عربي21:
2025-06-26@07:30:44 GMT

كم كنا بعيدين عن العصر

تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT

ظللت على مدى سنوات طوال أسأل نفسي:  لماذا نكيل السباب للغرب، وننسب إليه كل الرذائل؟ صحيح أن الغرب الاستعماري مسؤول عن كثير من المآسي التي حاقت بنا، ولكنني ـ شخصيا ـ أحس بأنني أدين للغرب بالكثير، فقد شاءت ظروفي أن أنتمي إلى جيل تمتّع بالدهشة التي مصدرها الغرب. جيلٌ شهد الطفرات والتحولات الكبرى في مجال المخترعات والاكتشافات، بينما جيل الشباب المعاصر يرى أن كل ما هو مبهر من حوله، على أنه "عادي"، أما نحن فقط انبهرنا بالكتشاب والمايونيز والراديو والتلفزيون، والتلفون والسندويتش، وعموم الوجبات التي تتسم بـ"السرعة".

ولهذا فعندما يسرد أبناء وبنات جيلي ذكريات الطفولة والصبا لعيالهم، يحسبهم العيال ديناصورات أفلتت من الانقراض.

وأقرّ وأعترف بأن هناك محطات في حياتي، كلما زرتها هتفت بـ"المصري": كنا فين وبقينا فين. ففي الوقت الذي كان فيه الغرب يتأهب لغزو الفضاء، جعلتني بعض مخترعاته مهيأ نفسيا وعقليا لأهوال يوم القيامة، بحسبان أنني شهدت جانبا منها، وكنت وقتها تلميذا في المدرسة الابتدائية، وكان الجو شتائيا عندما ظهر سيف أبيض طويل ومتجانس الشكل بعرض السماء، فانفجرت آلاف الحناجر بالعويل والصراخ: ويي بيووو وي بيوو. هذه هي الصرخة التي صدرت عن حناجر أهلي النوبية، التي تقابلها باللهجة المصرية: يا لهوي، يا خرابي، يا مصيبتي، يا نهار أسود ومنيِّل. وكان الأكثر إيمانا يستنجدون بلسان نوبي فصيح: وو نور كمبو كقر. (يا الله يا قوي يا عزيز)، ثم بدأ قرع الطبول، وبدأ كل بيت في إعداد البليلة، من اللوبياء والذرة الشامية، فهذه عادتنا عند كسوف الشمس وخسوف القمر، وبإزاء كل الظواهر الطبيعية التي لم نكن نعرف لها تفسيرا.

أعترف بأن هناك محطات في حياتي، كلما زرتها هتفت بـ"المصري": كنا فين وبقينا فين. ففي الوقت الذي كان فيه الغرب يتأهب لغزو الفضاء، جعلتني بعض مخترعاته مهيأ نفسيا وعقليا لأهوال يوم القيامة، بحسبان أنني شهدت جانبا منها، وكنت وقتها تلميذا في المدرسة الابتدائية، وكان الجو شتائيا عندما ظهر سيف أبيض طويل ومتجانس الشكل بعرض السماء، فانفجرت آلاف الحناجر بالعويل والصراخ: ويي بيووو وي بيوو. هذه هي الصرخة التي صدرت عن حناجر أهلي النوبية، التي تقابلها باللهجة المصرية: يا لهوي، يا خرابي، يا مصيبتي، يا نهار أسود ومنيِّل.ولكن غالبية الناس كانت في حالة انهيار كامل بعد أن أدركوا انهم لم يحسنوا الاستعداد ليوم القيامة، وها هي السماء تنشطر نصفين، وستهوي على الرؤوس بعد قليل. فاندفع الناس يطلبون الصفح والعفو من أمهاتهم وآبائهم وأقاربهم وجيرانهم. ومنهم من سدد دينا كان ينكره على مدى عشر سنوات أو أكثر. وهرع بعض الحكماء إلى جدي الشيخ حاج فرحان، وكان فقيها عالما وكاتبا وشاعرا ويقضي معظم ساعات يومه في التأمل والاطلاع، ووجدوه ثابت الجأش وهو يقرأ: "إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت"، ولم يعجب ذلك بعض من كانوا يريدون من الشيخ أن يطمئنهم بأن الأمر لا يتعلق بقيام الساعة، وصاح أحدهم بما معناه: ما هذا يا شيخ؟ أتيناك طالبين الطمأنينة فتشق علينا السماء والأرض؟ ولكن حاج فرحان واصل تلاوة القرآن دون أن يبدو عليه هلع أو وجل.

