لجريدة عمان:
2025-05-19@12:06:52 GMT

في سبيل بناء جيل ثالث للثقافة العمانية

تاريخ النشر: 6th, May 2025 GMT

عبدالرحمن ابن خلدون (ت:808هـ).. يذهب في تنظيره للدولة؛ بأنها لا تُعمَّر أكثر من أربعة أجيال، كل جيل حوالي ثلاثين عاماً، وقد تحدثت عن تطبيقات الرؤية الخلدونية على الدولة العمانية، وبيّنت أنها انطبقت عليها مرتين: الدولة المركزية الأولى (177-272هـ) بحكم اليحمد. والدولة المركزية الثانية (1034-1131هـ) بحكم اليعاربة.

المقال.. يطرق الخطاب الثقافي -بكونه من مكونات الدولة الحديثة- وفقاً للتحقيب الخلدوني.

في مقال «السلطان قابوس بن سعيد.. وعمان جديدة»، «عمان»، 20/ 11/ 2024م .. بيّنت أن السلطان رحمه الله أدرك أبعاد النظرية الخلدونية، وسعى إلى تجاوزها ببناء دولة المؤسسات والقانون. وقد تعرضت لمراحل الثقافة العمانية في مقالاتي، ودرّستها لطلابي في المرحلة الجامعية، وهنا أدرُس الثقافة بكونها مرحلة للإسهام في البناء للمستقبل واستمرار الدولة، حتى لا نقع في «المأزق الخلدوني».

إن مراحل الثقافة العمانية الحديثة أربع؛ أدمجها في «جيلين»؛ هما:

- الجيل الأول.. توحيد الرؤية الثقافية، وقد بدأ بقيام النهضة الحديثة، وجاء على مرحلتين: مرحلة التأسيس.. في عقد السبعينات، وفيها شكّلت الدولة هُوياتها؛ منها الهُوية الثقافية. مرحلة البناء.. انطلقت بإنشاء وزارة التراث القومي والثقافة عام 1979م، واسم الوزارة لخّص الرؤية التي اعتمدتها الدولة حينها للحقل الثقافي، وهي ربط الثقافة بتراث عمان الإسلامي وبُعده القومي العربي.

الجيل الثاني.. التعددية الثقافية، ابتدأ بإلقاء السلطان قابوس خطابه المفصلي في 2 مايو 2000م، وهو مستمر حتى الآن، وملخّص رؤيته (لن نسمح لأحد أن يصادر الفكر أبداً)؛ بتوجيه صريح للتعددية الثقافية. هذا الجيل أتى أيضا على مرحلتين: مرحلة المجتمع المدني.. حيث أشركت الدولة المجتمع في البناء الثقافي عبر التشريع بإنشاء مؤسسات المجتمع المدني. ومرحلة الحوكمة.. التي ينبغي تطبيقها على الثقافة لجعلها قابلة للتقييم وفقاً لـ«رؤية عمان 2040» التي تسير الدولة على هديها، وهذه المرحلة.. ينبغي ألا تتعدى عام 2030م، للانتقال إلى الجيل الثالث.

الجيل الثالث من التكوين الثقافي.. هو «الخطاب الفكري للثقافة»، لا أطيل الحديث عن الخطاب ومفهومه، فقد تحدثت عنه في ورقة «خطاب الكراهية والمعالجة العمانية» ألقيتها في جامعة أكسفورد ببريطانيا عام 2019م، وأكتفي ببيان أن الخطاب منظومة شاملة.. تشمل نص الخطاب؛ ظاهره وفحواه ودلالته، ومكان إلقائه وزمانه، ومرسِله ومتلقيه، ولا يقتصر على اللسان والمداد، وإنما يتعدد بحسب الوسائل المتاحة والمناسبة، والأهم؛ أنه ينطلق من رؤية فكرية مقصودة، وبيئة اجتماعية حاضنة، وعمق ثقافي مؤثر، بغية ترسيخ نمط سلوكي معين، أو تغيير رؤية وممارسة قائمة باتجاه رؤية جديدة يتغياها صاحب الخطاب.

