سودانايل:
2025-05-14@12:28:46 GMT

رجل الدولة: كسر المرايا ومحو الخطايا

تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT

دكتور الوليد آدم مادبو

“الهوية التي تُفرض بالقوة هي هوية مهزومة تبحث عن مرآة ترى فيها ذاتها المنتصرة.”

— إدوارد سعيد

لم تكن مأساة السودان وليدة السياسة فقط، بل ثمرة اختلاطٍ مرير بين الهشاشة النفسية وتضخم الطموح في غير محله. إذ لم يصعد الكيزان إلى الحكم كمشروع، بل كمركّب نقصٍ متراكم، تجمّع فيه الفقر والعنصرية والكبت والخوف والذنب، ثم تُوّج بالدين لا كوسيلة خلاص، بل كقناعٍ مُتقن لستر العار.

لم تكن جريمتهم الكبرى أنهم حكموا، بل أنهم فرضوا على وطنٍ بأكمله أن يعيش عقدتهم، أن يُعيد إنتاج هشاشتهم بوصفها قانونًا، وأن يقتدي بعجزهم كأنه فضيلة.

ولد بعضهم على تخوم الريف، بملامح تُفصح عن جذورهم أكثر مما يريدون. لم يرفضهم العالم، بل رفضوا هم أنفسهم. فابتدعوا سردية تتخفّى خلف الدين واللغة و”التاريخ الحضاري”، واختزلوا السودان في هيئة واحدة: نُطقٌ فصيح (مقارنة باللسان الأغلف)، ودمٌ نقي (مقارنة بالعِرق المُر)، وخطاب يُنكر التنوع ويُعاقب على الاختلاف. العنصرية عندهم لم تكن مجرد سلوك، بل أداة تطهير ذاتي، يُمارسونها على الغير ليمحوا ما يكرهون في دواخلهم. سعوا لا إلى بناء وطن، بل إلى محو المرايا.

لم يكن الحقد نتاج فقر، بل نتاج خجلٍ من ذلك الفقر. دخلوا الجامعات ببطون خاوية وملابس رثة وأحذية بالية، فلمّا ارتقوا، أقسموا أن يسحبوا السلالم من تحت أقدام من بعدهم. ألغوا مجانية التعليم لا لعجز الميزانية، بل لأنهم لم يغفروا للفقر أنه أذلّهم، ولا للمعرفة أنها أنقذتهم. أرادوا احتكار الخلاص، فحوّلوا الدولة إلى نادٍ مغلق، لا يعبره إلا من يشبههم في الندوب لا في الأمل.

لكن الطامة الكبرى تجلّت في الجسد ذاته. فيهم من تلبّسته الرغبة المُحرّمة، لا بالاعتراف، بل بالإنكار القاسي. لبسوا الدين سِترًا لعوراتهم النفسية، وأقاموا الحدود لا طاعة لله، بل نكوصًا عن مواجهة الذات. شدّدوا على الفتيات لأنهن أيقظن شهوات لا يقدرون على احتمالها، وشرعنوا العنف كوسيلة للسيطرة على ما يفيض من داخلهم. كانوا يُنكرون الجسد علنًا، ويعبدونه سرًّا. صارت الدولة جسدًا مذكرًا متعالياً يحترف مهنة مازوخية، يمارس القمع باسم الفضيلة، ويمنح اللذة فقط من باب الهيمنة.

لقد جعلوا من الوطن عيادتهم النفسية. كل قانون سنّوه كان دواءً لعقدة. كل حرب خاضوها كانت هروبًا من المرآة. لم يحكمونا بتنظيمٍ تتقدمه رؤية، بل بأزمةٍ تبحث عن الخلاص. ولمّا ثار الشعب، لم يفهموا الثورة، لأنهم لم يروا في الوطن شعبًا، بل مرآة أخرى قد انكسرت. هكذا، لم تكن الكارثة سياسية فحسب، بل وجودية. من لا يصالح ذاته، لن يُصلح جماعة. ومن حوّل أوجاعه الخاصة إلى سلطة، لا يصنع إلا جحيمًا عامًا.

كان يمكن لتلك الأزمات أن تبقى في حدود أصحابها، في جدران النفس المغلقة، في عيادات التحليل النفسي لا في قصور الحكم. لكنهم، بدلاً من أن يواجهوا آلامهم، قرّروا أن يورّثوها، أن يجعلوا من الوطن دفترًا لاعترافاتهم غير المكتملة.

أرادوا أن يعاقبوا هذا البلد لأنه ذكّرهم بأنهم لا يشبهونه، بأنه أرحب من ذواتهم، وأجمل من خيالاتهم المشروخة. فحوّلوه إلى مرآة كبرى تعكس وجوههم، أصواتهم، صرخاتهم المكبوتة. بمعنى آخر، لقد جعلوا من أزماتهم النفسية أزمة جماعية. هنا تجلت محنة الوطن. كانت أخلاقهم معطوبة، لكنهم فرضوها معيارًا. وهكذا، صار الوطن نفسًا مريضة، تائهة بين أصلٍ منسيّ، وفقرٍ متوارَث، وجسدٍ منهَك لا يعرف إن كان ساحة حكم أم حانة، منبرًا أم غرفة نوم مضاءة بالأحمر، تفوح منها رائحة المُبخر ويكسر صمتها نغمٍ معسول.

الخلاص لا يأتي إلا حين ندرك أن الدولة ليست جسدًا لرغبة الحاكم، بل عقدٌ اجتماعي لعقل الجماعة. حين نكفّ عن جعل السياسة فضيلة، والدين دستورًا سلطويًا، والجسد ساحة انتقام. حين نعود إلى الإنسان، لا بوصفه مخلوقًا طاهرًا، بل بوصفه كائنًا يخطئ، يفكّر، ويحقّ له أن يحكم لا أن يُحكم عليه باسم الطهر المزيّف.

وتلك هي ميزة العلمانية التي تجعل من السياسة ممارسة بشرية وترفعها من مقام الخطابة الأخلاقية إلى مقام الحجة العلمية والبرامج التنموية. لقد جربنا “السياسة الربانية”، فصارت الدولة مسجدًا مزيفًا، يؤمّه لصّ، ويؤمّن خلفه قتلة. آن لنا أن ننعتق من الخرافة وأن نيمّم وجوهنا صوب التقدم والازدهار والحداثة.

ختامًا، لا يُولد الطغيان من الفراغ، بل من جسد لم يُحبّ، من نفس لم تُشفَ، ومن خطاب لا يُعبر، بل يقمع. وإذا أردنا وطنًا حرًا، فعلينا أولًا أن نحرّر أجسادنا من عقدة الخطيئة، ونحرّر ديننا من شهوة السلطة، ونحرّر لغتنا من رُهاب الجنسانية. آن لنا أن نكتب التاريخ لا من شرفات السلطة، بل من داخل الجرح، من رحم الجسد المغيّب، من الاعتراف الشجاع بأن الطهر لا يُفرض، بل يُكتسب بالصدق.

May 5, 2025

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم تکن

إقرأ أيضاً:

كيف يغير قرار حل العمال الكردستاني موازين السياسة في تركيا والمنطقة؟

وضعت تركيا نقطة النهاية على صراعها الدموي مع تنظيم حزب العمال الكردستاني والذي كان أحد أطول النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يضع المشهد التركي والإقليمي أمام تحول جذري في ما يتعلق بالقضية الكردية.

وتوصل حزب العمال الكردستاني المدرج على قوائم الإرهاب في أنقرة، الاثنين، إلى قرار حل نفسه وإنهاء الصراع المسلح مع الدولة التركية، تاركا الباب مفتوحا أمام الأحزاب السياسية الكردية من أجل "تطوير الديمقراطية الكردية وضمان تشكيل أمة كردية ديمقراطية".

ويأتي الإعلان الذي وصف بالتاريخي عقب جهود قادها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وحليفه زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، لإنهاء ملف الصراع، ضمن مساعي أنقرة لتحقيق هدف "تركيا خالية من الإرهاب".


ويرى باحثون تحدثوا لـ"عربي21" أن حل التنظيم ينعكس بشكل مباشر على العديد من دول المنطقة بما في ذلك العراق وسوريا، التي شهدت خلال السنوات الماضية عمليات عسكرية تركية ضد قوات العمال الكردستاني وامتدادته العسكرية.

وفي سوريا، تعتبر أنقرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، المتحالفة مع التحالف الدولي، والتي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية "YPG"عمادها العسكري، امتدادا لحزب "العمال الكردستاني".

وتأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978 بقيادة عبد الله أوجلان، في أجواء سياسية شديدة الاستقطاب، كانت تركيا تعاني فيها من اضطرابات داخلية وصدامات أيديولوجية بين اليسار واليمين.

وعام 1984، أعلن العمال الكردستاني بقيادة أوجلان "الكفاح المسلح" ضد تركيا، ما أدخل البلاد في دوامة من الصراع والعنف المتبادل.

"تحول جذري في المشهد التركي"
ويرى المحلل التركي عمر أوزكيزيلجيك، أن قرار حل التنظيم يُعد مكسباً كبيراً لتركيا، حيث يمكن توجيه التكاليف والخسائر الناتجة عن الصراع مع الحزب إلى مجالات أخرى.

ويوضح أوزكيزيلجيك في حديثه مع "عربي21"، أن إنهاء الصراع المسلح مع العمال الكردستاني يمكن تركيا من أداء دور أكثر فعالية ونشاطاً على الساحة الإقليمية والدولية.

بدوره، يشير الباحث التركي علي أسمر إلى أن الحدث يشكل تحولا جذريا في المشهد السياسي التركي، موضحا أن هذا القرار يُعد على الصعيد الداخلي التركي "انتصارا رمزيا واستراتيجيا" للرئيس أردوغان، ويُعزز من "سرديته في مكافحة الإرهاب كأحد أعمدة حكمه".

وفي أول تعليق له على الحدث، شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن بلاده تسير بخطى ثابتة نحو هدفها المتمثل في "تركيا خالية من الإرهاب".

وأضاف أردوغان في كلمة له عقب اجتماع للحكومة التركية، "مع خروج الإرهاب والعنف من المعادلة ستُفتح أبواب مرحلة جديدة بكل المجالات في مقدمتها تعزيز القدرات الديمقراطية للعمل السياسي".


وشدد الرئيس التركي على أن أنقرة تعتبر قرار حل حزب العمال الكردستاني نفسه شاملا لكل امتدادات التنظيم في سوريا وشمال العراق وأوروبا.

ويلفت أوزكيزيلجيك إلى أن حل العمال الكردستاني من شأنه أن يغير بشكل جذري أرضية النقاش والديمقراطية في السياسة الداخلية التركية. إذ ستنقلب التوازنات السياسية الحالية تماماً، وستُتاح ممارسة السياسة في بيئة أكثر حرية وراحة، بعيداً عن ظلال السلاح والتهديد.

وهو ما يفتح الطريق أمام مرحلة تطبيع أقرب وأكثر احتمالا في الساحة الداخلية التركية، وفقا لباحث التركي.

أصداء إقليمية
إقليميا، يرى أسمر أن حل التنظيم "سيلاقي أصداء مهمة في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة فيما يتعلق بمستقبل المجموعات الكردية المسلحة في سوريا، ومعايير التعامل مع اللاجئين والمنفيين السياسيين".

ويلفت أسمر في حديثه مع "عربي21"، إلى أن الحدث "سيكون له ارتدادات إقليمية عميقة"، موضحا أن تركيا قد تستغل التطور "لإعادة صياغة المعادلة في سوريا، وفرض شروط جديدة على وحدات الحماية الكردية لحل نفسها، وربما حتى تعزيز التنسيق الأمني مع الحكومة السورية الجديدة".

ودأبت تركيا على تلويح بتنفيذ عملية عسكرية ضد المسلحين الأكراد شمالي شرقي سوريا قبل سقوط النظام، فيما تراقب أنقرة اليوم تنفيذ الاتفاق الموقع بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" والحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، والذي يقضي بدمج "قسد" ومؤسساتها العسكرية والمدنية في الدولة الجديدة.

وتتقارب وجهات نظر أنقرة ودمشق الجديدة تجاه ملف المسلحين الأكراد ، فقد كان نظام الأسد المخلوع الذي احتضن زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان نهاية القرن الماضي، عاملا في توتر العلاقات بين الجانبين.

وتؤكد الحكومة السورية الجديدة على رفضها "اللامركزية" وتشديدها على وحدة البلاد ورفض المشاريع الانفصالية، وهو توجه دأبت أنقرة على دعمه خشية أن تمتد أي نزعة انفصالية إلى داخل حدودها.

ويوضح الباحث في مركز جسور للدراسات رشيد حوراني أن "حزب العمال الكردستاني تنظيم قائم على الدعم الخارجي ويعتبر مؤسسه الحقيقي نظام الأسد الأب من خلال ما قدمه من دعم مادي وعسكري له بهدف استخدامه لمناكفة تركيا، وبالتالي فإن حل التنظيم لنفسه يؤكد على استخدام نظام الأسد هذه الأذرع للمتاجرة بها والابتزاز لتحقيق نفوذه الإقليمي".

ويشير في حديثه لـ"عربي21"، أن "حل التنظيم لنفسه أول ما ينعكس على المكون الكردي في تركيا وسوريا بشكل خاص ويكف أنشطة الحزب عن تعبئة الشباب الكرد في حرب عبثية لا طائل منها مع حكومات المنطقة، وبالتالي كف يد التنظيمات دون الدولة عن أنشطتها في الإقليم والتحول تدريجيا لبسط السلام والاستقرار في المنطقة، والتوجه الى الحوار لحل كافة المشاكل".

ويشير حوراني إلى أن "النزاعات في المنطقة  أخذت بعد سقوط الأسد تميل إلى اعتماد لغة الحوار والتفاوض وصولا الى حل يرضي الأطراف المعنية، والابتعاد عن العنف والسلاح لما له من آثار كارثية أول ما تنعكس على الدول الأوربية وأمريكا لما تحمله عليها من كلفة تلك الحروب، وهذا الأمر ينطبق على حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري قسد".

كما يشدد أوزكيزيلجيك بدوره على أهمية تأثير القرار على سوريا ووحدتها، مشيرا إلى أن  "دمج وجود قوات YPG وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا وشرق الفرات ضمن الدولة السورية، بات الآن أكثر واقعية وإمكانية، بل وأسهل من ذي قبل".

ما الخطوات القادمة؟
في حين يعد القرار التاريخي منعطفا محوريا في المشهد الإقليمي بشكل عام والتركي الداخلي بشكل خاص، إلا أن مراحل تنفيذه قد يواجه العديد من الصعوبات، حسب أسمر.

وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي وصف إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه وإلقاء السلاح بأنه "قرار تاريخي"، أوضح في تصريحات صحفية هناك الكثير من التفاصيل بشأن تنفيذ قرار إلقاء السلاح.

ويرى أسمر أن إعلان حل التنظيم "لا ينهي الأمر"، موضحا أن "مخلفات العمال الكردستاني من شبكات تمويل وخلايا نائمة وبيئات حاضنة ما تزال قائمة، وتتطلب عملا طويل الأمد، أمنيا وفكريا واجتماعيا، لضمان عدم تجدد الظاهرة بمسميات جديدة".


ولا تزال تفاصيل تنفيذ عمليات تسليم السلاح إلى تركيا دون جدول زمني أو مواقع معلن عنها. ويقول أوزكيزيلجيك إن المسألة الأساسية تتمثل في تحديد المواقع التي سيتم فيها ذلك.

ويضيف أنه "من المرجح اختيار بعض النقاط داخل العراق لهذا الغرض، حيث يُتداول الحديث عن مدن مثل أربيل ودهوك والسليمانية، وقد يكون سنجار أيضاً من بين الاحتمالات المطروحة".

وفي هذه المناطق، بحسب الباحث التركي، يمكن تتبع عملية التسليم من خلال تنسيق مشترك بين الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية وجهاز الاستخبارات التركي.

بينما يشدد أسمر على أن العراق "سيواجه تحديا أمنيا وسياسيا كبيرا، خصوصا في مناطق مثل سنجار وقنديل"، مشددا على أن "الحكومة العراقية، ومعها إقليم كردستان، ستكونان مطالبتين بلعب دور مباشر في تنفيذ الاتفاق وضبط الحدود ومنع ظهور أي بدائل مسلحة".

مقالات مشابهة

  • «مؤسسة الإمارات» تطلق ورقة سياسات لإعادة صياغة مفاهيم الصحة النفسية
  • كيف يغير قرار حل العمال الكردستاني موازين السياسة في تركيا والمنطقة؟
  • ما تأثير أدوية إنقاص الوزن على الصحة النفسية؟
  • لن تتوقع تأثير مرض السكري على الصحة النفسية.. تفاصيل مثيرة
  • هل يطغى الاقتصاد على السياسة في جولة ترامب الخليجية؟
  • أخبار التوك شو| موسى: مؤسسات الدولة تعمل في تناغم من أجل مصلحة الوطن.. إعلام إسرائيلي: سلاح الجو بدأ هجوما على موانئ اليمن
  • جيش الاحتلال الإسرائيلي يبدأ لعبة الحرب النفسية في اليمن
  • أحمد موسى: مؤسسات الدولة تعمل في تناغم من أجل مصلحة الوطن
  • #ارهقتم_الوطن و #اتعبتم_المواطن
  • هل ستملي دول الخليج على ترامب شكل السياسة الخارجية؟