وفجأة لاحظ أحدهم أن السيف الذي كان يشق السماء صار يخبو، بل واختفت أجزاء منه. منهم المتشائم الذي قال إن الجزء الذي اختفى من السيف أو الخيط الأبيض، لابد أن يكون سقط على الخرطوم لأن أهلها فاسدون، ويقال إن عندهم متاجر تبيع الخمر الملون المصنوع في بلاد الكفار، ومنهم من قال إن الجزء الذي اختفي من الخيط عبارة عن فجوة ستسقط منها النيازك والشهب فيهلك الجميع. ولكن الطمأنينة عادت إلى القلوب بعد ان اختفى السيف الابيض تماما دون أن تأتي نفخة الصور. وظل أمر ذلك الخيط المرعب لغزا لأهل بلدتنا، وبعدها بسنوات كنت في الخرطوم ورأيت نفس ذلك الخيط في السماء، وبدأت أهمهم بسورتي الزلزلة والانشقاق، فصاح من كان معي متسائلا عن سر طنطنتي، فأشرت إلى السماء بيد مرتجفة، فانفجر رفيقي السخيف ضاحكا، وشرح لي أن الخيط ينجم عن نفث الدخان من الطائرات ''النفاثة''، وقال لي كلاما طويلا عن تكثف البخار. وفي ذلك اليوم أحسست ولأول مرة بالانتماء إلى القرن العشرين، ولو "بالتجنس".

ثم عشت جانبا مما حسبته من أهوال القيامة، وأنا طالب في المرحلة المتوسطة في بلدة "البرقيق"، وهي أيضا في قلب المنطقة النوبية. وكنا في الحصة الثالثة عندما سمعنا دويا يصم الآذان، ولأن تلك الحصة تعقب وجبة الفطور مباشرة، فقد حسبت الدوي ناجما عن تعاطي الفول، لأن الفول يسبب النعاس والهذيان، ثم لمحنا عبر النوافذ طائرا عملاقا يروح ويجيء فوق مبنى المدرسة، فانفتحت حناجرنا بالعويل، واندفعنا خارجين من غرف الدراسة عبر الأبواب والشبابيك، نجري في كل الاتجاهات، والطائر الوحشي يحوم من فوقنا، وحاول المدرسون تطويقنا وتهدئتنا، ولكن لم يكن هناك مجال لـ ''قُم للمعلم وفِّه التبجيلا''، فقد كانت مسألة حياة أو موت، ولا مجال للانضباط واحترام المعلم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

وفجأة سكت هدير ذلك الطائر الخرافي، فتحركنا ببطء لتحديد الوجهة التي طار إليها. وعندها نجح المدرسون في تهدئتنا، وطلبوا منا الانتظام في طابور طويل، وساروا بنا إلى الفسحة الشمالية المتاخمة للمدرسة، وكان الطائر جاثما هناك بلا حراك، ولاحظنا أن بعض الأشخاص يقفون قريبا من الطائر دون أن يمسهم سوء، فاستجمعنا شجاعتنا واقتربنا منه قليلا. وسمعنا مدير المدرسة يقول كلاما عن الهليكوبتر، وعن فريق من المساحين جاءوا ليحددوا موقع المستشفى المقترح، وأنهم حلقوا مرارا فوق المدرسة بحثا عن موقع مناسب تهبط فيه الهليكوبتر. انقلب خوفنا سرورا، بل وتجرأ بعضنا على لمس "الهلاك ـ وبتر" بأيديهم. وفي نوبة سخاء قال قائد الهليكوبتر إنه مستعد لحمل تلميذين والطيران بهما لبضع دقائق فوق المنطقة، فاندفعنا جميعا فارين صوب المدرسة.

ظلت سنة الهليكوبتر جزءا من التقويم في منطقتنا، مثل مجاعة "سنة ستة" (1306ه ـ 1988م) و''توسين قم'' أي سنة الفيضان، والمقصود بها عام 1946 الذي شهد فيضانا مدمرا.

وهأنذا أكتب هذه السطور على أداة من صنع الغرب، وسأضغط على زر صغير، فتصل إلى لندن في  غضون ثوان،  "سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الغرب السودان علاقات الغرب ذاكرة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

السماء الذكية.. المسيّرات الذكية المستقلة في قراراتها ترسم خريطة الحروب

24 يونيو، 2025

بغداد/المسلة: أعادت الطائرات المسيّرة رسم خرائط السيطرة الجوية في أكثر من صراع دولي، بعدما أثبتت قدرتها على تحييد الدفاعات الأرضية، وإرباك خطوط الإمداد، وتنفيذ اغتيالات نوعية بدقّة متناهية كما حدث في عملية اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني عبر طائرة “MQ-9 ريبر” الأميركية عام 2020.