سلطنة عمان.. عملت في جيلها الأول على توحيد الرؤية الثقافية، لكي تكتسب الدولة الصلابة السياسية والوحدة الوطنية والانسجام الاجتماعي. وعندما اكتملت مؤسسات الدولة، وأصبحت متطلعة إلى التعددية الثقافية؛ لتستفيد من التنوع الثقافي في المجتمع العماني، وتستوعب ثقافات المهاجرين إليها، وتواكب متطلبات النظام العالمي الجديد؛ التي شهدها عقد التسعينات، انتقلت الدولة إلى جيلها الثاني، وعمدت إلى التشريع لمؤسسات المجتمع المدني. عملت الدولة في المدة الماضية على وضع فلسفة للثقافة والبُنية الأساسية لها، وإشاعة مفهومها في المجتمع، عبر وزارات الثقافة المتتالية، والنوادي والمكتبات والمراكز الثقافية والجمعيات ذات الشأن الثقافي، وهذا تمهيد مهم لكي تصنع عمان خطابها الثقافي، ويكون للدولة «ناطقون بالثقافة»، أي؛ منظرّون لها ومعبّرون عنها، فالذي لدينا حتى الآن إنتاج معرفي وفني تعمل المؤسسات على إبرازه.

الجيل الثالث.. جيل مهم للمستقبل؛ لأجل أن يهيئ الدولة والمجتمع لتحول كلي؛ بالخروج من النمط الحالي والدخول في نمط جديد. إن ما نشهده من تحولات على المستوى البشري بما فيها التقنية الرقمية؛ يجعل أقصى مدى للنمط القديم للدول والمجتمعات القائمة عموماً هو نهاية هذا القرن، وعلى عمان.. أن تستعد لمواصلة وجودها الحضاري والمؤثر عالمياً، متجاوزة «النظرية الخلدونية». لقد بدأنا قطع النصف الثاني من الطريق، وهو الأصعب بحسب التحولات والتحديات التي نعيشها، ولكن بعزيمة وحكمة ورؤية مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده يتمهد الطريق، ونصل للغاية المنشودة.

وفقاً لبُنية الدولة وهياكلها القائمة؛ كان الخطاب الثقافي جزءاً من النطق السامي لعاهل البلاد، مشكلاً الرؤية الكلية للدولة والمجتمع، بيد أنه ينبغي أن تترجم هذه الرؤية عبر الممارسة الاجتماعية من خلال المؤسسات، بإعداد فئة مقتدرة على التنظير لمسارات الخطاب، والعمل على دراستها في المجتمع؛ وهي خطابات كثير منها وافد على المجتمع العماني، لستُ ضد التثاقف مع الآخرين.. بل أعتبره حتمية وجودية وضرورة إنسانية، وإنما علينا ألّا ننسى خطابنا الثقافي، الذي تقف وراءه حضارة عمرها آلاف السنين. علينا أن نصنع مفكرين في الخطاب الثقافي، بتحليل الخطابات القائمة، ونقدها نقداً بنّاءً، ثم طرح خطاب يحتاجه المجتمع وفق رؤية الدولة.

وأقترح خمسة حقول كبرى لتحقيق ذلك:

- الحقل التاريخي.. أقصد به الكشف عن مسار الثقافة العمانية الطويل؛ بوضع مداخل للعلوم العمانية، التي لم تُفرَد لها حتى الآن دراسات متكاملة، فنحن بحاجة إلى مدخل للأدب والشعر، ومدخل للفلكلور والفنون، ومدخل للتشريع والقضاء، ومدخل للفقه والفكر، ونحوها. هذه العلوم.. هي التي شكّلت ثقافتنا، وهي مركبتنا نحو المستقبل، فلابد من دراستها، لمعرفة أصول ثقافتنا ومسار تطورها، ولتقريبها من الأجيال القادمة، ونشرها عالمياً.

- الحقل الاستراتيجي.. بخطوة نوعية؛ وضعت وزارة الثقافة والرياضة والشباب عام 2021م لأول مرة استراتيجية للثقافة، بيد أنها كأي عمل مبدئي؛ عليه أن يخضع للتقييم والتطوير، فالاستراتيجيات غالباً ما تكون عامة ومرنة، بحيث تفسح المجال لمراجعتها وتطويرها، وهذا ما نأمله من استراتيجيتنا الثقافية، خاصةً؛ أنها وضعت تحت محك الحوكمة، ضمن مبادئ «رؤية عمان 2024». إن أهم ما يمكن أن تسعى إليه الاستراتيجية الحالية هي الحوكمة، ولا يتأتى هذا إلا بدراسة الحراك الثقافي في البلاد بمنهج علمي ومعايير موضوعية وأدوات أكاديمية، تحوّل الظاهرة الثقافية إلى بيانات مقروءة؛ قابلة للتعامل معها بوضوح وحكمة.

كان ينبغي أن تقام الدراسة قبل وضع الاستراتيجية، ولكن لم يفت الأمر؛ فبالإمكان تنفيذها باعتبار الحوكمة إحدى العناصر التي وجهت إليها الاستراتيجية.

