عربي21:
2025-08-12@19:50:38 GMT

هل اعتدنا المشهد؟

تاريخ النشر: 8th, May 2025 GMT

تقول الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور: «إن التعوّد يلتهم الأشياء؛ يتكرر ما نراه، فنستجيب له بشكل تلقائي وكأننا لا نراه، لا تستوقفنا التفاصيل المعتادة كما استوقفتنا في المرة الأولى؛ نمضي وتمضي، فتمضي بنا الحياة كأنها لا شيء».

ما تزال تلك الكلمات تتردد في ذِهني كلما استعدت ذاك الصباح المُتجمّد، في يومي الأول كطالب طِب في مساق الطَّب الشرعي.

كان أوَّل ما شهدناه تشريح جُثة شاب عشريني قضى لِتَوّه في حادث دراجة، لم نتعامل معه كجُثة أو موضوع دراسة، بل استوقفتنا تفاصيله الإنسانية: بنطال الجينز، وقميصه ذو المُربَّعات الحمراء والزرقاء، وعلبة سجائر لم يمنحه القدر فرصة لإنهائها. تساءلت حينها عمّا كان يدور في ذِهنه في لحظاته الأخيرة، وعن الأحلام التي وُئِدت، وعن قلبه الفَتي الذي توقَّف عن النَّبض، وعن أمٍّ ثكلى أو حبيبة تنتظر ورود الثامن من آذار.

كان ذلك أول لقاء لنا مع الموت، فقد كانت الجثث التي تعاملنا معها سابقا في مادة التشريح مغرقة في القدم بحيث فقدت ملامحها البشرية، وقد أطبق الصَّمت على الجميع، وهرب الدَّم من بعض الوجوه. لم يحتمل كثيرون الموقف، وخرج آخرون بحثًا عن القليل من الأوكسجين. كان المدرس واقفًا أمام الجثة يملي على الكاتبة بصوت محايد، ويعود بين الفينة والأُخرى إلى سيجارته، يتكلم بلغة خالية من أي عاطفة: «الطول 185 سم، لون الشعر بني، لون العينين...». استهجنّا حياديته، وابتسامته السّاخرة التي كانت تصفع ذهولنا وتأثرنا ولم نكن نعلم حينها أنه  لن يمضي كثير وقت حتى نتغير.

توالت الدُّروس، وتوالت الجُثَث، وتكررت المواجهات مع الموت، ولم ننتبه إلى أنَّ رهبة الموقف الأول قد زالت، وأن التعوّد قد تسلَّل إلى قلوبنا. خبا تعاطفنا مع الضحايا وأهليهم، وتحولت التفاصيل الإنسانية الصغيرة إلى مجرَّد أدلّة؛ وربما موضع تندَّر أحيانًا. 

هذه التجربة الشخصية ليست حِكرًا على الأطباء؛ بلْ هي جُزء من ظاهرة نفسيّة أوسع تظهر في أوقات الحروب والكوارث، حين تتكرر مشاهد العُنف والدَّمار أمام أعيُننا. في البداية، نشعر بالصَّدمة والحزن، لكن مع تكرار المشهد، يبدأ العقل في بناء جدران دفاعية؛ في مُحاولة لحماية الذّات من الانهيار أو الإحساس بالعجز.

هنا تظهر ظاهرة «التبلُّد العاطفي» أو «الاعتياد»؛ حيث يتراجع التأثّر تدريجيًّا حتى يُصبح الألم مجرّد خلفية باهتة في حياتنا اليومية.

وفي عصر الإعلام الرقمي تتدفق صور العُنف والأخبار المأساوية بِلا توقف، مما يُسرِّع من عملية الاعتياد ويزيد من خطر التبلُّد العاطفي، فالتّعرض المستمر لهذه المشاهد يجعلها تبدو مألوفة وعادية، ويُضعِف قُدرتنا على التَّعاطف مع الضحايا. 

فالعقل البشري مُبرمج على حماية نفسه من الألم النفسي الشديد فعندما يتعرض الإنسان بشكل مُتكرر لمشاهد عنف أو مُعاناة، يبدأ في تطوير آليات دفاعية مثل الإنكار أو الهروب أو حتى التقليل من أهمية الحدث، وهذه الآليات ليست دليلًا على القسوة، بل هي استجابة طبيعية للضغط النفسي المستمر؛ لكن هذا الاعتياد قد يحمل في طياته جانبًا مُظلمًا؛ إذ قد يؤدي إلى «نزع الإنسانية» عن الضّحايا، فنراهم مجرد أرقام أو صور عابرة. فقد يتسلل تبلد المشاعر إلى أعماقِنا دون أن نشعر؛ فيجعلنا أقل قُدرة على التّعاطف وأقل رغبة في اتخاذ موقف.

