلين أن يتجاهل استيلاء دولة شمولية على أراض تابعة لدولة ديمقراطية، لكن تلك الدول لم تنس ذلك قط. والعديد من الدول الصغيرة تحمل ندوب خيانة اجتماع يالطا عام 1945، حين قرر قادة القوى العظمى مصير تلك الدول دون مشاورتها، فمزقت إعادة ترسيم الحدود شمل عائلات.
لقد زجّ مؤتمر يالطا بأوروبا الشرقية في أتون عقود من القسوة وراء الستار الحديدي. ولكن في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وبعد سقوط الشيوعية، اختارت الديمقراطيات الناشئة أن تؤمن مجددا بأن الارتباط بالغرب ـ وقد أعيد صقل صورته على نحو مشرق ـ سيجلب الحرية والثروة والاستقرار.
والآن، انقسمت فكرة الغرب هذه إلى نصفين. نصف ينتمي إلى الرئيس ترامب وغيره من الشعبويين المفترسين. والنصف الآخر يتألف ممن لا يزالون يؤمنون بالديمقراطية الليبرالية، واحترام الاتفاقيات الدولية، وحق الأمم في تقرير المصير.
في الوقت الراهن، نرى أن الدول الصغيرة التي علقت مصيرها بأمريكا تجد نفسها في فخ جيوسياسي. فبالنسبة لأوكرانيا على وجه الخصوص، أثارت كلمات الرئيس ترامب وأفعاله ما يشبه الذعر الوجودي. لكن بقية جيران روسيا المباشرين بحاجة إلى خطة جديدة أيضا تتمثل في تحالفات القيم الديمقراطية.
يبدو الاتحاد الأوروبي أساسيا في هذا الجهد. فبالنسبة للبلاد الأعضاء في الاتحاد بالفعل، ومنها بولندا وليتوانيا ولاتفيا ورومانيا وإستونيا، تبدو كيفية المضي قدما مسألة أبسط. ويمثل الاتحاد الأوروبي أيضا طموحا للدول التي لم تنضم إليه بعد، ولكنها مرشحة للانضمام. وكما كان الحال في التسعينيات، سوف يتطلب التكامل بعض التكيف والتغيير – وقد يكون ذلك أولا في الإنفاق العسكري، إذ يشرع الاتحاد في خطة لإنفاق مئات المليارات لإعادة تسليح القارة. (وفي هذا تمثل بولندا نموذجا يحتذى به).
ولكن أوروبا ليست سوى جزء من الحل لسياسة ترامب الخارجية القائمة على الخيانة. إذ لا تستطيع بلاد من قبيل كندا وكوريا الجنوبية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها ستظل تسعى إلى تحالفات أمنية مع الدول التي لا تزال تشاركها في القيم الديمقراطية، وتقترب كندا بالفعل، إذ تجري محادثات للانضمام إلى التوسع العسكري للاتحاد.
إننا نعيش نهاية فصل. لكن في تحالفات الأمن والقيم، سيكون هناك فصل آخر: وقد يبدو الأمر غريبا، لكن لعلنا نشهد للمرة الأولى في التاريخ وجود غربين بدلا من غرب واحد.
ياروسلاف كويش مؤلف كتاب «سياسات بولندا الجديدة: حالة سيادة ما بعد الصدمة»، ورئيس تحرير مجلة «كولتورا ليبرالنا» الأسبوعية البولندية.
كارولينا ويجورا أستاذة في جامعة وارسو. وهما باحثان مشاركان في كلية أكسفورد للدراسات العالمية والإقليمية، وزميلان بارزان في مركز الحداثة الليبرالية في برلين.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أوروبا الشرقیة الرئیس ترامب
إقرأ أيضاً:
زخم متنامٍ: هل تتمكن المبادرات الأمنية من معالجة قضايا الأمن الجماعي الأوروبي؟
زخم متنامٍ: هل تتمكن المبادرات الأمنية من معالجة قضايا الأمن الجماعي الأوروبي؟
اتسم المشهد الأمني الأوروبي خلال الآونة الأخيرة بحالة من الزخم المكثف؛ نتيجة التهديدات الأمنية الملازمة للقارة الأوروبية، ونتيجة لذلك فقد تعددت المبادرات والمقترحات الأوروبية التي تستهدف التعامل مع حالة السيولة الأمنية الجارية، وجاءت غالبية هذه المقترحات من مؤسسات الاتحاد الأوروبي ذاته، وليس من الدول.
مبادرات الاتحاد الأوروبي:
اتخذت المفوضية الأوروبية وعدد من المؤسسات التابعة للاتحاد الأوروبي عدداً من المواقف، وتبنت عدداً من المبادرات، التي تستهدف تعزيز الأمن والحماية ومواجهة التهديدات المتنامية، وذلك على النحو التالي:
أصدرت المفوضية الأوروبية في 1 ديسمبر 2025 بياناً أعربت خلاله عن ترحيبها بمشاركة كندا في المبادة الأمنية الأوروبية “SAFE” ، فيما أشار البيان الصادر عن المفوضية إلى أن هذا الإجراء يستهدف تعزيز وتطوير قاعدة الدفاع الصناعية الأوروبية فيما يحقق استفادة الدول المشاركة، على الأخص في ظل اضطراب الأوضاع العالمية، ومثل هذا الأمر يعني تعزيز التعاون المشترك للوفاء بالالتزامات الدفاعية، وبموجب التعاون القائم بين الاتحاد الأوروبي وكندا سيتم إنشاء وتدعيم سلاسل إمداد دفاعية مرنة بين الصناعات القائمة في الجانبين لتحقيق الأمن العالمي، وكذلك فإن تقوية القواعد الصناعية ستؤدي بالتوازي إلى تعزيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل. اجتمع وزراء الدفاع لدول الاتحاد الأوروبي في 1 ديسمبر 2025؛ حيث أُجريت مباحثات بشأن آليات تقديم الدعم لأوكرانيا، وذلك بحضور وزير الدفاع الأوكراني دينيس شميكال، ونائبة الأمين العام لحلف الناتو رادميلا شيكيرينسكا؛ حيث ناقشوا خيارات التمويل المتاحة لتقديم الدعم العسكرية لأوكرانيا، وسبل تعزيز التعاون بين القواعد الصناعية الدفاعية، فيما تطرقت المباحثات لمسألة الضمانات الأمنية التي يجب تقديمها لأوكرانيا، والدور الذي يمكن أن تتولاه بعثتا الاتحاد الأوروبي: بعثة المساعدة العسكرية للاتحاد الأوروبي لدعم أوكرانيا وبعثة الاتحاد الأوروبي الاستشارية إلى أوكرانيا في تعزيز الدعم الأوروبي لأوكرانيا، وكذلك فقد ناقش الحضور مسألة حشد الدعم المالي الخاص لكييف من خلال البنك الاستثماري الأوروبي. أعلنت المفوضية الأوروبية في 19 نوفمبر 2025 عن إطلاق حزمة تنقل عسكري جديدة، وذلك في إطار سعي المفوضية لتعزيز الجاهزية الدفاعية للاتحاد الأوروبي، فيما تهدف هذه الحزمة إلى تسهيل حركة القوات والمعدات العسكرية بسرعة ومرونة عبر الدولة الأوروبية، وكذلك تدشين منطقة نقل عسكري أوروبية موحدة بحلول عام 2027، بما يشبه شينغن عسكري، فيما تشمل الحزمة تنظيماً جديداً للتنقل العسكري وتواصلاً مشتركاً يضع الأسس لتحرك عسكري منسق وفعال عبر الحدود عن طريق إزالة الحواجز التنظيمية، على أن يتم ذلك من خلال تقديم أول قواعد موحدة على مستوى الاتحاد الأوروبي للتنقل العسكري، مع تحديد مدة معالجة تصل إلى ثلاثة أيام كحد أقصى وتبسيط الإجراءات الجمركية، إلى جانب إنشاء إطار طوارئ جديد عبر نظام الاستجابة السريعة الموسع للتنقل العسكري الأوروبي الذي يوفر إجراءات معجلة، وأولوية الوصول إلى البنية التحتية لدعم القوات المسلحة عند العمل في سياق الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، كما تسعى الحزمة إلى تعزيز مرونة البنية التحتية للنقل من خلال ترقية الممرات العسكرية الرئيسية في الاتحاد وفق معايير الاستخدام المزدوج وحماية البنية التحتية الاستراتيجية باستخدام أدوات جديدة للمرونة، مع استثمارات محددة لتعزيز الأمن السيبراني والأمن الطاقي والاستعداد في فترات السلم والأزمات، كما تم الاتفاق على تعزيز القدرات المشتركة بين الدول الأعضاء عبر إنشاء “صندوق التضامن” وإمكانية تطوير نظام معلومات رقمي للتنقل العسكري يتيح متابعة وتنسيق التحركات بصورة أكثر كفاءة، بالإضافة إلى تقوية الحوكمة والتنسيق عبر إنشاء مجموعة النقل العسكري الأوروبية ولجنة شبكة النقل الأوروبية مدعومة بمنسقين وطنيين للتنقل العسكري عبر الحدود في كل دولة عضو؛ لضمان تنفيذ الحزمة ومراقبة مستوى الجاهزية على جميع المستويات. توصل مفاوضو البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي في 5 نوفمبر 2025 إلى اتفاق مبدئي لتشجيع الاستثمارات الدفاعية ضمن ميزانية الاتحاد الأوروبي الحالية، وذلك في إطار “خطة إعادة تسليح أوروبا” التي تهدف إلى زيادة الإنفاق الدفاعي وتعزيز القدرات العسكرية للاتحاد، ويشمل الاتفاق ربط أوكرانيا بالصندوق الأوروبي للدفاع، وتعديل خمسة برامج أوروبية تشمل: برنامج أوروبا الرقمية، الصندوق الأوروبي للدفاع، مرفق ربط أوروبا، منصة التقنيات الاستراتيجية لأوروبا، وبرنامج هوريزون أوروبا؛ وذلك بهدف تسريع وتسهيل الاستثمارات الدفاعية التكنولوجية والصناعية، فيما تم توسيع الدعم المالي ضمن برنامج هوريزون ليشمل الشركات ذات الاستخدام المزدوج والمتعلقة بالدفاع، مع الحفاظ على قواعد الأهلية الموجودة في أدوات الاتحاد الأوروبي الحالية. وقّع المفوض الأوروبي للشؤون الداخلية والهجرة ماغنوس برونر، في 30 أكتوبر 2025، خطة عمل مشتركة جديدة مع شركاء الاتحاد الأوروبي من دول غرب البلقان للوقاية من الإرهاب ومكافحة التطرف العنيف، وذلك على هامش منتدى وزراء الاتحاد الأوروبي ودول غرب البلقان للعدل والشؤون الداخلية في البوسنة والهرسك؛ وتهدف خطة العمل الجديدة إلى تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي وشركائه في غرب البلقان على مواجهة التهديدات الناشئة والجديدة، بما في ذلك التطرف عبر الإنترنت، والتحديات المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة مثل مخاطر استخدام الطائرات من دون طيار أو العملات المشفرة في تمويل الإرهاب، كما تشمل الخطة خمسة محاور رئيسية لتعزيز التعاون وبناء القدرات، وهي: تحقيق التوافق مع تشريعات الاتحاد الأوروبي لمكافحة الإرهاب، ومنع التطرف، وتعزيز التعاون مع وكالة يوروبول في التحقيقات المتعلقة بالإرهاب، وتقوية القدرة على التحقيق في تمويل الإرهاب، وتعزيز حماية البنية التحتية الحيوية والأماكن العامة.مبادرات الدول الأوروبية:
بالتوازي مع مبادرات الاتحاد الأوروبي، أطلق عدد من الدول والشركات الأوروبية مبادرات مماثلة، وذلك على النحو التالي:
قدمت شركة الدفاع والفضاء الجوي الإيطالية “ليوناردو” خططاً جديدةً للدفع بتدشين نظام دفاع جوي متعدد الطبقات يُعرف باسم “قبة ميكيلانجيلو” المصممة خصيصاً من أجل حماية البنية التحتية الحيوية ومناطق المصالح الوطنية والدولية من التهديدات المتنامية؛ حيث تعمل هذه القبة من خلال تعزيز التواصل بين المنصات والمعدات المختلفة في الفضاء والبحار وسطح الأرض، ومن خلال ذلك سيتم استحداث نظام جديد يكون معنياً برصد واعتراض وتحييد التهديدات الجوية مثل الطائرات المسيرة والصواريخ قبل أن تخترق المجال الجوي وتحدث أي ضرر، فيما صرح الرئيس التنفيذي لشركة ليوناردو روبرتو سينجولاني، بأن هذا النظام هام من أجل أمن إيطاليا والدول الأوروبية والدول الأعضاء في حلف الناتو، كما أشار إلى أن شركة ليوناردو (هي بالأساس شركة وطنية إيطالية مملوكة للدولة) ستقوم بتجهيز فريق من العاملين بالشركة والقوات المسلحة الإيطالية لتنفيذ هذا المشروع، على أن تقوم القبة ببدء عملياتها في 2028، وقد سبق وأن صرح وزير الدفاع الإيطالي، غويدو كروسيتو، بحاجة إيطاليا لوحدات مدنية ودفاعية جديدة تقوم بتوظيف 5 آلاف عنصر لمكافحة التهديدات الهجينة، مؤكداً أهمية استخدام أدوات واضحة خلال فترة زمنية قليلة لتطوير قدرات تنبؤية وتكيفية؛ تستهدف منع وردع واستيعاب التهديدات الهجينة. اقترح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، إنشاء نظام عقوبات أوروبي جديد لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود المرتبطة بالمخدرات، وذلك في ظل تصاعد ظاهرة تهريب المخدرات في فرنسا والقارة الأوروبية؛ حيث أوضح أن الهدف من نظام العقوبات الجديد هو استهداف المقدرات المالية لمهربي المخدرات للقضاء على الأزمة من جذورها، وأشار إلى أن نظام العقوبات المقترح سيستهدف المجرمين المقيمين في الخارج وداعميهم، سواء أكانوا متورطين في تهريب المخدرات أم الاتجار بالبشر أم تهريب المهاجرين أو تجارة الأسلحة.تهديدات متنوعة:
تستهدف المؤسسات الأوروبية من خلال المبادرات الأمنية السابقة مواجهة التهديدات الأمنية التي تشهدها القارة الأوروبية، والتي سبقت الإشارة إليها، ويمكن تفصيلها على النحو التالي:
الحوادث الإرهابية: شهدت أوروبا خلال الآونة الأخيرة عدداً معتبراً من الهجمات الإرهابية، حيث استهدف كل من الجماعات المتطرفة والمهاجمين المنفردين المدنيين الأماكن العامة، وتعكس هذه الهجمات تهديداً متزايداً من أيديولوجيات مختلفة، بما في ذلك التطرف الإسلامي، والتطرف اليميني، والحركات الانفصالية، مثل حادث دهس ماغدبورج، وطعنات مدينة سولينجن بألمانيا، وهجوم سكين أمستردام في 2025، وقد أثارت هذه الهجمات تخوفات من الثغرات الأمنية في جميع أنحاء القارة. الهجمات السيبرانية: ففي السنوات الأخيرة شهدت أوروبا تنامياً في الهجمات السيبرانية، حيث تم استهداف مواقع عدة أحزاب سياسية هولندية وبعض مؤسسات الاتحاد الأوروبي، في أعقاب الانتخابات البرلمانية الأوروبية في يونيو 2024، من قبل مجموعة قراصنة مؤيدة للكرملين تدعى “HackNeT”؛ مما أدى إلى تعطيل الخدمات الإلكترونية مؤقتاً، ومن جانب آخر، فقد تعرضت المكتبة البريطانية في أكتوبر 2023 لهجوم فدية من قبل مجموعة القراصنة “Rhysida”، التي طالبت بفدية قدرها 20 بيتكويناً لاستعادة البيانات المسروقة وإعادة الخدمات؛ وقد أدى الهجوم إلى نشر 600 جيجابايت من البيانات المسروقة على الإنترنت. تهريب الأسلحة: كثفت السلطات الأوروبية عملياتها لمكافحة تهريب الأسلحة؛ ما أدى إلى ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر واعتقال العديد من المهربين. فعلى سبيل المثال، قادت وكالة “فرونتكس” عملية واسعة في منطقة جنوب شرق أوروبا في نوفمبر 2023؛ استهدفت تهريب الأسلحة والجرائم المنظمة عبر دول غرب البلقان وشرق أوروبا، وأسفرت العملية عن ضبط 310 أسلحة، بالإضافة إلى مصادرة نحو طن من المخدرات واعتقال 566 شخصاً، كما قادت “وكالة فرونتكس” في يونيو 2024 عملية في وسط وجنوب شرق أوروبا أسفرت عن ضبط 300 سلاح ناري واعتقال 172 مهرباً، وفي ديسمبر 2024، تعاونت السلطات الألبانية والكوسوفية مع وكالتي “يوروست” و”يوروبول” لاكتشاف شبكة لتهريب الأسلحة بين البلدين؛ مما أسفر عن اعتقال 14 شخصاً وضبط 29 مسدساً و3 بنادق طويلة و2,600 طلقة ذخيرة.التحديات:
على الرغم من حالة الزخم والتعبئة المكثفة للجهود الأمنية والدفاعية؛ فإنه يوجد عدد من التحديات التي تعوق منظومة الأمن الأوروبي، وذلك على النحو التالي:
عدم القدرة على استيعاب بريطانيا في المنظومة المؤسسية الأمنية الأوروبية: فقد فشلت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في التوصل إلى اتفاق يتيح لبريطانيا المشاركة في برنامج الإجراء الأمني الأوروبي للتمويل الدفاعيSAFE ؛ حيث كانت المفاوضات تهدف إلى استثناء بريطانيا من الشروط الخاصة بوضع سقف 35% لأي مساهمة من خارج دول الاتحاد الأوروبي والنرويج وأوكرانيا، واشترط الاتحاد لذلك أن تقوم بريطانيا بزيادة مساهمتها المالية في البرنامج؛ لتسهم بنحو 4 إلى 6.5 مليار يورو، في حين قدمت بريطانيا عرضاً أقل من الرقم المطلوب أوروبياً حتى بعد تخفيضه، إلا أنه لايزال بإمكان بريطانيا المشاركة في المشتريات المشتركة ضمن الحد الأقصى المسموح به البالغ 35% من قيمة النظام التسليحي. غياب التنسيق الأوروبي الموحد: تتعارض القوى الأساسية في القارة بشأن القضايا المحورية على الأخص فرنسا وألمانيا، وكذلك لم ترحب بعض القوى الأوروبية بخطة إعادة تسليح أوروبا والمبادرات المرتبطة بها (على الرغم من الترويج الإعلامي المُكثف لها) مشيرين إلى التداعيات السلبية التي قد تخلفها الخطة؛ حيث أشار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى أن خطة إعادة التسليح من شأنها أن تدمر أوروبا، كما عارضت زعيمة الحزب الديمقراطي (ضمن أكبر أحزاب المعارضة في إيطاليا) والنائبة في البرلمان الأوروبي إيلي شلاين الخطة، مشيرة إلى أنها ستعمل على طرح بعض التغيير على المقترحات المقدمة في من قبل رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين؛ ومن ثم سيتعين على الدول الأوروبية الدفع بآلية مُحكمة، تضمن في المقام الأول تحقيق التكامل وتوحيد الجهود؛ لتكون بمثابة قوة ضغط على الرئيس الأمريكي ترامب في تشكيل سياساته نحو القارة. ضعف مشاركة الفاعلين من غير الدول في المبادرات المطروحة، وإن كان هذا الأمر بدأ يُدرك من الجانب الإيطالي؛ إذ تفرض التطورات الجيوسياسية الحالية على القوى الأوروبية التحرك لتعزيز وبناء شبكة جديدة من التحالفات الأمنية، وإن كانت هذه التحالفات لن تقتصر على الدول كفواعل رئيسية في النظام الدولي؛ حيث سيتعين على الاتحاد الأوروبي تعزيز الشراكة مع الجهات الفاعلة مثل شركات الأسلحة أو الشركات التكنولوجية والابتكارية، وكذلك تعزيز الشراكة القائمة بالفعل مع الدول ذات الرؤية المماثلة للدول الأوروبية. استمرار النهج الاستقلالي في تعزيز القدرات الدفاعية، فعلى الرغم من المبادرات التي طرحتها المفوضية مثل خطة إعادة إعمار أوروبا والورقة البيضاء ومبادرة الجاهزية؛ فإنه من الناحية الفعلية تُعطى الأولوية للسياسات المتخذة على المستوى الوطني، كما أن العديد من دول الاتحاد الأوروبي فضلاً عن الدول الأعضاء في حلف الناتو، تعمل على توظيف أنظمة دفاعية مختلفة، وكذلك يوجد اتجاه عام رافض لفكرة “جيش الاتحاد الأوروبي”؛ ومن ثم فالركيزة الأساسية لتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية غائبة. التأثير السلبي في التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة: أدت المبادرات الأوروبية التي تنص صراحة على الاعتماد على الانتاج الدفاعي الأوروبي، وتقليص الاعتماد الخارجي (مثل برنامج SAFE والذي تقتصر فيه المساهمات الخارجية على 35% فقط) إلى انتقادات أمريكية لهذه المبادرات؛ وهو ما ظهر جلياً في توجيه نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر لاندو، انتقادات حادة لحلفاء الناتو الأوروبيين خلال اجتماع وزراء الخارجية في بروكسل؛ بسبب تفضيلهم للصناعات الدفاعية المحلية على حساب الشركات الأمريكية. وقال لاندو إن السياسات الإقصائية تضعف الدفاع المشترك. من المرجح أن يستمر السعي الأوروبي في تعزيز منظوماته الأمنية والدفاعية سواء على مستوى الدول أم على مستوى الاتحاد ككل، ولا سيما الدول التي تشعر بالخطر الروسي (بعض دول شرق أوروبا وبولندا)، مع التعاطي بإيجابية مع مبادرات المفوضية الأوروبية، على أن ذلك سيظل مرهوناً بقدرة النخب السياسية الوسطية الأوروبية في الاستمرار في الحكم، واحتواء النزعة اليمينية المتطرفة المشككة في المشروعات الجماعية الأوروبية.