هل تسهم التشكيلة الوزارية الجديدة في رفع العقوبات عن سوريا؟
تاريخ النشر: 10th, April 2025 GMT
بعد شهور من المشاورات والتكهنات، أبصرت التشكيلة الوزارية الجديدة في سوريا النور، وسط تحديات سياسية واقتصادية كبيرة، راكمتها عقود طويلة من فساد نظام الأسد (الأب والابن)، لتضم الوزارة 23 وزيرا بينهم امرأة، مثلوا أغلب المكونات الطائفية والعرقية للشعب السوري.
وفي ظل تاريخ طويل من العقوبات التي فرضت على سوريا منذ عهد النظام السابق، تُطرح هذه الخطوة على أنها نقطة تحول محتملة، قد تشكل بداية لتغيير معادلات العلاقات الدولية والاقتصادية مع سوريا.
وبينما تحاول القيادة السورية الجديدة رسم ملامح إصلاحية تجذب الاستثمارات وتفتح أبواب التقارب مع المجتمع الدولي، يبقى السؤال قائما: هل ستسهم هذه التشكيلة الوزارية في كسر الحلقة المفرغة للعقوبات وإعادة بناء الاقتصاد الوطني، والمباشرة بعملية إعادة الإعمار، أم أن الطريق نحو تحقيق ذلك سيظل طويلا ومعقدا، ومشروطا بمتطلبات سياسية وأمنية صارمة ترتبط بمصالح الدول التي فرضت هذه العقوبات؟
لاقى إعلان تشكيل الحكومة السورية الجديدة أواخر مارس/آذار الماضي، ترحيبا حذرا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث أعربا عن استعدادهما للتعاون مع الحكومة الجديدة، ووصفا هذه الخطوة بأنها "تطور إيجابي" يعكس محاولات واضحة لإعادة هيكلة الدولة على أسس جديدة.
غير أن هذا الترحيب لم يكن تفويضا مفتوحا، بل جاء مشروطا بجملة من المطالب السياسية والحقوقية، عبرت عنها واشنطن وبروكسل بشكل منسق، مما يعكس تطابق رؤية الطرفين في موقفهما من الحكومة الجديدة، مشددين في الوقت نفسه على ضرورة تنفيذ إصلاحيات جوهرية كشرط لتخفيف محتمل للعقوبات.
وكان بيان الاتحاد الأوروبي متقدّما في تجاوزه الترحيب، إذ أكدت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أن الاتحاد مستعد للتعاون مع الحكومة الجديدة لمساعدتها على مواجهة التحديات الهائلة التي تنتظرها.
إعلانوأوضحت كالاس أن الاتحاد الأوروبي ينظر بإيجابية إلى المرحلة الانتقالية في سوريا، مشيرة إلى أن أوروبا ستعمل على تقديم الدعم اللازم لعملية إعادة الإعمار، بشرط ضمان التزام الحكومة الجديدة بمبادئ حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية، وإشراك جميع الأطياف السورية في العملية السياسية.
في المقابل، كان الموقف الأميركي أكثر تشددا، فبعد ترحيبها بتشكيل الحكومة الجديدة، لفتت واشنطن إلى أنها لن تخفف العقوبات حتى تتحقق من إحراز تقدم بشأن "الأولويات" التي حددتها الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس خلال مؤتمر صحفي في 31 مارس/آذار بالقول "ينبغي للسلطات المؤقتة في سوريا أن تنبذ تماما الإرهاب وتقمعه، وتستبعد المقاتلين الإرهابيين الأجانب من أي أدوار رسمية، وتمنع إيران ووكلاءها من استغلال الأراضي السورية".
كما طالبت السلطات السورية "باتخاذ خطوات هادفة لتدمير الأسلحة الكيميائية لنظام بشار الأسد بشكل يمكن التحقق منه، والمساعدة في العثور على المواطنين الأميركيين وغيرهم ممن اختفوا في سوريا، وضمان أمن وحريات الأقليات الدينية والعرقية".
