رجل الدولة: كسر المرايا ومحو الخطايا
تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT
دكتور الوليد آدم مادبو
“الهوية التي تُفرض بالقوة هي هوية مهزومة تبحث عن مرآة ترى فيها ذاتها المنتصرة.”
— إدوارد سعيد
لم تكن مأساة السودان وليدة السياسة فقط، بل ثمرة اختلاطٍ مرير بين الهشاشة النفسية وتضخم الطموح في غير محله. إذ لم يصعد الكيزان إلى الحكم كمشروع، بل كمركّب نقصٍ متراكم، تجمّع فيه الفقر والعنصرية والكبت والخوف والذنب، ثم تُوّج بالدين لا كوسيلة خلاص، بل كقناعٍ مُتقن لستر العار.
ولد بعضهم على تخوم الريف، بملامح تُفصح عن جذورهم أكثر مما يريدون. لم يرفضهم العالم، بل رفضوا هم أنفسهم. فابتدعوا سردية تتخفّى خلف الدين واللغة و”التاريخ الحضاري”، واختزلوا السودان في هيئة واحدة: نُطقٌ فصيح (مقارنة باللسان الأغلف)، ودمٌ نقي (مقارنة بالعِرق المُر)، وخطاب يُنكر التنوع ويُعاقب على الاختلاف. العنصرية عندهم لم تكن مجرد سلوك، بل أداة تطهير ذاتي، يُمارسونها على الغير ليمحوا ما يكرهون في دواخلهم. سعوا لا إلى بناء وطن، بل إلى محو المرايا.
لم يكن الحقد نتاج فقر، بل نتاج خجلٍ من ذلك الفقر. دخلوا الجامعات ببطون خاوية وملابس رثة وأحذية بالية، فلمّا ارتقوا، أقسموا أن يسحبوا السلالم من تحت أقدام من بعدهم. ألغوا مجانية التعليم لا لعجز الميزانية، بل لأنهم لم يغفروا للفقر أنه أذلّهم، ولا للمعرفة أنها أنقذتهم. أرادوا احتكار الخلاص، فحوّلوا الدولة إلى نادٍ مغلق، لا يعبره إلا من يشبههم في الندوب لا في الأمل.
لكن الطامة الكبرى تجلّت في الجسد ذاته. فيهم من تلبّسته الرغبة المُحرّمة، لا بالاعتراف، بل بالإنكار القاسي. لبسوا الدين سِترًا لعوراتهم النفسية، وأقاموا الحدود لا طاعة لله، بل نكوصًا عن مواجهة الذات. شدّدوا على الفتيات لأنهن أيقظن شهوات لا يقدرون على احتمالها، وشرعنوا العنف كوسيلة للسيطرة على ما يفيض من داخلهم. كانوا يُنكرون الجسد علنًا، ويعبدونه سرًّا. صارت الدولة جسدًا مذكرًا متعالياً يحترف مهنة مازوخية، يمارس القمع باسم الفضيلة، ويمنح اللذة فقط من باب الهيمنة.
لقد جعلوا من الوطن عيادتهم النفسية. كل قانون سنّوه كان دواءً لعقدة. كل حرب خاضوها كانت هروبًا من المرآة. لم يحكمونا بتنظيمٍ تتقدمه رؤية، بل بأزمةٍ تبحث عن الخلاص. ولمّا ثار الشعب، لم يفهموا الثورة، لأنهم لم يروا في الوطن شعبًا، بل مرآة أخرى قد انكسرت. هكذا، لم تكن الكارثة سياسية فحسب، بل وجودية. من لا يصالح ذاته، لن يُصلح جماعة. ومن حوّل أوجاعه الخاصة إلى سلطة، لا يصنع إلا جحيمًا عامًا.
كان يمكن لتلك الأزمات أن تبقى في حدود أصحابها، في جدران النفس المغلقة، في عيادات التحليل النفسي لا في قصور الحكم. لكنهم، بدلاً من أن يواجهوا آلامهم، قرّروا أن يورّثوها، أن يجعلوا من الوطن دفترًا لاعترافاتهم غير المكتملة.
أرادوا أن يعاقبوا هذا البلد لأنه ذكّرهم بأنهم لا يشبهونه، بأنه أرحب من ذواتهم، وأجمل من خيالاتهم المشروخة. فحوّلوه إلى مرآة كبرى تعكس وجوههم، أصواتهم، صرخاتهم المكبوتة. بمعنى آخر، لقد جعلوا من أزماتهم النفسية أزمة جماعية. هنا تجلت محنة الوطن. كانت أخلاقهم معطوبة، لكنهم فرضوها معيارًا. وهكذا، صار الوطن نفسًا مريضة، تائهة بين أصلٍ منسيّ، وفقرٍ متوارَث، وجسدٍ منهَك لا يعرف إن كان ساحة حكم أم حانة، منبرًا أم غرفة نوم مضاءة بالأحمر، تفوح منها رائحة المُبخر ويكسر صمتها نغمٍ معسول.
الخلاص لا يأتي إلا حين ندرك أن الدولة ليست جسدًا لرغبة الحاكم، بل عقدٌ اجتماعي لعقل الجماعة. حين نكفّ عن جعل السياسة فضيلة، والدين دستورًا سلطويًا، والجسد ساحة انتقام. حين نعود إلى الإنسان، لا بوصفه مخلوقًا طاهرًا، بل بوصفه كائنًا يخطئ، يفكّر، ويحقّ له أن يحكم لا أن يُحكم عليه باسم الطهر المزيّف.
وتلك هي ميزة العلمانية التي تجعل من السياسة ممارسة بشرية وترفعها من مقام الخطابة الأخلاقية إلى مقام الحجة العلمية والبرامج التنموية. لقد جربنا “السياسة الربانية”، فصارت الدولة مسجدًا مزيفًا، يؤمّه لصّ، ويؤمّن خلفه قتلة. آن لنا أن ننعتق من الخرافة وأن نيمّم وجوهنا صوب التقدم والازدهار والحداثة.
ختامًا، لا يُولد الطغيان من الفراغ، بل من جسد لم يُحبّ، من نفس لم تُشفَ، ومن خطاب لا يُعبر، بل يقمع. وإذا أردنا وطنًا حرًا، فعلينا أولًا أن نحرّر أجسادنا من عقدة الخطيئة، ونحرّر ديننا من شهوة السلطة، ونحرّر لغتنا من رُهاب الجنسانية. آن لنا أن نكتب التاريخ لا من شرفات السلطة، بل من داخل الجرح، من رحم الجسد المغيّب، من الاعتراف الشجاع بأن الطهر لا يُفرض، بل يُكتسب بالصدق.
May 5, 2025
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لم تکن
إقرأ أيضاً:
السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا: ما الذي تغير؟
لم تُفرِد استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة منذ أيام لأفريقيا سوى أكثر بقليل من نصف صفحة جاءت في آخر التقرير(ص29)، مما يُشير إلى أنها آخر الأولويات: الأولى كانت أمريكا اللاتينية والكاريبي (أو ما سمته الوثيقة بالنصف الغربي من الكرة الأرضية)، والثانية الصين والمحيط الهادي، والثالثة أوروبا وروسيا، والرابعة الشرق الأوسط… مع ذلك فإن التبدل الكبير الذي حدث في طبيعة هذه الاستراتيجية يُحتِّم على الدول الإفريقية كثيرا من الانتباه لتعديل سياساتها المختلفة وأن تكون أكثر استعدادا للقادم من التطورات.
ولعل أهم تبدل في طبيعة النظر إلى أفريقيا من خلال هذه الوثيقة ما يلي:
أولا: هناك تغير في المنظور الأمريكي للقارة، إذ لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية ترى حاجة لأن تَنشر بها قيم الليبرالية والديمقراطية وحقوق الانسان وكل ما تعلق بالحكم الراشد ولا كونها في حاجة إلى مساعدات، بل أصبحت تراها مجالا لتحقيق المنفعة بغض النظر عن طبيعة الحكم فيها. جاء في نص الوثيقة ما يلي: “لطالما ركّزت السياسة الأمريكية في أفريقيا، ولفترة طويلة جدًا، على تقديم المساعدات، ثم لاحقًا على نشر الأيديولوجيا الليبرالية.
وبدلًا من ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تسعى إلى الشراكة مع دول مختارة من أجل التخفيف من حدّة النزاعات، وتعزيز علاقات تجارية ذات منفعة متبادلة، والانتقال من نموذج قائم على المساعدات الخارجية إلى نموذج قائم على الاستثمار والنمو، يكون قادرًا على تسخير الموارد الطبيعية الوفيرة في أفريقيا وإمكاناتها الاقتصادية الكامنة“.
تم تحديد المنفعة في مجالات مُحدَّدة هي الطاقة والمعادن النادرة
ثانيا: تم تحديد المنفعة في مجالات مُحدَّدة هي الطاقة والمعادن النادرة، حيث ذكرت الوثيقة:
“يعد قطاع الطاقة وتطوير المعادن الحرجة مجالًا فوريًا للاستثمار الأمريكي في أفريقيا، لما يوفره من آفاق لعائد جيد على الاستثمار”، وحددت أكثر مجال للطاقة في “تطوير تقنيات الطاقة النووية، وغاز البترول المسال، والغاز الطبيعي المسال… {الذي} يمكن أن يحقق أرباحًا للشركات الأمريكية ويساعدنا في المنافسة على المعادن الحرجة وغيرها من الموارد” كما جاء بالنص.
ثالثا: لم تعد الولايات المتحدة تريد أن تتعاون مع أفريقيا كمؤسسات مثل الاتحاد الإفريقي أو المؤسسات الجهوية، بل كدول منتقاة سمَّتها الوثيقة “الشراكة مع دول مختارة”، وهذا يعني أنها لن تتعامل مع جميع الدول ولن تضع في الاعتبار المسائل المتعلقة بطبيعة الأنظمة السياسية أو شؤنها الداخلية.
رابعا: لم تعد الولايات المتحدة تريد الانتظار طويلا لتحقيق أهدافها.. فهي تتجنب كما جاء في الوثيقة “أي وجود أو التزامات… طويلة الأمد“، وهذا يعني أنها ستتصرف بحزم مع منافسيها وتريد نتائج فورية.
خامسا: ستسعى الولايات المتحدة إلى حل النزاعات القائمة وتذكر (جمهورية الكونغو الديمقراطية – رواندا، السودان) كما ستعمل علي تجنب ظهور نزاعات جديدة، وتذكر (إثيوبيا –إريتريا – الصومال) بمعنى أنها تريد سلاما يتماشى مع إمكانية تحقيق مصالحها الاقتصادية، وفي هذا الجانب بقدر ما تحذر من “الإرهاب الإسلاموي” كما تسميه لا تريد أن تجعل من محاربته سياسة بالنسبة لها كما كان في السابق.
هذه الخصائص في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية تجاه أفريقيا تجعل القارة أمام مراجعات أساسية لا بد منها لسياساتها البَيْنية وكذلك مع شركائها الخارجيين، وبقدر ما يبدو فيها من ضغوطات فإنها تحمل في ذات الوقت فرصا لدول القارة لتوازن سياستها الخارجية ما بين الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية الأخرى، الصين روسيا الإتحاد الأوروبي… وهو أمر لم يكن مطروحا من قبل بهذه الصيغة وبهذا الوضوح.
الشروق الجزائرية