علي بن سالم كفيتان
في زاويتي الأسبوعية سأقتبس كلمات نشرها الشاعر الكبير سالم بن عويدة الدارودي (المسافر) على حسابه في منصة "إكس" مؤخرًا. الكلمات فيها من الدارجة الظفارية وتحمل الكثير من الصور الشعرية المُعبِّرة؛ فرغم أبياتها الثمانية إلّا أنها تحمل في طياتها معاني مُعلَّقة، حسب تقديري، وأنا لست بشاعر؛ بل مُتذوِّق للشعر، وخاصةً النبطي.
شاعرنا غني عن التعريف من حيث تاريخه الشعري بكل صنوفه واقتران كلماته المُغناة بأشهر الفنانين على المستوى المحلي والخليجي، ولا شك أنَّ بن عويدة له بصمته التي لا يُخطئها كل من تابع ذلك الهاجس الغامض والروح الحزينة والغموض السهل والرمزية القوية للكلمات، بحيث يجعل المتلقي سابحًا في عوالمه المختلفة؛ فكلٌ سيجد ضالته في فكر هذا الأديب والشاعر الكبير. لم ألتقِ بالرجل إلّا إذا كان بمحض الصدفة في مُناسبة عامة، لكننا نتابع بعضنا في العالم الافتراضي منذ سنوات. تأسرني أفكاره الغائرة، وتأخذني كلماته الملتصقة بالتراب، فكل ما يطرح بن عويدة هو من أديم الأرض التي يُحبها، وأحسُ أنها تُعبِّر عني واعتقد أن كثيرًا من مُتابعيه ينتابهم نفس الشعور.
تابعتُ بشغفٍ مقابلة يتيمة أجراها (المسافر)- كما يكني نفسه- مؤخرًا مع إحدى محطات التلفزة المحلية، تحسستُ من خلالها بعضًا من شخصيته الجميلة وروحه الطاهرة وسموه وترفعه في كل ما يكتب عن الزلل. فسألت نفسي: هل لا زلنا نمتلك هكذا قامات رفيعة؟ ولماذا باتت بعيدة عن الساحة؟ لم أجد إجابات مُقنعة لهذا التساؤل من خلال تلك المقابلة، ولا من خلال متابعتي للرجل، وربطت لا شعوريًا هذا الإبداع الشعري بشاعر كبير آخر هو علي بن عبد الله بن يوسف بن صواخرون أو كما يعرف في الوسط العام (علي الصومالي) عليه رحمة الله، وحقيقةً لا أعلم صلة القرابة بينهما، لكن كليهما أبدعا في سماء الأغنية العُمانية منذ البدايات وأنتجا نصوصًا لا يُمكن نسيانها؛ حيث شدت بها نخبة من الفنانين العُمانيين البارزين، منهم من رحل عن عالمنا أمثال سالم بن علي، ومنهم من لا يزال يحاول مجابهة تيار حداثة الأغنية، ومنهم من انزوى بعيدًا عن الساحة الفنية وانضم للمشاهدين.