وأحدثت المسيّرات تحوّلا جذريا في حرب أوكرانيا، إذ تمكّنت القوات الأوكرانية من استخدام طائرات “بيرقدار” التركية و”سويتش بليد” الأميركية لمواجهة التفوق الجوي الروسي، فوثّقت مقاطع مصورة تدمير دبابات ومنصات صواريخ روسية خلال الأشهر الأولى للغزو الروسي، ما أكسب هذه التقنية زخما شعبيا وسياسيا في أوكرانيا والدول الداعمة لها.

واستفادت الجماعات غير الحكومية من توافر طائرات بدون طيّار تجارية، فطورتها لأغراض هجومية واستطلاعية كما حدث مع تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وحركة الحوثي في اليمن، إذ تباهت الأخيرة بمسيراتها الهجومية التي استهدفت منشآت نفطية سعودية مثل “بقيق وخريص” عام 2019.

واستخدمت إسرائيل الطائرات المسيّرة بشكل موسع في عملياتها داخل غزة وجنوب لبنان وسوريا، مركزة على مسيرات انتحارية من طراز “هاروب” المطوّرة من قبل شركة “إسرائيل إيركرافت إندستريز”، التي تندمج مع رأس متفجّر لتضرب الهدف بدقّة عبر التوجيه الكهروضوئي أو نظام GPS.

واتجهت الصين لتعزيز مكانتها كقوة مسيّرات عالمية، بتطوير طائرات مثل “وينغ لونغ” و”CH-5″ التي تجمع بين المدى البعيد والقدرة على حمل صواريخ موجهة، ووسّعت بكين صادراتها منها إلى دول في إفريقيا وآسيا، ما عزز نفوذها السياسي والعسكري خارج حدودها.

وتمخض عن هذا السباق التكنولوجي ظهور أسلحة مضادة للمسيّرات، إذ أعلنت الولايات المتحدة وإسرائيل وألمانيا تطوير منظومات تعتمد على أشعة الليزر لتدمير المسيّرات في الجوّ، كما هو حال نظام “IRON BEAM” الإسرائيلي.

وأكدت تقارير حديثة نشرها “مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية” في واشنطن، أنّ مستقبل الحروب بات مرتبطا بامتلاك قدرات متطورة في تقنيات المسيّرات، خصوصا تلك المدعومة بالذكاء الاصطناعي التي يمكنها اتخاذ قرارات مستقلة ميدانيا، مما يفتح الباب لجدل أخلاقي متصاعد حول دور الإنسان في قرارات القتل.

وأثارت هذه التحوّلات مخاوف متزايدة حول سباق تسلّح جديد، لا يقوم فقط على الردع النووي أو التفوق الجوي، بل على من يملك “السماء الذكية” المليئة بالمسيرات المتربصة التي تعمل بصمت، وتضرب بدقة، وتغير مجرى الحروب دون أن تُرى.

 

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author Admin

See author's posts

مقالات مشابهة

  • ما حكم الزواج العرفي في العصر الحالي؟.. الإفتاء تحسم الجدل
  • السماء تمطر “طيورا”.. ظاهرة غريبة في إحدى ولايات السودان
  • مثل البشر.. عثة البوغونغ تهتدي بالنجوم للهجرة مئات الكيلومترات
  • هل يلامس «الخلاوجة» وعي العصر؟! 
  • دعاء لطلاب الثانوية العامة بالنجاح.. اللهم سخر لهم ملائكة السماء وجنود الأرض
  • الطوفانُ الكونيُّ… بشائرُ الفتحِ وعذابُ الأممِ
  • السماء الذكية.. المسيّرات الذكية المستقلة في قراراتها ترسم خريطة الحروب
  • مشاهد كونية خلابة من قلب السماء.. ما القصة؟
  • إعلامي إسرائيلي يتراجع عن تصريحه: “الأمر كان مجرد مزحة، قلت تركيا، وكان بإمكاني أن أقول مصر، أي دولة أخرى”
  • قديم وكان مهددا بالسقوط على سيدة ونجلها.. ماذا حدث في عقار شبرا مصر بالقاهرة؟