سودانايل:
2025-07-30@13:43:23 GMT

عن الخديعة الكبرى وذاكرة العنصريين الصغرى

تاريخ النشر: 20th, April 2025 GMT

في قلب الأزمة السودانية الراهنة، يتجلى اختلالٌ عميق في الوعي السياسي والتاريخي، تجسّده بنية ذهنية مهيمنة في المركز الشمالي، اعتادت أن تتموضع كضحية بينما تتجاهل دورها البنيوي في تفكيك الوطن وجرّه إلى الهاوية. هذا “العقل الشمالي” لم تصنعه النخب الإسلاموية، لكنها استثمرت فيه واستغلّت لحظة ارتباكه بعد الحرب، حين أصيب بشلل عاطفي وذهني بسبب هول الجرائم والانتهاكات، التي لم تكن وليدة الفوضى، بل نتاجًا مباشرًا لمخططات الإسلاميين الذين خلطوا الأوراق عمدًا، وأطلقوا سراح المجرمين، وورّطوا القوات النظامية كافة في خيانة الدولة والمجتمع.



لقد أُصيبت تلك النخب بما يشبه فقدان الذاكرة الثقافية (cultural amnesia)، فلم تعد تتفاعل مع الواقع بصفاء معرفي، بل عبر شروخ نفسية تقودها إلى وهم انتصار عسكري قد يُعيد لها امتيازاتها الضائعة. لم تعِ بعد أنها في موقف وجودي هش، وأنها في كل يوم حرب تخسر من رصيدها الجغرافي والديمغرافي والاستراتيجي. ولهذا، بدلاً من أن تبحث عن خلاصٍ تاريخي، اختارت دفن رأسها في الرمال، مستندة إلى خطاب مفكّكين تبريريين أمثال عبدالله علي إبراهيم، الذي لا يضاهيه في جنوب إفريقيا إلا شخصية عنصرية بغيضة كـ Eugène Terre’Blanche، بينما كان الأولى أن تقتدي بنموذج مسؤول كـ F.W. de Klerk، في وعيه بضرورة إنهاء الهيمنة والتأسيس لعدالة تاريخية، شبيهة بما عبّر عنه مفكرون سودانيون من طينة د. منصور خالد (رحمه الله)، ود. النور حمد ود. أحمد التيجاني سيد أحمد.

إن استعادة السودان لعافيته لن تتم إلا بالعودة إلى عمقه الأفريقي، الكوشي والنوبي، الذي طالما اعتبرته تلك النخب عبئًا إثنيًا ودينيًا يُعطّل مشروعها الأيديولوجي الريعي، الذي لا يراعي الروابط الإنسانية ولا المصالح الاقتصادية الاستراتيجية. وكلما أوغل السودان في هذا العمق الحضاري، كلما شعرت هذه النخب بالضياع، لأنّه يسحب البساط من سرديتها المركزية المتعالية.

على طول الطيف الأيديولوجي — من الشيوعي إلى البعثي إلى اليميني والطائفي — تحالفت القوى التقليدية كلها مع المؤسسة العسكرية، لا باعتبارها حارسًا لمصالح الأمة، بل ضامنًا لمكاسبها السلطوية. فلم يكن الجيش أداة لحماية الوطن بقدر ما كان ملاذًا أخيرًا لنظام اجتماعي آخذٍ في التفكك. وكان من الممكن إعادة تعريف العلاقة مع الجيش بعد الثورة، بفرض قيادة مدنية تُخضع لجنة الأمن والدفاع لرئيس الوزراء، لكن ضعف أداء القيادة المدنية وتواطؤها مع قوى الهبوط الناعم مهّد الطريق لانقلاب العسكر، الذين أغرتهم الخلافات البينية وشجعهم تهافت القوى المدنية، فتمادوا في غيّهم وضلالهم دون رادع.

ورغم هذا الاحتقان، الذي غذّته النخب المركزية بخطابها الإقصائي وعدائها التاريخي للريف، فإنّ العلاقة بين الشمال والغرب لم تكن يومًا علاقة قطيعة أو خصام، بل علاقة تبادلية من التفاعل والتأثير؛ فقد أفاد الشمال من الغرب ماديًا وروحيًا، إذ راكم كثير من تجّاره ثرواتهم في أسواق الغرب، كما وصلت إليه بعض الطرق الصوفية والروايات القرآنية من هناك. وبالمقابل، نهل الغرب من معارف الشمال الإدارية ومساهماته الثقافية والفكرية. لا غنى لأحد عن الآخر، ولا يليق بشعب ذي ذاكرة حية أن يسمح لفئة مارقة مثل الإسلاميين (الكيزان المفسدين) بأن تُفرّق بين أهله.

إن الأزمة الحقيقية ليست في الأشخاص أو التنظيمات، بل في العقل السياسي العقيم، الذي تعامل مع الحكم كتوازنات ظرفية لا كفرصة لاجتثاث البنى العميقة للدولة، وتفكيك شبكات الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية. ولولا ذلك، لكان بالإمكان الاستفادة من لحظات الثورة المتكررة (أكتوبر وأبريل وديسمبر)، لكن الجديد هذه المرة أن الريف لم يعد هامشًا سهل الترويض، بل قوة واعية، تملك أدوات التنظيم، وتعرف كيف تفضح الهيمنة وتكشف أساليبها الملتوية.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن فهم الحركة الشعبية شمال إلا بوصفها طليعة لهذا الريف الجديد، في مقابل قوات الدعم السريع التي خرجت، ولو مؤقتًا، من عباءة التوظيف السلطوي، لتطرح نفسها كفاعل سياسي يبحث عن موقع له في مشهد وطني مغاير. وقد تخلل مسارها تجاوزات فادحة لا تُعزى فقط للعنصرية، بل لأخطاء فعلية ارتكبها جنودها في الجزيرة وأم درمان، غير أن الهجوم المتواصل عليها من النخب المركزية لا يخلو من نوايا تبريرية تنزع عن الآخرين مسؤولياتهم، خاصة الجيش، ومغرِضة تُلقي بالجريرة على الريف الغربي ككل.

أما النخب المركزية، فإنها لم تفقد امتيازاتها فقط، بل فقدت أيضًا القدرة على نقد الذات، ولجأت بدلًا من ذلك إلى حِيَلها القديمة، حيث باتت تتذاكى على الأطراف بمزاعم التفوق التاريخي والموروث الثقافي تارة، وباسم القومية والوطنية تارة أخرى، وكأن الوطن مِلكية حصرية لا يُسائلها فيه أحد. لقد تغيّر السودان، ولم تعد هذه النخب قادرة على خداع أحد، لا بخطابها المتعالي، ولا بحنينها إلى “لحظات الصفاء” التي لم تكن إلا لحظات احتكار وهيمنة واحتقار للآخرين. وإذا لم تتوقف عن هذا الانكفاء المرضي (Pathological withdrawal)، فستجد نفسها — هذه النخبة — خارج معادلة الوطن الجديد، معزولة، مشلولة، تندب ذاكرة لم تعد تهم أحدًا.

في خضم هذا الانهيار، يثير العجب موقف بعض مثقفي شرق السودان، الذين لا يزالون يتهيبون منازلة هذه النخب المركزية وكشف هشاشة خطابها، فتُشغلهم بخرافات القرب الإثني، وتمنّيهم بامتيازات لا تأتي، بينما المصلحة الحقيقية للشرق تكمن في الارتباط العضوي بغرب السودان، لا بالتماهي مع مركز بات مريضًا وغير منتج. مد خط سكك حديدية يربط بورتسودان بالجنينة، مثلاً، سيحدث تحولًا جذريًا، ويعيد السودان للعب دوره كممر حيوي لأسواق أفريقيا المأهولة بما يقارب 400 مليون نسمة كانت تعتمد على صادرات السودان قبل أن تدمّر الإنقاذ 22 ألف مصنع في الخرطوم في واحدة من أفظع جرائمها الاقتصادية، وذلك قبل الحرب.

الشمالية، كما الجنوب والشرق والغرب، بحاجة إلى من يُحرّرها من سلطة كيزانية مشبعة بالعنصرية والجمود، لكنها فضّلت أو آثرت التماهي تُقيةً مع خطاب الإسلاميين الإقصائي البليد. أليس هذا هو الشعب الذي أنجب حميد والطيب صالح والصادق الشامي، وحيدر إبراهيم وأزهري محمد علي، وكل الذين أسهموا في إثراء الفكر والثقافة ومناهضة الاستبداد؟ هؤلاء لم ينكفئوا على أقاليمهم، بل مدّوا الجسور مع سائر السودان، وأدركوا أن الهوية لا تتجزأ، وأنّ لا مستقبل لشعب يتخاصم مع نفسه ومع سائر مكوناته.

وإنّ اللحظة الراهنة، بكل تعقيداتها، تفرض على الجميع أن يعيدوا تعريف المواطنة، وأن يفهموا أن وحدة السودان لا تُبنى بخطابات الإخضاع ولا بأوهام الأفضلية والعنصرية، بل باعترافاتٍ صريحة بالخطأ، ومشاريع متكافئة في التنمية، وعدالة انتقالية تُحاسب من أجرموا، وتُصالح من ظُلموا، وتُخرج الوطن من ليل التسلّط إلى صبح المشاركة والاحترام المتبادل.

د. الوليد آدم مادبو

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذه النخب

إقرأ أيضاً:

حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025


كتب- محمد فتحي:

حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025، على كافة المناطق ومحافظات الجمهورية.

وبحسب الهيئة العامة للأرصاد الجوية، فإنه من المتوقع أن يشهد طقس اليوم ارتفاعا شديدا في الحرارة.

ووفقا للهيئة العامة للأرصاد الجوية، فإن طقس اليوم متوقع أن يكون رطب نهارا على أغلب الأنحاء، حار رطب على السواحل الشمالية ، مائل للحرارة رطب ليلا وفي الصباح الباكر.

"مصراوي" ينشر في السطور التالية درجات الحرارة المتوقعة اليوم على أغلب مدن ومحافظات الجمهورية وهي كالآتي:

- القاهرة الصغرى 26 والعظمى 38 درجة.

- العاصمة الإدارية الصغرى 25 والعظمى 39 درجة.

- 6 أكتوبر الصغرى 25 والعظمى 38 درجة.

- دمياط الصغرى 26 والعظمى 36 درجة.

- بورسعيد الصغرى 26 والعظمى 34 درجة.

- الاسماعيلية الصغرى 25 والعظمى 39 درجة.

- السويس الصغرى 26 والعظمى 39 درجة.

- العريش الصغرى 24 والعظمى 34 درجة.

- الطور الصغرى 26 والعظمى 37 درجة.

- طابا الصغرى 22 والعظمى 37 درجة.

- شرم الشيخ الصغرى 29 والعظمى 41 درجة.

- الإسكندرية الصغرى 24 والعظمى 33 درجة.

- العلمين الصغرى 23 والعظمى 31 درجة.

- مطروح الصغرى 23 والعظمى 32 درجة.

- الغردقة الصغرى 23 والعظمى 40 درجة.

- مرسى علم الصغرى 29 والعظمى 39 درجة.

- الفيوم الصغرى 26 والعظمى 39 درجة.

- بني سويف الصغرى 26 والعظمى 39 درجة.

- المنيا الصغرى 25 والعظمى 40 درجة.

- أسيوط الصغرى 26 والعظمى 41 درجة.

- سوهاج الصغرى 27 والعظمى 42 درجة.

- قنا الصغرى 27 والعظمى 43 درجة.

- الأقصر الصغرى 27 والعظمى 44 درجة.

- أسوان الصغرى 29 والعظمى 45 درجة.

- الوادى الجديد الصغرى 25 والعظمى 44 درجة.

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

طقس حار حالة الطقس الطقس طقس اليوم طقس اليوم الثلاثاء الأرصاد الأرصاد الجوية طقس حار بالمحافظات ارتفاع درجات الحرارة درجات الحرارة اليوم

تابع صفحتنا على أخبار جوجل

تابع صفحتنا على فيسبوك

تابع صفحتنا على يوتيوب

فيديو قد يعجبك:

الأخبار المتعلقة طقس الثلاثاء.. أجواء شديدة الحرارة وفرص أمطار على هذه المناطق أخبار أحوال الطقس.. الأرصاد تُعلن موعد انكسار الموجة الحارة أخبار نصائح مهمة من الصحة لمواجهة "الإجهاد الحراري" وضربات الشمس أخبار حرارة شديدة وأمطار وشبورة.. الأرصاد تُعلن طقس الـ6 أيام أخبار

إعلان

أخبار

المزيد أخبار مصر رضا فرحات: مصر تتحرك بثبات من منطلق تاريخي وإنساني لدعم غزة أخبار مصر حدث منتصف الليل| أدوات رقمية لتسهيل انتخابات الشيوخ.. وصيانة طارئة للغاز أخبار مصر الجبهة الوطنية عن كلمة الرئيس السيسي: تعكس موقف مصر الراسخ عبر التاريخ شئون عربية و دولية الإمارات: دخول 38 شاحنة مساعدات لغزة ضمن عملية "الفارس الشهم 3" شئون عربية و دولية ترامب يرد على نتنياهو بشأن المجاعة في قطاع غزة.. ماذا قال؟

الثانوية العامة

المزيد مدارس 94 منهجًا جديدًا وتعاون ياباني في الرياضيات.. خطة التعليم لتحديث المناهج جامعات ومعاهد رد حاسم من جامعة عين شمس بشأن حالة الدكتورة نهى محمد هاني الصحية جامعات ومعاهد غدًا.. تنظيم المنتدى الثاني للابتكار بجامعة القاهرة الأزهر تكافؤ بين البنين والبنات.. "أزهر القليوبية" يعلن قائمة أوائل الثانوية مدارس 70 مدرسة يابانية وبرمجة للطلاب.. خطة شاملة لتطوير التعليم وخفض الكثافات

إعلان

أخبار

حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

للإعلان كامل للإعلان كامل 41

القاهرة - مصر

41 27 الرطوبة: 15% الرياح: شمال غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب الثانوية العامة فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • هذه النتائج المالية التي حققتها الشركة المركزية لإعادة التأمين (CCR)
  • لجنة الطوارئ المركزية بغزة توجه صفعة قوية لمصر
  • ‏حرائق متكررةٌ وذاكرةٌ مثقوبة
  • طقس شديد الحرارة والرطوبة يسيطر على مصر اليوم.. والعظمى تصل 45 درجة
  • حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025
  • مَن الأعلى أجرا في الدوريات الأوروبية الـ5 الكبرى؟
  • انطلاق النسخة الأولى من "تخفيضات صيف دبي" الكبرى
  • موعد انكسار الموجة الحارة في مصر
  • الأكاذيب المُمأسسة وتواطؤ النخب: لماذا تحتاج تل أبيب إلى صمت العرب كي تستمر الحرب؟
  • تعيين مجلس مؤقت لنقابة المحامين السوريين المركزية