الاعتياد على مشاهد العُنف هو انعكاس لصراع داخلي بين الحاجة إلى الحماية النفسية والواجب الأخلاقي تجاه الضحايا، ومسؤوليتنا أن نبحث عن التوازن، وأن نتمسّك بإنسانيتنا مهما اشتدت قسوة العالم من حولنا، فقد يصبح الصّمت أو اللامبالاة نوعًا من التَّواطُؤ غير المباشر مع الجريمة.
(الغد الأردنية)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة العنف الحوادث مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

بدء تحرّك قافلة المساعدات الإنسانية الـ 11 من مصر إلى غزة

أفادت قناة «القاهرة الإخبارية» في بيان عاجل بأن القافلة الحادية عشرة من شاحنات المساعدات الإنسانية من مصر قد تحركت منذ قليل باتجاه قطاع غزة، عبر معبر رفح البري، وذلك بعد أن كانت مصطفة منذ الصباح الباكر تمهيداً لتحركها من مصر إلى قطاع غزة.

وقالت القناة إن قوافل المساعدات التي تتحرك من مصر باتجاه قطاع غزة تحمل مئات الأطنان من المواد الغذائية والماء والمواد الطبية والإغاثية.

من رئاسة وزراء تشاد إلى السجن 20 عامًا.. القصة الكاملة لمُحاكمة زعيم المعارضة سوكسيس ماسراانسحاب مفاجئ من المفاوضات| مُقرّب من ترامب يكشف من أفشل الصفقة برعاية مصرية قطريةتحذيرات أممية .. 23 شهيدًا و124 جريحًا جراء عمليات إنزال المساعدات غير الآمنةعملية «برية تدريجية».. إسرائيل تعلن خطتها للسيطرة على غزة بعد 22 شهرًا من الحرباعتقال نحو 500 متظاهر في لندن من داعمي «فلسطين أكشن» |تفاصيلقمة مُحتملة تجمع ترامب وبوتين وزيلينسكي.. وألاسكا مسرح مفاوضات السلام


 ويواصل الهلال الأحمر المصري، مجهوداته  لاغاثة القطاع ، حيث سبق  بإرسال عاشر قوافل «زاد العزة.. من مصر إلى غزة» عبر معبر كرم أبو سالم، والتي تضمنت مساعدات غذائية وطبية وإغاثية هامة لتلبية احتياجات السكان في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها القطاع.

حملت القافلة العاشرة نحو 3 آلاف طن من المساعدات الإنسانية، شملت 2500 سلة غذائية، وأطناناً من الدقيق، إلى جانب مستلزمات العناية الشخصية والطبية، وحليب الأطفال، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من أكياس الخبز الطازج. وتأتي هذه الجهود في إطار مواجهة النقص الحاد في الغذاء والدواء في غزة.

وقد أطلق الهلال الأحمر المصري حملة «زاد العزة» في 27 يوليو الماضي، و منذ ذلك الحين تم إرسال عدة قوافل محملة بأطنان من الإمدادات الغذائية، الدقيق، ألبان الأطفال، الأدوية والمستلزمات الطبية والعناية الشخصية، إضافة إلى شحنات وقود حيوية، لتخفيف معاناة السكان وتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية.
 

طباعة شارك مصر الهلال الأحمر المصري غزة

مقالات مشابهة

  • الاتحاد الأوروبي و26 دولة يحذرون: الأزمة الإنسانية في غزة لا يمكن تصورها
  • «مستقبل وطن»: توجيهات الرئيس السيسي تعيد صياغة المشهد الإعلامي المصري
  • عاجل: 1300 ملاحظة و50 ألف بلاغ.. الشرقية تكثف جهودها للمشهد الحضري
  • الاحتلال يدعم تعيين رجل أعمال فلسطيني حاكماً لقطاع غزة في محاولة لإعادة تشكيل المشهد
  • الفرق السعودية تتصدر المشهد في كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025
  • المؤسسة القطرية للإعلام وكتارا توقعان اتفاقية تعاون لتعزيز الشراكة الإعلامية في المشهد الثقافي القطري
  • الأمم المتحدة تدعو إلى إنهاء الكارثة الإنسانية في غزة فورًا
  • تراجع كبير لعبور المهاجرين عبر أوروبا.. ومسار «ليبيا كريت» البحري يتصدر المشهد
  • أسامة الدليل: المشهد على حدود مصر مع غزة تحيط به الأكاذيب ويجب كشف الحقائق للرأي العام
  • بدء تحرّك قافلة المساعدات الإنسانية الـ 11 من مصر إلى غزة