- الحقل التخصصي.. لا يوجد لدينا متخصصون في الثقافة، ما لدينا علوم وآداب ينتجها باحثون وأدباء، وهذا مهم وأساسي، بيد أنه لابد من خطوة نحو الأمام؛ وهي صناعة المتخصصين. وقد جاءت اللحظة لتُعنى الدولة بإيجادهم؛ بدايةً من الفلاسفة والمفكرين وانتهاءً بـ«دعاة الثقافة العمانية»، وهم الذي يعملون على نشرها في الاجتماع البشري؛ المحلي والعالمي، من مختلف منابر التواصل الاجتماعي؛ الواقعي والافتراضي. نريد فلاسفة ومفكرين و«دعاة» للثقافة العمانية، يسهمون في البناء الحضاري؛ العماني والإنساني.

- الحقل البحثي.. بإنشاء مراكز لإعداد الكوادر الثقافية، سواءً المتخصصين الذين أشرت إليهم، أم الناشئين ثقافياً؛ فكرياً ومعرفياً وفنياً، بإقامة مختبرات وورش عمل، ينفذها أساتذة متخصصون، لنخرج من «الاجتهاد المشتت» إلى «الإبداع الممنهج» في الثقافة.

- الحقل الريادي.. ريادة الثقافة العمانية عالمياً في عصر الذكاء الاصطناعي ضرورة لاستمرارنا في عالم المستقبل، وعلينا البدء من الآن في الاشتغال عليها، والريادة.. لا تعني التمكّن الرقمي وحده، فهذا هو الأسهل في عالم اليوم والغد، وإنما التمكّن الثقافي ذاته هو الأساس، وحضور البُعد الفلسفي والرؤية الكلية القائمة على تحليل المفردات الثقافية، والربط المحكم بينها، لذا؛ ينبغي أن يتحرك هذا الحقل متآزراً مع الحقول الأربعة السابقة.

هذه بعض المقترحات المرجو من وزارة الثقافة والرياضة والشباب النظر فيها وتقدير مدى تنفيذها، حتى ننتقل إلى الجيل الثالث للثقافة، ضمن البُنية المستقبلية للثقافة التي يوليها الاهتمام صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم حفظه الله.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الثقافة العمانیة الجیل الثالث

إقرأ أيضاً:

انطلاق مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة في نسخته الثانية.. 14 أكتوبر

مسقط- العُمانية

تنطلق في 14 أكتوبر المقبل فعاليات مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة في نسخته الثانية، الذي تنظمه "جمعية الأطفال أولًا" تحت عنوان: "آفاق التأهيل والتمكين لذوي الإعاقة في عصر التقنيات الناشئة"، ويأتي في إطار الجهود المتواصلة لدعم وتمكين الأطفال في سلطنة عُمان، ولا سيما الأطفال من ذوي الإعاقة، تماشيًا مع مرتكزات رؤية "عُمان 2040"، ويستمر 3 أيام.

وقالت صاحبة السُّمو السّيدة الدكتورة منى بنت فهد آل سعيد رئيسة "جمعية الأطفال أولًا" خلال المؤتمر الصحفي الذي عقدته الجمعية اليوم: إنّ هذا المؤتمر يأتي استكمالًا لنجاح النسخة الأولى التي خُصّصت للموهوبين في سلطنة عُمان، وركزت على أهمية اكتشافهم ورعايتهم بوصفهم ثروة وطنية واستثمارًا استراتيجيًّا للمستقبل.

وأضافت سموها: "في هذا العام، نفتح نافذة جديدة نحو دعم فئة غالية علينا جميعًا، فئة الأطفال من ذوي الإعاقة، مستشرفين آفاق التمكين من خلال ما تُتيحه التقنيات الحديثة من فرص للتأهيل والدمج، وتحقيق الاستقلالية".

وأشارت سموها إلى أنّ مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة في نسخته الأولى حقق نجاحًا كبيرًا، إذ يُعدُّ نقطة التقاء وتفاعل بين الجهات المعنية بشؤون الطفل وكافة شرائح المجتمع ذات الصلة، وشَهِدَ مشاركة أكثر من 50 عارضًا من داخل سلطنة عُمان وخارجها، من مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص.

وتطرّق الدكتور خالد بن سيف المقرشي عضو جمعية الأطفال أولًا إلى أهداف مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة في نسخته الثانية الذي يُركز على التحدّيات التي تواجه الطفولة، ويفتح آفاقًا رحبة للتأهيل والتمكين باستخدام أحدث التقنيات، في ظل التزام مؤسسي ومجتمعي متزايد بضرورة بناء بيئة دامجة تُراعي احتياجات جميع الأطفال وتوفر لهم فرصًا متساوية للنمو والتطور والمشاركة في بناء الوطن.

وقال إنّ المؤتمر يهدف إلى نشر الوعي المجتمعي بحقوق الأطفال ذوي الإعاقة، وتقديم تصورات علمية وعملية حول سُبل دمجهم في المجتمع، ودراسة أبرز التحدّيات التي يواجهونها، والتركيز على جهود المؤسسات الحكومية والخاصة ومؤسسات التعليم العالي في هذا المجال.

وأضاف أنّ المؤتمر يتضمن حلقات عمل تدريبية موجهة للأطفال وذويهم والعاملين في مجالات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، إلى جانب استعراض أحدث الابتكارات التقنية المساعدة لتمكين الأطفال ذوي الإعاقة.

وأشار إلى أنّ المؤتمر يصاحبه معرض شامل يُعدُّ الأول من نوعه في سلطنة عُمان، يجمع تحت سقف واحد جميع المؤسسات والشركات والمراكز المعنية بشؤون الطفولة، ومن بينها المتاجر والمراكز الطبية والتعليمية، ومؤسسات التأهيل والاستشارات التربوية والنفسية، إضافة إلى فعاليات ترفيهية وعروض مسرحية تُقدم للأطفال.

وذكر أنّ المؤتمر والمعرض يحظيان بمشاركة عدد من الجهات الحكومية والدولية، منها: وزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الصحة، وجامعة السُّلطان قابوس، واللجنة العُمانية لحقوق الإنسان، ومنظمة اليونيسف، إلى جانب عدد من الجمعيات الأهلية ومراكز التأهيل ومؤسسات المجتمع المدني.

وبيّن أنّ الفعاليات تستهدف شريحة واسعة من المجتمع تشمل الأطفال وأسرهم، وطلبة المدارس ورياض الأطفال، ومؤسسات التعليم العالي، والشركات المتخصصة بمنتجات الطفولة، ومراكز التدريب والترفيه، إضافة إلى المؤسسات البيئية والتقنية، والمصارف والبنوك، والمتاجر الإلكترونية، وأصحاب المشروعات الناشئة.

وأكّد على التزام "جمعية الأطفال أولًا" بدورها الريادي في دعم الطفولة في سلطنة عُمان، والعمل المستمر على بناء مجتمع أكثر وعيًا بحقوق الطفل، وأكثر استعدادًا لتمكينه وتحفيزه على تحقيق أقصى إمكاناته، انطلاقًا من إيمان الجمعية بأن كل طفل يحمل بداخله طاقة قادرة على الإسهام في بناء مستقبل أكثر ازدهارًا.

ويمثل مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة منصة وطنية ودولية رائدة تسهم في تعزيز جودة حياة الأطفال ذوي الإعاقة عبر التركيز على التحدّيات واستكشاف الفرص وطرح الحلول المبتكرة.

وتسعى جمعية الأطفال أولاً من خلال هذا المؤتمر إلى تمكين الأطفال ذوي الإعاقة والمعنيين بهم عبر تعزيز الشراكات، وتبادل الخبرات، واستعراض أفضل الممارسات والتقنيات الداعمة، بما يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة.

مقالات مشابهة

  • «دبي للثقافة» والمعهد القضائي يتعاونان في تعزيز المعرفة القانونية
  • زينات علوي.. راقصة الهوانم وصديقة النخبة الثقافية
  • وزيرة الثقافة الفرنسية تزور الجناح المغربي في مهرجان كان السينمائي وتشيد بالتعاون الثقافي المشترك
  • انطلاق مؤتمر ومعرض عُمان للطفولة في نسخته الثانية.. 14 أكتوبر
  • ليبيا تشارك بملتقى «الأدب الشعبي العربي» في تونس وتبرز تاريخها الثقافي العريق
  • بحضور محافظ أسيوط.. قصور الثقافة تطلق القافلة الثقافية والمسرح المتنقل بقرية أولاد إلياس
  • برلماني يطالب بوقف إخلاء المؤسسات الثقافية: إحنا بلد حضارات مش حضانات
  • ماهي الأدوار المهمة التي يمكن أن يلعبها الإعلام في السودان في فترة ما بعد الحرب
  • في اجتماع وزراء الثقافة لمنظمة التعاون الإسلامي .. السودان يؤكد اهمية الحوار الثقافي في بناء المجتمعات
  • تقييم المشاركين في مسابقة الإبداع الثقافي بنادي صحم لعام 2025