عنوان المقال هو عنوان لتغريدة للشاعر بن عويدة على منصة "إكس"، وتحتها ثمانية أبيات من نسج بن عويدة، وجدتُ فيها روح الماضي بأصالة الكلمات التي أتت من الماضي، وكثيرًا من الحاضر الذي نعيشه اليوم. ويظل كما يقولون المعنى في جوف الشاعر؛ فسُهيل هو بطل القصيدة شبهه الشاعر بمن يسقي (يسني) المزرعة (الذبر) فخاطبه قائلًا:
ما دمت تسني هذا الذبر يا سهيل
لا تأمل الضامي وتخليه عطشان
خلي مجاري السيل ....... للسيل
ما حد يريد يبات خايف وهمران
نخشى الطواريش كلما خيم الليل
والغارف اللي حارسه دوم نعسان
يا فلان بُنَّك مُر.. يحتاج إلى هيل
ما ينشرب من قهوتك نص فنجان
وكانت سقاية المزارع في ظفار توكل في الماضي لرجل مقابل أجر، وغالبًا ما يُشرف على جر الماء إلى السطح من العمق، عبر إبل مربوطة تسير بحركة دؤوبة، لتجُر القرب من أعماق البئر، مُحمَّلة بالمياه، ليتم سكبها في الساقية التي تُغذي الذبر (البستان). وفي هذه القصيد يبدو أن سهيل مكلف بهذه المُهمة الصعبة والحساسة، وعليه أن يكون محافظًا على صحة الركاب التي تعمل مكان الآلة، وفي ذات الوقت يُشرف على ارتواء كل أطراف البستان، ولا يأمل الضامي- وهو الزرع وربما رمزية لشيء آخر- ويخليه عطشان. ومعلوم أن مجرى السيل لا أحد يبني فيه، ولا يبات، خوفًا من مُداهمة الطوفان. وبعدها يتوجس الشاعر من الطواريش كلما جَنَّ الليل، خاصة إذا كان حارس الغارف (المزرعة) "دوم نعسان"، كما تقول القصيدة. فقد ينهبون المحصول وهو نائم وتضيع الغلة التي ينتظرها أهل الغارف. وختم الشاعر قصيدته بعتبه على (فلان) كرمزية لمن ضيَّع المحصول مخاطبًا بقوله: "يا فلان بُنَّك مُر.. يحتاج إلى هيل.. ما ينشرب من قهوتك نص فنجان".
يظل هذا الأدب الراقي الخفي الظاهر إحدى أدوات التعبير عمَّا يدور في خلجات النفس، وغالبًا الشاعر يُعبِّر عن حالة جماعية. لهذا يبقى الشعر بأصالته؛ سواءً كان بالفصحى أو النبطي أو الحُر، مثارًا لاهتمام الناس، وفي كثير من الأحيان يُسقطونه على واقعهم المُعاش، حتى ولو كان الشاعر يرمي إلى شيء يدور في خلجات نفسه؛ بعيدًا عنهم، وعن حياتهم وهمومهم.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
دولة حزب الله في لبنان التي انتهى زمنها
آخر تحديث: 12 غشت 2025 - 10:01 صبقلم: فاروق يوسف انزعجت إيران من قرار سيادي لبناني. هل كان على الرئيس اللبناني جوزيف عون أن يعرض قرار حصر السلاح بيد الدولة على الولي الفقيه قبل أن يصدره؟ المسألة لبنانية وليست إيرانية. كما أن لبنان دولة ذات سيادة ولا تتمتع إيران بحق الوصاية عليه. من حق دولته أن تفرض القوانين التي تؤكد من خلالها سيادتها على أراضيه. أما إذا كان لإيران رأي آخر فتلك مشكلتها التي يجب ألاّ يدفع لبنان ثمنها. وفي حال اعترفت إيران بأن لها جيشا في لبنان لا يحق للحكومة اللبنانية أن تمسّه فإن المسألة تأخذ حجما آخر يدخل في إطار، سيكون على لبنان باعتباره دولة مستقلة أن يكسره بالطرق التي تناسبه. في مقدمة تلك الطرق العمل على إنهاء ذلك الاحتلال بدءا من نزع السلاح الذي يمثله. كان الأمين العام الأسبق لحزب الله حسن نصرالله يصف نفسه بأنه واحد من جنود الولي الفقيه. بمعنى أنه كان جنديا إيرانيا. يصح ذلك الوصف على كل أفراد الميليشيا التي كان نصرالله يقودها. وبالعودة إلى تصريحات نصرالله فإن إيران كانت (ولا تزال) تمول تلك الميليشيا بالمال والسلاح. الآن بعد أن تغير كل شيء في لبنان صار بإمكان حكومته أن تعيد الأمور إلى سويّتها وبالطرق القانونية. فليس صحيحا على سبيل المثال أن تلاحق العدالة عملاء إسرائيل فيما يُترك عملاء إيران طلقاء، يتجولون بسلاحهم ويهددون أمن وسلامة الشعب اللبناني الذي دفع باهظا ثمن مغامراتهم حين جروه عبر السنتين الماضيتين إلى حرب هي ليست حربه، ضاربين عرض الحائط مصالح لبنان وشعبه.
لم تصل الدولة اللبنانية إلى مرحلة مطاردة أعضاء ميليشيا حزب الله بتهم الخيانة والعمالة والتخابر مع دولة أجنبية. لا أحد في لبنان يتمنى أن تصل الأمور إلى تلك الدرجة الحرجة التي لا تخون الواقع لأن الواقع اللبناني كان دائما ملغوما ولم يكن السلم الأهلي إلا مناسبة لتمرير الكثير من الأخطاء التي أفقدت القانون هيبته. اليوم تسعى الدولة اللبنانية إلى كسر ذلك الخطاب الطائفي القائم على الاستقواء بالسلاح الذي لا يقع تحت سيطرتها. بالنسبة إلى حملة ذلك السلاح فإن ذلك القرار يعني إنهاء دولتهم. ومن الطبيعي أن يكون ما يحدث صعبا عليهم. ذلك ما يجب التعامل معه بحذر. وكما أتوقع فإن زعيم الحزب الحالي نعيم قاسم الذي رفض الاستجابة الفورية لقرار الدولة هو الأكثر دراية بأن دولة حزبه قد انتهى زمنها ومَن يقرأ خطاباته التي لا تزال خاضعة للرقيب الإيراني لا بد أن يكتشف بين سطورها رغبة في التفاهم عند الحدود الدنيا. ذلك ما يُشير إلى بدء مرحلة جديدة.
وللإنصاف فإن موافقة الدولة اللبنانية على الورقة الأميركية لم تكن خضوعا لمطالب إسرائيلية. كانت هناك قرارات دولية، كلها لمصلحة لبنان تضمنتها تلك الورقة. ليس من المقبول أن تكون هناك دولة داخل الدولة. كان حزب الله دولة همشت الدولة اللبنانية. وليس من المقبول أيضا أن يتم استبعاد الجيش اللبناني عن حدود الدولة ليحل محله جيش إيراني بحجة المقاومة. كما أنه لم يكن من حق أيّ جهة أن تسلب الدولة حقها في إعلان الحرب كما حدث غير مرة مع حزب الله الذي تبين في الحرب الأخيرة أن هلاكه ما كان ليحدث لولا أنه خضع لأوامر إيرانية كانت قد احتكمت إلى أخطاء في التقديرات التي سببت سيلا من الكوارث. أخطاء الحزب في حربه الأخيرة هي أخطاء إيرانية. وعلى العموم فقد آن الأوان أن يتخلص لبنان من العبء الإيراني. لتذهب إيران بأخطائها إلى جحيمها. فلكي يستمر لبنان في حياته صار عليه أن يتحرر من إملاءات المقاومة الإيرانية. ما من شيء في بيان الدولة اللبنانية الداعي إلى حصر السلاح بيد الدولة يشير إلى إيران. من حق الدولة اللبنانية أن تبسط سيطرتها على أراضيها. من حقها أن تطلب ممَّن يملكون سلاحا غير مرخص أن يسلموه لها. كما أن من حقها أن تنشر جيشها على حدودها. وعلى الجانب الآخر فقد صار على حزب الله أن يفهم أن زمنه انتهى. زمن الوصاية الإيرانية انتهى. لقد انتهى زمن دولته التي همشت الدولة اللبنانية المعترف بها دوليا. لبنان اليوم ليس جبهة إيرانية. وإذا ما كانت إيران قد انتحرت بالقيادات التاريخية لحزب الله فإن القيادة الحالية للحزب لن تنتحر كما أتوقع من أجل عيني إيران.