التكونقراط ورفع العقوبات
إلى جانب ترحيبها بالحكومة الجديدة، أرسلت الولايات المتحدة رسائل تفيد بأنها ترى في التشكيلة الوزارية الجديدة "حكومة تكنوقراط"، وذلك بحسب تصريحات صحفية لجويل رايبورن نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية، الذي اعتبر أن "الشعب السوري هو من يقيم الحكومة الجديدة".
وقد ضمت الحكومة الجديدة عددا كبيرا من الخبراء والفنيين في مختلف القطاعات، وهو ما منحها طابع "التكنوقراط"، وهذا الاتجاه يرى محللون أنه يشكل عنصرا محوريا في تغيير معادلة العلاقة مع الغرب، إذ إن التركيز على إدارة الدولة بكفاءة وخبرة، إلى جانب الابتعاد عن المحاصصة والتحزبات السياسية يجذب دعم وتقدير الجهات الدولية، مما يعزز فرص رفع العقوبات الاقتصادية، ويخلق فرصا لتحقيق إصلاحات شاملة ومستدامة.
إعلانوتعليقا على ذلك، يرى منسق فريق "قانون قيصر" في المعارضة السورية عبد المجيد بركات، أن آلية رفع العقوبات أو تخفيفها تحتاج إلى عملية متكاملة تسير بالتوازي مع عدة اتجاهات قد يكون الأداء الوظيفي والإداري والخدمي للدولة السورية جزءا من هذه العملية، وبالتالي فإن جزءا من الأمر متعلق بتشكيل هذه الحكومة وبشخوص الوزراء ومدى تنوعهم ومدى تمثيلهم للمكونات السورية.
ويرى بركات، في حديثه للجزيرة نت، أن هذه التشكيلة الوزارية تعطي انطباعا إيجابيا للمجتمع الدولي للبدء بعملية رفع العقوبات، خاصة بعد أن رأى إشارات إيجابية في تشكيلها، من ناحية اعتمادها على عناصر "تكنوقراطية" تمتلك خبرة وكفاءة.
وفي كلمة ألقاها عقب أدائه صلاة عيد الفطر في قصر الشعب، قال الرئيس السوري أحمد الشرع "سعينا قدر المستطاع أن نختار الأكفاء.. وراعينا التوسع والانتشار والمحافظات وراعينا أيضا تنوع المجتمع السوري، رفضنا المحاصصة ولكن ذهبنا إلى المشاركة في تشكيل الحكومة واختيار وزرائها".
من ناحيته، يرى المحامي والناشط الحقوقي غزوان قرنفل أن هذه التشكيلة الحكومية ليست مقنعة بشكل كبير للغرب، لكنه حاليا مضطر لإقناع نفسه إلى حد ما أنها مقبولة، خصوصا أن فيها تمثيلا مقبولا لمكونات الشعب السوري.
ويرى قرنفل، في حديثه للجزيرة نت، أن الغرب له مصلحة كبيرة في استقرار الأوضاع في سوريا، لذا سيلجأ إلى دعم هذه الحكومة لتسوية العديد من الملفات السياسية والإنسانية، على رأسها ملف اللاجئين الذي أصبح يشكل ضغطا كبيرا على الحكومات الغربية.
الحكومة والمطالب الدوليةرغم الإشارات والتصريحات الإيجابية، التي عكست إلى حد كبير حالة الرضا الدولي عن تشكيل أول حكومة سوريا انتقالية، فإن سلوك هذه الدول يشير إلى أن موضوع رفع العقوبات لا يتعلق بتشكيل الحكومة فقط، وإنما يرتبط بشكل أساسي بقدرتها على تنفيذ مطالب هذه الدول في سوريا.
إعلانوفي هذا السياق، لا يعتقد مدير وحدة تحليل السياسات في مركز حرمون للدراسات سمير العبد الله أن رفع العقوبات المفروضة على سوريا مرتبط بشكل أساسي بتشكيلة الحكومة الانتقالية الجديدة، فالحكومة وفقا للظروف الراهنة التي تمر بها البلاد والتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية القائمة، تُعد مقبولة من حيث تركيبتها، إذ حاولت تمثيل مختلف المكونات السورية، رغم احتفاظ "هيئة تحرير الشام" بالحقائب السيادية، على حد قوله.
