تشو شيوان **

السياسات الحمائية الأمريكية تعود من جديد لتتصدر المشهد الاقتصادي العالمي، ولكن هذه المرة عبر بوابة "التعريفات الجمركية المتبادلة"، التي فرضتها الإدارة الأمريكية "إدارة الرئيس دونالد ترامب" على جميع شركائها التجاريين، في خطوة فجائية أحدثت هزة عنيفة في الأسواق المالية، وأطلقت سلسلة من ردود الأفعال الدولية، وفي مُقدمتها الصين التي ردّت بإجراءات صارمة ومُباشرة؛ مما قد يؤدي إلى تصعيد تجاري غير محسوب العواقب عالميًا، خصوصًا وأن التعريفات الجمركية الأمريكية طالت الأصدقاء والأعداء، المنافسين وغير المنافسين، والجميع يتفق وحال لسانهم يقول "لا رابح ولا كاسب من كل هذه الإجراءات ولا حتى الولايات المتحدة".

من خلال هذه السياسات يبدو أن البيت الأبيض يهدف إلى تعزيز الضغوط التفاوضية على شركائه التجاريين، إلا أن من يدفع الثمن الحقيقي هو المواطن الأمريكي وليس الطرف الآخر كما يتوهم البعض، إذ تُشير تقارير اقتصادية، مثل تلك الصادرة عن جامعة ييل أو "جولدمان ساكس"، إلى أن ارتفاع التكاليف الجمركية سيُترجم مباشرة إلى تضخم في أسعار السلع المنزلية، مما يقلص القدرة الشرائية للأسر الأمريكية. ففي سيناريو لا تتخذ فيه الدول ردود فعل مشابهة سيرتفع الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 1.7%، بينما قد يخسر الناتج المحلي الإجمالي 0.6 نقطة مئوية، أما إذا ردت الدول بإجراءات مماثلة وهو ما حدث بالفعل مع الصين والاتحاد الأوروبي فستتفاقم الأزمة: ارتفاع الإنفاق إلى 2.1%، وانكماش النمو بنسبة نقطة مئوية كاملة.

هذه الأرقام تكشف مفارقة خطيرة: فبينما تزعم واشنطن أن التعريفات تهدف إلى "حماية الصناعة المحلية"، فإنها في الواقع تُثقل كاهل المواطن العادي، الذي سيدفع فاتورة هذه السياسة من خلال أسعار أعلى للسيارات والإلكترونيات والسلع اليومية، بل إن قطاعات مثل صناعة السيارات الأمريكية، التي يُفترض أن تستفيد من الحماية، قد تواجه خسائر وظائف بسبب ارتفاع تكاليف قطع الغيار المستوردة، وهو ما حذرت منه غرفة التجارة الأمريكية.

مؤسسات اقتصادية ومالية كبرى مثل "جولدمان ساكس" رفعت نسبة توقعاتها لحدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة إلى 35% خلال العام المقبل، وهو رقم لا يمكن تجاهله، خصوصًا في ظل ما تشهده ثقة المستهلك الأمريكي من تراجع مستمر. ومع تآكل القدرة الشرائية للأسر الأمريكية، يصبح تأثير هذه السياسات أكثر إيلامًا على المستوى الشعبي لا النخبوي أو السياسي، وحتى داخل الولايات المتحدة قوبلت الإجراءات بانتقادات حادة، سواء من غرفة التجارة الأميركية أو من مسؤولين سابقين وحاليين في القطاعين العام والخاص.

ردود الفعل الدولية جاءت متوقعة لكن صارمة، فالصين من جانبها لم تتأخر في الرد، وأعلنت فرض تعريفات بنسبة 34% على المنتجات الأمريكية، ورفعت دعوى قضائية لدى منظمة التجارة العالمية، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بحظر تصدير بعض المواد الحيوية إلى كيانات أمريكية، وهذا الرد السريع والحازم يعكس تحولًا في المزاج السياسي للدول المستهدفة، التي لم تعد تقبل بأداء دور المتلقي للقرارات الأمريكية، بل باتت تدافع عن مصالحها بشكل مباشر؛ بل وأحيانًا هجومي؛ إذ ترى دول العالم أن من حقها هي الأخرى أن تراعي مصالحها ومصالح شركاتها وشعوبها.

في أوروبا واليابان، عبّر المسؤولون عن رفضهم القاطع للسياسات الأمريكية، معتبرين أنها تقوّض أسس التجارة الحرة، في حين جاءت تحذيرات المستشار الألماني أولاف شولتز واضحة من أن هذه السياسات قد تشكل تهديدًا خطيرًا للتعافي الاقتصادي العالمي، فيما أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد على أن "عدم القدرة على التنبؤ" أصبحت السمة الأبرز للسياسة التجارية الأمريكية، وهي إشارة مقلقة تعكس فوضى القرار، وتعكس كيف لهذه النظرة من تأثير في مستقبل الاقتصاد العالمي وطالما دخل الشك في الأسواق فالمشاكل الاقتصادية قادمة.

السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا: هل تعي الولايات المتحدة أنها لم تعد الطرف الوحيد القادر على فرض إرادته الاقتصادية؟ فالعالم يشهد بالفعل تحولات عميقة نحو التعددية الاقتصادية وتكامل سلاسل التوريد العالمية، وأي إخلال بهذا التوازن سيضر الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة.

هنا يجب القول إن الحقيقة التي لا يمكن دحضها هي أن لا أحد يربح في حرب التعريفات الجمركية، وقد أثبت التاريخ القريب أن السياسات الحمائية لا تؤدي سوى إلى نتائج عكسية، تبدأ بانكماش الأسواق وتنتهي بفقدان الوظائف وتآكل الثقة بالاقتصاد، وأجد أنه آن الأوان لأن تدرك واشنطن أن العالم لم يعد يقبل منطق "التنمر التجاري"، وأن التعاون وليس الصدام هو الطريق الوحيد لاستقرار الأسواق وبناء مستقبل اقتصادي مشترك. ومن وجهة نظري أن الرسالة التي يجب أن تصل إلى البيت الأبيض واضحة: لا يمكن بناء ازدهار أمريكا على أنقاض شركائها.

وأخيرًا.. العولمة خلقت اقتصادات متشابكة، وأي محاولة لفك هذا التشابك بالقوة ستُسبب صدمات عنيفة للجميع، صَدمات وصِدامات ستجعل الجميع خاسرا في وقت الخسارة هي أبعد ما تريده دول وشعوب العالم.

** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية - العربية

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..

مهدي رابح

حسبو محمد عبد الرحمن، القيادي في المؤتمر الوطني، نائب رئيس الحركة الإسلامية ونائب رئيس الجمهورية واللواء في جهاز الأمن.. كل ذلك سابقاً طبعاً، وحاليا احد قيادات الدعم السريع وعقولها المدبرة.
هذه الشخصية المفصلية في الأزمة الحالية لن تجد لسيرتها أثرا تقريبا في الخطاب السائد من كلا طرفي الحرب، بل لن تجد لها أثرا حتي في الخطاب الذي يناهض استمرارها ويسعى لإيقافها..
والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا؟
في تقديري لأن ذلك يتناقض مع السرديات التبسيطية السائدة حاليا، ويكشف حجم التعقيد الذي تتسم به ازمتنا وصعوبة تعريفها تعريفا صحيحا، بكافة مستوياتها..
وبذلك أعني، وفي المستوى الأول، أن الحرب الحالية هي دون شك صناعة إسلاموية بامتياز بدأت منذ استيلاء الاسلامويين على الحكم بانقلاب عسكري عام 1989م، وبناءهم لنظام سياسي قائم على الاستبداد والقمع والفساد والافلات من العقاب، ثم نهبهم لثروات السودان وتدمير وتسييس مؤسساته وعلي راسها القطاع الامني والعسكري والعمل علي زرع الفتنة بين مكونات المجتمع المختلفة بتزكية الدوافع الاثنية والجهوية، وانشائهم لقوي مسلحة موازية أبرزها الدعم السريع نفسه.
وهو ما يفسر الوجود القوى للاسلامويين في صفوف الأخير وان كان أقل تأثيرا من وجودهم في الجانب الآخر، اي اصطفافا مع الجيش.
أي أن هذه الحرب هي صناعة إسلاموية لم تبدأ باطلاقهم الرصاصة الأولي في 15 ابريل 2023 ولن تنتهي غدا صباحا.
المستوي الثاني هو أن أحد عناصر هذه الحرب الاساسية هي تقاطع المصالح المادية و الصراع على الثروات بين مجموعات محدودة من النافذين. فهي نتاج لانفجار التناقضات والتنافس المتصاعد داخل الكارتيل الاحتكاري اللصوصي، الذي انقلب على ثورة ديسمبر بانقلاب أكتوبر 2021… والذي ضم بجانب بعض الانتهازيين من المدنيين، قيادات الجيش والدعم السريع والاسلامويين وبعض الحركات المسلحة، التي انضمت لهذا لكارتيل بعد الثورة..
اما المستوى الثالث فهو التدخل الخارجي، وبالاخص لدول الجوار الإقليمي، والذي اتخذ طابعا سافرا ظهرت ملامحه منذ عام 2019م، وما نتج عنه من مجزرة بشعة ضد المعتصمين أمام القيادة العامة وما تلي ذلك من انقلاب ثم تمويل ودعم طرفي الحرب حتى اليوم.. فهو صراع غير معلن بين قوى إقليمية تسعى استراتيجيا للسيطرة على السودان عبر وكلائها – ابرزها بالطبع قيادات الجيش والدعم السريع – من أجل تأمين نصيبها من تدفق مياه النيل وتعظيمه أو وضع يدها على منافذ تطل على البحر الأحمر أو على الثروات الطبيعية الهائلة التي تعج بها هذه البلاد المكلومة، او بالمقابل، وفي حال بع الدول الجارة، منع الدول المنافسة لبلوغ الأهداف المذكورة أعلاه.
إن التعريف الصحيح للأزمة يساهم في إيجاد الحلول الصائبة والمستدامة، أي تلك التي تتجاوز الوقف المؤقت والهش للقتال إلى آفاق بناء الدولة.. تلك الدولة التي لم تحظى بها الشعوب السودانية اصلا منذ الاستقلال، اي الدولة التي توفر الأمن والاستقرار والحرية والكرامة لكافة أفرادها بالتساوي.
وذلك يتطلب أن نحدد كل العناصر التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق ذلك – أي الوصول إلى سلام مستدام يمهد لبناء الدولة المنشودة – علي رأسهم الاسلامويين كعنصر مشترك ثابت، لكن أيضا قيادات الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة وتجار الحرب من جهة ومن الجهة الأخرى القوي الاقليمية التي تتحمل وزر هذه المأساة بنفس القدر.
ان اي مقاربة للحل لا تتضمن كيفية التعامل مع العناصر الأخرى لمعادلة الدمار التي تحدث في السودان يعني تطاول أمد الحرب وتعمّق آثارها الإنسانية المروِّعة .
بإستعارة مقولة غرامشي الشهيرة يمكننا أن نختم بالقول إن
“السودان القديم انتهى والسودان الجديد تأخّر في الظهور … وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش.”
وهي في حقيقة الأمر وجوه أو رؤوس متعددة لوحش واحد، ظل يتغذى علي الجهل والفقر والعنف والفساد والظلم الاجتماعي لمدى ستة عقود. ولن يقضي عليه قطع رأس واحدة لأنه سينمو في مكانه رأس جديد كما التنين في الأسطورة السومرية القديمة.

الوسوممهدي رابح

مقالات مشابهة

  • رئيس الجمارك: التسهيلات الجمركية تعزز تنافسية الاقتصاد المصري وتدفع حركة التجارة
  • رئيس الجمارك بـ "فود أفريكا": «التسهيلات الجمركية» تدفع حركة التجارة وتعزز تنافسية الاقتصاد المصري
  • مجموعة أممية تطالب بالإفراج عن ناقلة النفط التي احتجزتها الولايات المتحدة في الكاريبي
  • محنة التعريفات الجزئية الملتبسة..
  • رئيس منظمة السياسات الأمريكية في إفريقيا: لدينا شكوك جدية في قدرة اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا على الصمود
  • ترامب يعلن حربًا على قوانين الذكاء الاصطناعي في الولايات الأمريكية
  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد
  • أهم 10 أحداث أثرت في الاقتصاد العالمي خلال 2025
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • نيودلهي تواجه الضربة الأمريكية .. محادثات بين مودي وترامب بشأن الرسوم الجمركية