سودانايل:
2025-06-29@04:26:18 GMT

رجل الدولة: كسر المرايا ومحو الخطايا

تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT

دكتور الوليد آدم مادبو

“الهوية التي تُفرض بالقوة هي هوية مهزومة تبحث عن مرآة ترى فيها ذاتها المنتصرة.”

— إدوارد سعيد

لم تكن مأساة السودان وليدة السياسة فقط، بل ثمرة اختلاطٍ مرير بين الهشاشة النفسية وتضخم الطموح في غير محله. إذ لم يصعد الكيزان إلى الحكم كمشروع، بل كمركّب نقصٍ متراكم، تجمّع فيه الفقر والعنصرية والكبت والخوف والذنب، ثم تُوّج بالدين لا كوسيلة خلاص، بل كقناعٍ مُتقن لستر العار.

لم تكن جريمتهم الكبرى أنهم حكموا، بل أنهم فرضوا على وطنٍ بأكمله أن يعيش عقدتهم، أن يُعيد إنتاج هشاشتهم بوصفها قانونًا، وأن يقتدي بعجزهم كأنه فضيلة.

ولد بعضهم على تخوم الريف، بملامح تُفصح عن جذورهم أكثر مما يريدون. لم يرفضهم العالم، بل رفضوا هم أنفسهم. فابتدعوا سردية تتخفّى خلف الدين واللغة و”التاريخ الحضاري”، واختزلوا السودان في هيئة واحدة: نُطقٌ فصيح (مقارنة باللسان الأغلف)، ودمٌ نقي (مقارنة بالعِرق المُر)، وخطاب يُنكر التنوع ويُعاقب على الاختلاف. العنصرية عندهم لم تكن مجرد سلوك، بل أداة تطهير ذاتي، يُمارسونها على الغير ليمحوا ما يكرهون في دواخلهم. سعوا لا إلى بناء وطن، بل إلى محو المرايا.

لم يكن الحقد نتاج فقر، بل نتاج خجلٍ من ذلك الفقر. دخلوا الجامعات ببطون خاوية وملابس رثة وأحذية بالية، فلمّا ارتقوا، أقسموا أن يسحبوا السلالم من تحت أقدام من بعدهم. ألغوا مجانية التعليم لا لعجز الميزانية، بل لأنهم لم يغفروا للفقر أنه أذلّهم، ولا للمعرفة أنها أنقذتهم. أرادوا احتكار الخلاص، فحوّلوا الدولة إلى نادٍ مغلق، لا يعبره إلا من يشبههم في الندوب لا في الأمل.

لكن الطامة الكبرى تجلّت في الجسد ذاته. فيهم من تلبّسته الرغبة المُحرّمة، لا بالاعتراف، بل بالإنكار القاسي. لبسوا الدين سِترًا لعوراتهم النفسية، وأقاموا الحدود لا طاعة لله، بل نكوصًا عن مواجهة الذات. شدّدوا على الفتيات لأنهن أيقظن شهوات لا يقدرون على احتمالها، وشرعنوا العنف كوسيلة للسيطرة على ما يفيض من داخلهم. كانوا يُنكرون الجسد علنًا، ويعبدونه سرًّا. صارت الدولة جسدًا مذكرًا متعالياً يحترف مهنة مازوخية، يمارس القمع باسم الفضيلة، ويمنح اللذة فقط من باب الهيمنة.

لقد جعلوا من الوطن عيادتهم النفسية. كل قانون سنّوه كان دواءً لعقدة. كل حرب خاضوها كانت هروبًا من المرآة. لم يحكمونا بتنظيمٍ تتقدمه رؤية، بل بأزمةٍ تبحث عن الخلاص. ولمّا ثار الشعب، لم يفهموا الثورة، لأنهم لم يروا في الوطن شعبًا، بل مرآة أخرى قد انكسرت. هكذا، لم تكن الكارثة سياسية فحسب، بل وجودية. من لا يصالح ذاته، لن يُصلح جماعة. ومن حوّل أوجاعه الخاصة إلى سلطة، لا يصنع إلا جحيمًا عامًا.

كان يمكن لتلك الأزمات أن تبقى في حدود أصحابها، في جدران النفس المغلقة، في عيادات التحليل النفسي لا في قصور الحكم. لكنهم، بدلاً من أن يواجهوا آلامهم، قرّروا أن يورّثوها، أن يجعلوا من الوطن دفترًا لاعترافاتهم غير المكتملة.

أرادوا أن يعاقبوا هذا البلد لأنه ذكّرهم بأنهم لا يشبهونه، بأنه أرحب من ذواتهم، وأجمل من خيالاتهم المشروخة. فحوّلوه إلى مرآة كبرى تعكس وجوههم، أصواتهم، صرخاتهم المكبوتة. بمعنى آخر، لقد جعلوا من أزماتهم النفسية أزمة جماعية. هنا تجلت محنة الوطن. كانت أخلاقهم معطوبة، لكنهم فرضوها معيارًا. وهكذا، صار الوطن نفسًا مريضة، تائهة بين أصلٍ منسيّ، وفقرٍ متوارَث، وجسدٍ منهَك لا يعرف إن كان ساحة حكم أم حانة، منبرًا أم غرفة نوم مضاءة بالأحمر، تفوح منها رائحة المُبخر ويكسر صمتها نغمٍ معسول.

الخلاص لا يأتي إلا حين ندرك أن الدولة ليست جسدًا لرغبة الحاكم، بل عقدٌ اجتماعي لعقل الجماعة. حين نكفّ عن جعل السياسة فضيلة، والدين دستورًا سلطويًا، والجسد ساحة انتقام. حين نعود إلى الإنسان، لا بوصفه مخلوقًا طاهرًا، بل بوصفه كائنًا يخطئ، يفكّر، ويحقّ له أن يحكم لا أن يُحكم عليه باسم الطهر المزيّف.

وتلك هي ميزة العلمانية التي تجعل من السياسة ممارسة بشرية وترفعها من مقام الخطابة الأخلاقية إلى مقام الحجة العلمية والبرامج التنموية. لقد جربنا “السياسة الربانية”، فصارت الدولة مسجدًا مزيفًا، يؤمّه لصّ، ويؤمّن خلفه قتلة. آن لنا أن ننعتق من الخرافة وأن نيمّم وجوهنا صوب التقدم والازدهار والحداثة.

ختامًا، لا يُولد الطغيان من الفراغ، بل من جسد لم يُحبّ، من نفس لم تُشفَ، ومن خطاب لا يُعبر، بل يقمع. وإذا أردنا وطنًا حرًا، فعلينا أولًا أن نحرّر أجسادنا من عقدة الخطيئة، ونحرّر ديننا من شهوة السلطة، ونحرّر لغتنا من رُهاب الجنسانية. آن لنا أن نكتب التاريخ لا من شرفات السلطة، بل من داخل الجرح، من رحم الجسد المغيّب، من الاعتراف الشجاع بأن الطهر لا يُفرض، بل يُكتسب بالصدق.

May 5, 2025

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم تکن

إقرأ أيضاً:

نائب رئيس حزب المؤتمر: 30 يونيو ثورة شعبية أنقذت الدولة وأعادت لمصر هويتها الوطنية

قال اللواء الدكتور رضا فرحات، نائب رئيس حزب المؤتمر أستاذ العلوم السياسية، إن ثورة الثلاثين من يونيو 2013 تمثل لحظة فاصلة في تاريخ الدولة المصرية، حين خرج الملايين من أبناء الشعب المصري في كل الميادين، ليعبروا عن رفضهم لمحاولة اختطاف الدولة من قبل جماعة لا تؤمن بمفهوم الوطن، ولا تحترم هوية الشعب، ولا تعترف بمؤسسات الدولة.

الصناعات الغذائية: 30 يونيو ثورة أنقذت الوطن من قبضة الجماعة الإرهابيةنائب: 30 يونيو إرادة شعبية صنعت التاريخ وأعادت للوطن هويته

وأكد فرحات أن 30 يونيو كانت تعبيرا صادقا عن الإرادة الجمعية لشعب قرر أن يستعيد وطنه، ومنع انزلاقه نحو مصير مظلم، كان سيؤدي إلى تفكيك الدولة ومؤسساتها، والعبث بمقدراتها وهويتها، لصالح مشروع خارجي لا يمت بصلة إلى الوطن أو إلى مصالح المصريين مشيرا إلى أن ما ميز ثورة 30 يونيو هو تلاقي الإرادة الشعبية مع الدور الوطني للقوات المسلحة المصرية، التي استجابت لنداء الشعب، و انحازت للإرادة الوطنية، ما يعكس عمق العلاقة بين الشعب وجيشه، ويؤكد أن مصر لا يمكن أن تسقط أو تختطف طالما ظلت هذه العلاقة قائمة.

وأشار نائب رئيس حزب المؤتمر إلى أن السنوات التي تلت الثورة شهدت تحولات كبرى على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث بدأت مصر مرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة، واستعادة الاستقرار، والانطلاق نحو تنفيذ مشروعات قومية كبرى في كافة المجالات، بفضل قيادة سياسية وطنية واعية، تمثلت في الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تحمل المسؤولية في لحظة شديدة الحساسية، وقاد البلاد بحكمة وشجاعة نحو بر الأمان.

وأكد أستاذ العلوم السياسية أن ذكرى 30 يونيو ستظل دافعا للاستمرار في مسيرة التنمية، وتعزيز وحدة الصف، ومواصلة بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تستند إلى القانون، وتحمي الهوية الوطنية، وتضمن الحقوق والحريات، وتحقيق تطلعات المواطنين في مستقبل أكثر ازدهارا وأمانا.

طباعة شارك مصر البرلمان النواب مجلس النواب اخبار البرلمان

مقالات مشابهة

  • قيادي بحزب الجيل: ثورة 30 يونيو أنقذت الوطن.. والرئيس السيسي سبق العاصفة
  • حماة الوطن: 30 يونيو إرادة شعب صنعت التاريخ وأعادت للوطن صوته وهويته
  • نقيب النيابات والمحاكم: ثورة 30 يونيو أنقذت الوطن من الجماعات المتطرفة
  • ترامب يتدخل لـتحصين نتنياهو من المحاكمة القضائية واعتزال السياسة
  • الجبهة الوطنية: 30 يونيو يوم استعادة الهوية الوطنية وتحية للرئيس السيسي
  • قيادي بمستقبل وطن: 30 يونيو أنقذت مصر من الانهيار وكانت بداية للبناء والتنمية
  • الجبهة الوطنية: 30 يونيو أنقذت الوطن من الفوضى وأرست دعائم الدولة الحديثة
  • نائب رئيس حزب المؤتمر: 30 يونيو ثورة شعبية أنقذت الدولة وأعادت لمصر هويتها الوطنية
  • انهيار عقيدة الوطن الآمن في إسرائيل.. الهجرة المعاكسة تهدد بنية الدولة من الداخل
  • محاولة اسقاط فكرة الدولة والهوية