ويوضح العبد الله، في حديثه للجزيرة نت، أن رفع العقوبات يرتبط بصورة أعمق وأوسع بسلوك الحكومة وسياساتها تجاه ملفات رئيسية، كقضية الأقليات وحقوق الإنسان، ومكانة سوريا في النظام الإقليمي، والعلاقات مع قوى مؤثرة دوليا وإقليميا، وعلى رأسها إيران وروسيا وإسرائيل، ومسألة مكافحة الإرهاب، ومصير المقاتلين الأجانب في سوريا.
وفي المقابل، يرى رئيس المجلس السوري الأميركي فاروق بلال أن الإدارة السورية الجديدة عملت على تلبية هذه المطالب حتى قبل تشكيل الوزارة الجديدة، وذلك بعد زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط باربارا ليف إلى دمشق في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2024.
وفي حديثه للجزيرة نت، يعدد بلال أمثلة على تجاوب دمشق مع هذه المطالب، منها تشكيل لجنة للبحث والتقصي عن مصير الصحفي أوستن تايس والمفقودين الأميركيين معه، ومنها أيضا الترحيب بدخول لجنة الأمم المتحدة الخاصة بأسلحة الدمار الشامل إلى سوريا، إلى جانب استعداد الإدارة الجديدة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب.
وقد لاقت هذه الإجراءات صدى مؤثرا في الدول الأوروبية التي قامت بتخفيف العقوبات، واستعدادها لدعم هذه الحكومة، إلى جانب فتح علاقات دبلوماسية وفتح بعض القنصليات والسفارات في سوريا، بحسب بلال.
وبمقارنة الشروط والمطالب لكل من الطرفين (أوروبا وأميركا)، يبدو أن أوروبا تتبع منحى تدريجيا في التعامل مع الحكومة السورية الجديدة، حيث يتم تقديم حوافز بناء على التقدم المحرز، بينما تتبع واشنطن سياسة "التنفيذ الكامل أولا، ثم المكافأة لاحقا"، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي.
إلى جانب الشروط الأميركية والأوروبية، تبرز عقبة أخرى في مسألة رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، تتمثل بتصنيف هيئة تحرير الشام (تم حلها) وقائدها الرئيس السوري الحالي على قوائم الإرهاب الأميركية والأوروبية.
إعلانومما يزيد المشهد تعقيدا أيضا -بحسب خبراء- هو وجود شخصيات ضمن التشكيلة الوزارية الجديدة مصنفين على هذه القوائم، مثل وزير الداخلية أنس خطاب (أبو أحمد حدود).
وبناء عليه، يرى المحامي قرنفل أن رفع العقوبات سيتأخر نسبيا بسبب استمرار تصنيف هيئة "تحرير الشام" وكوادرها على لوائح الإرهاب، رغم إعلان الرئيس الشرع حلها، فإن الغرب ما زال يرى أن هذا الحل "صوري" فقط.
ورغم ذلك، يتابع قرنفل، فإن الغرب يتعامل مع الإدارة السورية الجديدة دون التقيد كثيرا بموضوع التصنيف، مما يشير إلى وجود توجه أميركي أوروبي لرفع العقوبات مستقبلا، لكن على طريقة تنفيذ سياسة "خطوة مقابل خطوة" مع القيادة السورية في دمشق.
ويتوقع العبد الله أن حل هذه المعضلة والإسراع في رفع العقوبات، إلى جانب معالجة الكثير من المسائل، سيناقش خلال اللقاء المتوقع عقده بين ترامب والشرع في الرياض برعاية سعودية.
وكانت مصادر إعلامية كشفت عن ترتيبات جارية لعقد لقاء قريب بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره السوري أحمد الشرع، وذلك على هامش الزيارة المرتقبة لترامب إلى السعودية منتصف مايو/أيار المقبل.
عقوبات اقتصادية أم سياسية؟أمام تمسك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشروط الاعتراف بالحكومة السورية، يبدو أن رفع هذه العقوبات بشكل كامل لا يزال بعيد المنال، إلا أن هذه التشكيلة الوزارية تمهد بحسب مراقبين إلى تخفيف تدريجي لهذه العقوبات، خصوصا المرتبط منها بالقطاعات الإنسانية والخدمية.
وكانت الإدارة الأميركية اتخذت سلسلة من هذه الخطوات تجاه دمشق، أبرزها القرار الصادر عن وزارة الخزانة في يناير/كانون الثاني الماضي برفع جزئي للعقوبات الاقتصادية عن سوريا لمدة 6 أشهر، بهدف تمكين الحكومة السورية من تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين.
وفي 27 يناير/كانون الثاني الماضي، اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي على "خريطة طريق" لتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا في عهد النظام السابق وعدة قطاعات اقتصادية خلال الحرب السورية. وشمل التخفيف قطاعات حيوية مثل الطاقة والنقل والمؤسسات المالية.
إعلانإلى جانب ذلك، أقرت الخارجية البريطانية تخفيفا للعقوبات المفروضة على سوريا في السادس من مارس/ آذار الماضي تضمن حذف 24 كيانا سوريا، بينها البنك المركزي وبنوك أخرى وشركات نفط، من قائمة العقوبات، وأوقفت تجميد أصولها.
وفي هذا السياق، يوضح السياسي عبد المجيد بركات إلى أن هذه التشكيلة الوزارية تشكل خطوة باتجاه عملية الانتقال السياسي الذي طالما دعت إليه الدول الإقليمية والغربية، مما سيسهم كثيرا في تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا.
ويستدرك بركات بالقول صحيح أن هذه العقوبات ذات طابع اقتصادي، ولكن جوهرها مرتبط بالسلوكيات السياسية والقانونية والأمنية والعسكرية للدولة السورية الجديدة، وبالتالي فإن هذه السلوكيات هي التي تحدد ما إذا كانت العقوبات سترفع بشكل نهائي، أم أن الدول الغربية ستكتفي بتخفيفها تدريجيا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات التشکیلة الوزاریة الجدیدة المفروضة على سوریا الاتحاد الأوروبی الحکومة السوریة السوریة الجدیدة الحکومة الجدیدة تشکیل الحکومة رفع العقوبات هذه العقوبات إلى جانب فی سوریا إلى أن أن رفع
إقرأ أيضاً:
فرص نجاح الحكومة السودان الجديدة
بعد طول ترقّب، أعلن رئيس الوزراء السوداني الدكتور كامل إدريس تعيين وزيرَي الدفاع والداخلية في حكومته المنتظرة دون الإفصاح عن الموعد المحدد لإعلان بقية حقائب الحكومة، الأمر الذي يعكس حجم التعقيدات التي تواجه مشاوراته مع فرقاء الساحة السياسية، وبالأخص الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا قبل خمس سنوات.
وكان رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان قد كلّف إدريس بمهام رئيس الوزراء بعد ما يقارب أربع سنوات من قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول والتي قضت بحل الحكومة حينذاك وفضّ الشراكة مع قوى الحرية والتغيير، وظلّ الموقع شاغرًا طوال هذه المدة، مما أدى إلى تعميق المشاكل في جهاز الخدمة العامة، وإحداث التسيب في أدائها.
وعلى الرغم من تردد اسم كامل إدريس مبكرًا فإن توازنات اللعبة السياسية داخليًا وخارجيًا أخرت تولّيه هذا المنصب المهم خمس سنوات، ويأتي تعيينه وسط تحديات كبيرة تواجه السودان، خاصة بعد اندلاع الحرب التي تشنها مليشيا الدعم السريع على الشعب السوداني والتي تجاوزت العامين مخلفة مآسي إنسانية هائلة، ووضعًا اقتصاديًا مزريًا، وتمزقًا في المشهد السياسي وخلافات عميقة بين المكونات الاجتماعية السودانية المختلفة.
فقد أضافت الحرب الحالية صعوبات أخرى جديدة على الأوضاع الموروثة أصلًا في هذا البلد الذي مزقته الصراعات وأخرت مشاريع التنمية فيه، وبما أن الدكتور كامل إدريس لا ينتمي للنادي السياسي المعروف تاريخيًا في السودان بتوزيع الولاءات والانتماءات بين القوى السياسية المتناحرة، حيث إنه لا ينتمي لأي حزب سياسي، بل ظلّ خارج السودان حتى بعد انتهاء فترة تكليفه بقيادة المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فإن ذلك قد يكون عامل قوة وضعف في نفس الوقت.
ففي بلد مثل السودان الذي تلعب فيه العوامل الاجتماعية والقبلية دورًا مؤثرًا في تشكيل المشهد السياسي يحتاج المرء إلى معرفة الديناميات التي تحكم ذلك التنوع القبلي والإثني، ومن ثمّ ترتيب الأمور على نحو يضمن التوازن ويحقق الرضا، بينما يرى آخرون أن عدم تصنيف كامل إدريس وانتمائه لأي حزب قد يعفيه من كثير من الالتزامات التي تقع على الأحزاب كونها تتشكل من خلفيات اجتماعية شتى وملزمة بإحداث التوافق والتوازن في التمثيل.
إعلانكل هذه الأمور تطرح تساؤلًا مركزيًا عن فرص نجاحه وسط هذه الأمواج العاتية والتحديات الكبيرة.
وضع عسكري مقلق وملفات مدنية شائكةلعل التحدي الأبرز الذي يواجه الدكتور إدريس هو الوضع العسكري والأمني في البلاد، وعلى الرغم من أن هذا الملف تقع مسؤوليته بصورة مباشرة على مجلس السيادة والقوات المسلحة السودانية، ولكن تفاصيل إدارته وآثاره العملية والإنسانية ستؤثر وبشدة على فرص نجاح هذه الحكومة التي لم تعلن بعد.
ومن مدينة بورتسودان – ألف كيلومتر شرق الخرطوم العاصمة – العاصمة الإدارية حاليًا أعلن إدريس أن من أولويات حكومته العودة ومباشرة المهام من العاصمة الخرطوم، ومع أهمية هذا الهدف وتعلق قلوب ملايين السودانيين به، هل بإمكان الحكومة تحقيقه في المدى القريب؟
عمليًا لا تزال حرب المليشيا على الشعب السوداني مستمرة، وصحيح أن الجيش والقوات التي تسانده نجحوا وبعد تضحيات كبيرة في هزيمة المليشيا وطردها من ولايات: سنار، الجزيرة والخرطوم، ولكن المليشيا اعتمدت تكتيكًا آخر وهو مهاجمة هذه المواقع عبر المسيرات الإستراتيجية واستهداف البنية التحتية، وخاصة خدمات الكهرباء والمياه؛ بغرض تعطيل خطة الحكومة الرامية لتطبيع الأوضاع العامة، والعمل على إعادة ملايين النازحين واللاجئين إلى بيوتهم، هذا فضلًا عن استمرار معركة الكرامة في ولايات كردفان، حيث تحقق متحركات الجيش تقدمًا ملحوظًا على الأرض.
وعلى الرغم من التحالف الذي نشأ بين المليشيا وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبدالعزيز الحلو، نجح الجيش في تحقيق انتصارات متتالية في مدن كردفان، واستعاد بعض المناطق من حركات التمرد هناك، وفي دارفور تسيطر المليشيا على أربع ولايات بينما تحتدم المعارك حول الفاشر وتخومها في ولاية شمال دارفور.
وقد شكل صمود الفاشر والتضحيات التي قدمتها القوات المسلحة مسنودة بالقوات المشتركة- وهي قوة قتالية فعالة تتكون من حركات دارفور الموقعة على اتفاق جوبا- إفشالًا لخطط المليشيا بإعلان حكومة موازية تكون الفاشر عاصمتها.
ولا يقل الملف الاقتصادي تعقيدًا عن الملف العسكري والأمني، حيث خلّفت الحرب وضعًا معقدًا وغاية في الصعوبة، فقد استهدفت مليشيا الدعم السريع وبشكل ممنهج كل المؤسسات الاقتصادية من مصانع وبنوك ودمرتها تدميرًا شاملًا في العاصمة الخرطوم، وهناك تقديرات أولية تقول إن حجم الخسائر يتجاوز 215 مليار دولار في القطاعين: الصناعي، والزراعي وحدهما، بينما تقول تقارير المنظمات الإنسانية إن 70% من المستشفيات والمؤسسات الصحية خارج الخدمة حاليًا والخسائر في البنية الصحية تقدر بحوالي 11 مليار دولار.
كما أن المليشيا قامت بعمليات نهب واسعة ومنظمة استهدفت ممتلكات المواطنين ومدخراتهم، بجانب تخريب خدمات المياه والكهرباء وسرقة معدات الطاقة والمحولات الكهربائية، والتحدي الأبرز في هذا المحور هو في كيفية إعادة تشغيل النظام الاقتصادي وإعادة بناء، منظومته اللوجيستية، وضمان توفير المطلوبات العاجلة لتحريك عجلة الاقتصاد.
إنسانيًا تقول الأمم المتحدة إن الوضع في السودان يعتبر الأسوأ عالميًا، حيث تسببت الحرب في مقتل ما بين 70 ألفًا إلى 100 ألف قتيل من المدنيين، وتجاوز عدد النازحين واللاجئين لدول الجوار عشرة ملايين، وتوقفت العملية التعليمية لأكثر من ستة ملايين تلميذ، وأكثر من 700 ألف طالب جامعي.
إعلانوبعد تحرير الخرطوم بدأت عودة المواطنين لمنازلهم، ولكن لا تزال الشكوى قائمة من انعدام الخدمات الأساسية، خاصة بعد استهداف مليشيا الدعم السريع محطات المياه والكهرباء بالمسيرات الحربية، ويقول والي ولاية الخرطوم إن حكومة الولاية قادرة على توفير الأمن والخدمات.
وتتزايد الأزمة الإنسانية في ولايات دارفور وبعض مناطق ولايات كردفان، حيث لا تزال المعارك دائرة، مما يضعف قدرة المواطنين على الوصول لمزارعهم وممارسة نشاطاتهم الاقتصادية المطلوبة.
مشاورات صعبة لتشكيل الحكومةيحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس تجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة سهلة، خاصة أن أطراف اتفاق جوبا، وأبرزهم حركة العدل والمساواة برئاسة الدكتور جبريل إبراهيم وزير المالية، وحركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور تصرّ على الاحتفاظ بنفس الوزارات المهمة كالمالية والمعادن والتي ظلت تشغلها منذ التوقيع على اتفاق جوبا في 2020.
بينما يرى رئيس الوزراء والدائرة المحيطة به أن الحكومة ملزمة فقط بنسبة الـ 25% التي نصت عليها اتفاقية جوبا للسلام دون النص على وزارات محددة، وتقول تقارير صحفية إن رئيس مجلس السيادة تدخل في المشاورات لتقريب وجهات النظر ومحاصرة عوامل الاختلاف.
أدى الفراغ في موقع رئيس الوزراء إلى مشاكل في الخدمة المدنية اضطر معه مجلس السيادة لممارسة بعض الصلاحيات التنفيذية في الفترة الماضية، وتحتاج مستويات الحكم لإعادة تنظيم الاختصاصات بما يخلق الانسجام ويؤسس للتعاون البناء دون تدخل من أحد الأطراف في صلاحيات الآخر.
وعلى كل فإن المهمة المركزية أمام رئيس الوزراء وحكومته المرتقبة هي استعادة عمل أجهزة الدولة لتعمل بكفاءة وقدرة تمكنها من إعادة تفعيل ديوان الخدمة العامة، والعمل على نقل الحكومة للعاصمة القومية الخرطوم، وهو ما يتطلب وبصورة عاجلة دعم قوات الشرطة والأمن وأجهزة العدالة كالنيابة والقضاء لتقوم بدورها، إذ مع بداية عودة النازحين لمنازلهم برزت مشكلة التفلتات الأمنية في الخرطوم من مجموعات كانت تعمل مع الدعم السريع التي قامت إبان سيطرتها على الخرطوم بإطلاق سراح آلاف الموقوفين في السجون وتسليحهم في معركة عدوانها ضد الشعب السوداني.
كما أن الحكومة بحاجة عاجلة لخطة اقتصادية إسعافية تركز على الإسراع بتحريك عجلة الإنتاج في محاور الزراعة والصناعة والاستثمار، وتوظيف الموارد المتاحة كالذهب والبترول والموانئ؛ لتوفير الأرضية المناسبة لانطلاق برنامج إعادة الإعمار الكبير.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا.
وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا منطقة المثلث الحدودي الإستراتيجية التي تتوزع بين السودان، ومصر، وليبيا، وذلك بمساندة من مليشيات ليبية مدعومة من خليفة حفتر، وعلاقات مضطربة مع دول الجوار في تشاد وجنوب السودان وكينيا التي توفر ملاذًا لقيادات المليشيا العسكرية والسياسية، ويزداد التحدي في هذه النقطة من سعي المليشيا لإنشاء حكومة موازية في دارفور والمناطق التي تسيطر عليها على غرار التجربة الليبية.
وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في ذلك، فإن الأمر يتطلب تحركًا دبلوماسيًا فاعلًا يحاصر المليشيا ويقضي على طموحاتها السياسية، وما يشجع في هذا الأمر هو الترحاب الذي قوبلت به خطوة تعيين رئيس الوزراء من قبل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وأطراف إقليمية عدة.
ويرجح أن يعود السودان عضوًا فاعلًا في الاتحاد الأفريقي بعد رفع تجميد عضويته منذ قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول قبل أكثر من ثلاث سنوات، وفي مارس/ آذار الماضي أدان الاتحاد الأفريقي محاولات المليشيا إقامة حكومة موازية، وهو ما اعتبره المراقبون تحولًا في الموقف الأفريقي نتيجة التغيير الذي تم في رئاسة المفوضية والجهود الكبيرة التي اضطلع بها مندوب السودان في المنظمة الأفريقية المهمة، وفي ظل تراجع الحديث عن الحلول السياسية تحتاج الحكومة لصياغة مشروع متكامل للتعامل مع المستجدات المتوقعة في هذا الإطار.
إعلانوبعد الفراغ من المهام العاجلة تنتظر الحكومة المقبلة مهمة كبرى، وهي كيفية تهيئة البلاد نحو الوضع السياسي الطبيعي، وإنهاء حالة الانتقال الهشة التي استطالت منذ سقوط النظام السابق في أبريل/ نيسان من العام 2019، وكان من المرجح أن تنتهي بالانتخابات بعد أربع سنوات.
والتحدي الأبرز هنا هو في تفكك الحاضنة السياسية التي تقف خلف الجيش، وفشلها في تكوين تحالف مرن يمكنها من الدفع السياسي والاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب، وتحتاج الحكومة والمجلس السيادي تعميق التشاور مع الأطراف السياسية؛ لتنظيم الحوار السوداني- السوداني الذي وعد به رئيس الوزراء في أول خطاب له بعد أداء القسم، وذلك للنظر في كيفية التحول نحو الانتخابات وإنهاء حالة الانتقال، وفي خضم ذلك تطل قضايا لا تقل أهمية مثل رتق النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب، وخطاب الكراهية الذي انتشر بصورة كبيرة بين المكونات الاجتماعية.
وعلى كلٍّ فإنه يبدو أن رئيس الوزراء محيط بكل تلك الصعوبات، فقد خرج مخاطبًا الشعب السوداني ليحدد أولويات حكومته وخطتها لاستعادة الاستقرار ومسار بناء الدولة، ومن خلال ذلك البيان أطلق شعار الأمل ليكون عنوانًا لبرنامج حكومته المنتظرة، كما أنه خاطب أجهزة الإعلام داعيًا إياها لمساعدة الحكومة على استقاء الأخبار من مظانها وعدم تعميق الخلاف بين المكونات الوطنية.
ويحتاج رئيس الوزراء إلى الإسراع بإعلان حكومته، فالشعب ينتظر العمل على الأرض والإنجازات التي تمكنه من العودة إلى دياره واستئناف حياته، ولن يكفي شعار الأمل وحده لتحقيق تلك التطلعات الكبيرة، ولذلك لا يزال كثير من المواطنين يتساءل متى سيبدأ العمل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline