الهوية العُمانية في الميادين الدبلوماسية
تاريخ النشر: 23rd, April 2025 GMT
د. إسماعيل بن صالح الأغبري
لكل دولة من الدول هويتها الدبلوماسية التي تميزها عن غيرها، تحدد آليات علاقاتها مع دول العالم وترسم خطواتها الدبلوماسية في كيفية معالجة الحوادث المستجدة، ولسلطنة عُمان هويتها في ميادين مختلفة ومنها الميدان الدبلوماسي، فالتخفيف من الاحتقانات التي قد تقع بين الدول أو بين أطراف الدولة الواحدة معلم من معالم الهوية العُمانية، ولذا فإنَّ دبلوماسيتها ذات بصمات إيجابية في حلحلة بؤر النزاع بين هذه الأطراف كما وإن هذه الهوية تتجلى في عدم تأجيج الفتن والنزاعات وذلك عن طريق إقامة علاقات طبيعية مع الدول خالية من المناكفات، بعيدة عن المزايدات، ثم استثمار علاقاتها الإيجابية للقيام بدور تصالحي بين الدول المتباينة في الرؤى ووجهات النظر متى ما تراضت الأطراف التحاكم إليها أو الاحتكام إلى دبلوماسيتها المشهود لها بالحكمة والحنكة.
دبلوماسية سلطنة عُمان لا تفرض نفسها على بقية الدول المتباينة ولكن إن طلب منها الفرقاء تسهيلا أو تذليلا لعقبات أو تصفية لأجواء أو استضافة لحوارات داخل الأرض العُمانية أو خارجها في حرمها الدبلوماسي فإنها تقوم بذلك خدمة للسلم الإقليمي والدولي معًا.
إيمان الدبلوماسية العُمانية بأنَّ أي اضطراب في علاقات الدول الإقليمية والعالمية سيؤثر سلباً على الاستقرار السياسي العالمي تماماً كاهتزاز طرف الحبل فإنَّ ذلك ينذر باهتزاز أول الحبل ووسطه وآخره.
الدبلوماسية العُمانية تنحاز لرجل إطفاء الحرائق المشتعلة أو الموشكة على الاشتعال، وتتجنب الاصطفاف مع أي فريق يصعد من خطاباته أو يعكر صفو الاستقرار السياسي والدبلوماسي بين الدول.
ولهذه الهوية العُمانية في الميدان الدبلوماسي نماذج كثيرة، ولا أدل على ذلك من المفاوضات الجارية حاليا بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية، فالبلدان ارتضيا مسقط عاصمة سلطنة عُمان موئلا ومكانا جامعاً لهما للقاء غير مباشر حسب المعلن عنه، ثم إن الطرفين يثقان بالدبلوماسية العُمانية لخبرتهما بها خاصة فيما يتعلق بالاتفاق النووي الموقع بين الطرفين عام 2015م.
مكان التفاوض بين البلدين مسقط، وهي تؤمن بضرورة تذليل العقبات وبذل ما أمكن من تسهيلات لأن المنطقة منطقة الخليج، شريان الذهب الأسود إلى قارات العالم، وشرارة واحدة ولو بالخطأ تعني تطاير ألسنة اللهب إلى كافة الدول، وتأخر تصدير قطرة منه يعني مساسا بالاقتصاد العالمي، وتعطل كثير من المصانع الإقليمية والدولية.
مسقط تدرك أن الطرفين ليسا نكرة بين دول العالم، فأمريكا تمثل القطب العالمي الأوحد حتى الساعة، ولديها من المقدرات والقدرات في مختلف المجالات ما يجعلها قادرة على إحداث ألم شديد سياسي وعسكري واقتصادي وسط هذا العالم المترامي الأطراف.
وبالنسبة لإيران فهي أيضاً قوة لا يستهان بها عسكريا على أقل تقدير، قادرة على وضع بصماتها المؤثرة على الدول القريبة والبعيدة معاً لامتدادها الجغرافي ولها تأثيرها الثقافي على عدد من دول العالم الإسلامي أما عن قدراتها العسكرية خاصة الصاروخية فهي في تنامٍ مستمر.
أما بالنسبة للدولتين المتفاوضتين فإنَّ الولايات المتحدة الأمريكية وفي عهد الجمهوريين تحديداً لا ترغب في ميلاد قوة خارجة عن ضبط إيقاعهم، ويتصورون إمكانية وقوع ذلك من إيران إن لم يصلوا معها إلى اتفاق خاصة وأنهم يعتقدون أن إيران ذات أيدولوجية ككوريا الشمالية مع اختلاف مرجعية الأيدولوجيتين، فالمجاهرة بعداء إسرائيل وعدم الاعتراف بها دولة قائمة بناء على منطلقات شرعية مع بقاء إيران الدولة الوحيدة المتمكنة حالياً من تهديد إسرائيل عسكرياً يعزز إصرار الأمريكيين على الضغط على إيران.
الطرفان: إيران وأمريكا لا يريد أي منهما أن يظهر وكأنَّ خصمه كسر إرادته مراعاة لمنطلقات كل منهما، فالجمهوريون حصدوا الأصوات بناءً على ما رفعوه من شعارات منها: أمريكا أولا، وكذلك إعادة الهيبة لأمريكا أو لنقل ترسيخ الهيمنة الأمريكية كقوة عظمى في هذا العالم.
والإيرانيون لهم نظام حكم ذو نزعة استقلالية، يتكئون في ذلك على مواريثهم الحضارية وعلى الأيدلوجية الإسلامية الحاكمة، ومن الصعب عليهم الظهور بمظهر المغلوب على أمره أو التنازل عن مبادئ قامت عليها الجمهورية الإسلامية في إيران، وعلى ذلك فإنَّ الطرفين لا بد لكل منهما التزحزح عن بعض ما يرفعه لتحقيق اختراق لازم، يسفر عن نتائج إيجابية مرتقبة من العالم.
وختاماً فإنَّ الدبلوماسية العُمانية بساط أخضر واسع، يمكنها احتواء الأطراف المختلفة، وكذلك فإن الإرادة العُمانية الجادة في سبيل إطفاء فتيل الأزمات تعين على التقريب بين وجهات النظر.
قلما دخلت الدبلوماسية العُمانية في معترك الوساطات إلا وأسفر ذلك عن توصل الأطراف إلى حل جامع لهذه الأطراف، وإن لم تصل الأطراف إلى المرجو من التفاوض فلا أقل من تهدئة بينهما.
إذا تنفس الصبح في مسقط، وانبلج فجر المفاوضات، وأشرقت شمس التقاء الأطراف، وبزغ النجم المرتقب فإنَّ ذلك حصاد الدبلوماسية العُمانية المشهود لها، وبذلك تكون سلطنة عُمان قد أسدت خدمة جليلة للخليج من حيث استقراره وإمكانية تصدير نفطه، وتكون كذلك أسدت للعالم خدمة جليلة من حيث تجنيب العالم ويلات الصدام المسلح أو الحروب الاقتصادية. الدول تنتظر بفارغ الصبر صبح مسقط بشرط أن يتخلى كل طرف من المتفاوضين عن بعض ما يُؤمن به ليلتقيا في نقاط مشتركة، ليس أحد منهما أُريق ماء وجهه.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نحو سياحة عُمانية فعّالة
دائما ما ينتابني الشعور بالسرور حين تتخالجني «دوبامينات» الدماغ مع لحظات الوعي بموقعنا الجغرافي المتميّز في سلطنة عُمان؛ إذ أكرم اللهُ عُمانَ بتنوع جغرافي مدهش يجمع بين جمال الجبال واعتدال درجات حرارتها وبين البحار ذات الشواطئ الجميلة والهواء العليل البارد -في بعض المواقع- صيفا وبين البساط الأخضر والصيف البارد جنوبا وبين الصحراء الشاسعة الذهبية التي تأسر النفس وتوقد إلهام العقل المتأمل وبين المعالم التاريخية التي استطاعت أن تتناغم مع لمسات الحاضر فتنقل السائح إلى لحظات «زمكانية» يتوق إلى تجربتها. شاءت كلُ المزايا الجغرافية -التي حباها الله لعُمان- أن تهيأ كل الأسباب لتجعل من عُمان وجهةً سياحيةً طوال العام، ولتكون من ضمن الدول القليلة التي تتميّز بمواسم سياحية مستمرة طوال العام.
شهدنا -مؤخرا- انطلاقةً أسرعَ في مشروعات السياحة الداخلية وتنميتها؛ فتعكسه التطويرات المستمرة للمرافق السياحية وترويجٌ جاذبٌ للسياحة يعتمد وسائل معاصرة، وتأكيد ذلك ما حدث ويحدث في محافظات وولايات مثل محافظة ظفار والجبل الأخضر من حيثُ تشييد مزيد من المرافق العامة وتفعيل أفضل للفعاليات وزيادة الاستثمارات السياحية مثل الفنادق والمنتجعات، وهذه خطوة إيجابية تعكس الجهود الحكومية عبر تشجيع الاستثمار السياحي ودعمه بجانب الدعم الحكومي المباشر في تطوير المرافق العامة والبنى التحتية بأنواعها. نجدها كذلك -عبر الجهود الأهلية ودفعها بالاستثمار السياحي الداخلي وبوجود الدعم الحكومي- في تطوير السياحة التراثية والتاريخية المتمثلة في ترميم الحارات القديمة وتحويلها إلى قرى تراثية تجمع بين مظاهر الماضي ومستلزمات الحاضر، وتمنح السائح فرصة لخوض تجربة جديدة يمكن أن تمتد إلى عدة أيام تجعله منسجما مع زمن جديد كأنه ولج إليه عبر آلة الزمن.
رغم هذه الانطلاقة المُلفِتة في دعم السياحة العُمانية؛ فإننا ما نزال نرى مظاهر سياحية إما مفقودةً أو تتطلب التحسين والمواءمة، ونجد مواقع عُمانية جغرافية -تصنّف في قائمة المواقع السياحية المهمة- بحاجة إلى مزيد من التفعيل السياحي وتقويته مثل الأشخرة التابعة لولاية جعلان بني بو علي وجزيرة مصيرة في محافظة جنوب الشرقية وشاطئ بر الحكمان في محافظة الوسطى الذي أطلق عليه «مالديف الخليج»؛ فعبر تجربة شخصية كنت أحاول أن أبحث عن مرافق سكنية فندقية في هذه المواقع العُمانية ذات الطابع السياحي؛ فلم أجد -للأسف- الفئة الفندقية المرجوة وأعدادها الكافية؛ فمعظم ما يتبقى من سكنات -لا يصنّف معظمها من الفئات الفندقية- ينفد بسرعة ولا يلبي طلب السائح؛ فيضطر أن يُحدثَ تغييرا في خطته السياحية لهذه المناطق الجميلة التي تستحق الزيارة فترة الصيف نظرا لاعتدال درجات حرارتها. كذلك شدّني النشاط السياحي التراثي عبر استغلال القلاع والحصون العُمانية سياحيا بفتحها أمام الزوار والسُيَّاح، وهذا نشاط سياحي مهم تمارسه كثيرٌ من دول العالم ذات الإرث التاريخي المشابه لعُمان، ولكن من المهم أن نجعل لهذا الانفتاح السياحي بعض الضوابط التي تحفظ لمثل هذه المعالم هيبتها التاريخية، وألا تتجاوز هذه النشاطات -خصوصا تلك التي تدخل في نطاق المواقع ذات الطابع التاريخي أو الديني- حدود القيم العُمانية المرتبطة بدينها الإسلامي وثقافتها العربية المحافظة؛ فينبغي أن تراعى مكانة هذه الحصون والقلاع العُمانية بما يتوافق مع قيمتها التاريخية والدينية -كونها ارتبطت بشخوص وأحداث ساهمت في حفظ مجد عُمان وسيادتها- عن طريق وضع شروط -غير تعجيزيّة- تحدد معايير عامة للباس المحتشم مثل الذي يُفرض لزوار المواقع الدينية أو مراكز التسوّق «المولات»، وهذا أمر نجده في كثير من دول العالم -كثير منها غير عربية- التي تصون حرمة مواقعها الدينية أو التاريخية.
لا أتصور أن خطط التطوير السياحي والاستثمار فيه غائبةٌ عن ذوي الشأن، ولست متخصصا في الحقل السياحي لأضع التوصيات التي يمكن للمتخصصين أن يفقهوا مفاصلها وتحدياتها، ولكنني مع طرح عام بطابع الرأي، وأسعى بواسطته أن أرى مزيدا من التحسين في قطاع السياحة العُماني دون أن نبخس جهودا مستمرة تُبذل بكل إتقان وإخلاص مع علمي بأن حمل السياحة وتطويرها لا يمكن أن نضع كل ثقلها على وزارة بعينها مثل وزارة التراث والسياحة التي ينطوي عليها مسؤولية التنظيم والتشجيع والترويج والدعم، ولكن ثمّة تفرعات أخرى تتعلق بتنمية السياحة وتطويرها تتصل مسؤوليتها بجهات حكومية أخرى أو جهات خاصة ومجتمعية، وأذكر في هذا المقام لقاء جمعني بصحبة والدي قبل عدة سنوات مع الوزير المتقاعد أحمد بن ناصر المحرزي وزير السياحة السابق وبمعية بعض مستشاري الوزارة ومديري عمومها لبحث سبل التطوير السياحي لـ«حارة العين» في ولاية إزكي؛ فاتضحت لي -عبر تطرّق عام لشأن السياحة العُمانية- صورة أفضل لقطاع السياحة في عُمان وحجم الطموحات والجهود المبذولة بجانب التحديات التي ينتج بعضها من الزاوية المجتمعية وتعقيداتها التي تراعي الحكومةُ حقوقَها -الفردية والعامة- وخصوصياتها وبعضها الآخر يتعلق بالاستثمار السياحي والمستثمر الذي يبحث عن سبل تحقيق مصالحه. لعلّنا نحتاج إلى مراجعة شاملة مع نهاية كل عام نكشف عن طريقها مدى رضانا عن عدد الزائرين -من الخارج ومن الداخل- ونقارنه بأعداد الزائرين لدول أخرى في المنطقة؛ إذ مع استشهادنا بما تُظهره إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، بلغ عدد الزائرين -من الخارج- إلى سلطنة عُمان حتى نهاية ديسمبر عام 2024 3.89 مليون سائح، وبجانب هذا الرقم الذي يمكن أن يراه بعضنا رقما لا بأس به؛ فإننا نحتاج إلى نتجاوز مظاهر القناعة والرضا في بعض الحالات مثل هذه؛ لنقارنها بشكل إقليمي وعالمي، ولنجعل طموحنا أكبر؛ فعُمان أرض حباها الله بتضاريس نادرة تغبطها عليها دولٌ كثيرةٌ بالإضافة إلى نعمة الأمن والأمان والكرم وحسن الخلق عند العمانيين عامة وكفاءة التنظيم الحكومي المواكب للتقدم الرقمي وقوانينه الصارمة التي أكسبَ البلاد سمعة لتكون من ضمن أقل معدلات الجريمة في العالم ومن ضمن أنظف دول العالم. كل ما نحتاجه أن نواصل المسير في تنمية قطاع السياحة ليشمل بقية الولايات والبقع الجغرافية الجميلة التي لم تنل نصيبا كافيا من الازدهار السياحي الجاذب للعنصر البشري التواق للجمال المرتبط بكل سبل الراحة والتيسير، ونحتاج أن تمتد ضوابط اللباس المحتشم والسلوكيات الأخلاقية لتشمل أروقة معالمنا التاريخية مثل القلاع والحصون لإبقاء عنصر الهيبة العُمانية شامخا لا تزعزعه فرضيات «مواكبة العصر» و«الانفتاح السياحي» غير المقنن والمنضبط.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني