عربي21:
2025-12-14@03:40:37 GMT

هل اعتدنا المشهد؟

تاريخ النشر: 8th, May 2025 GMT

تقول الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور: «إن التعوّد يلتهم الأشياء؛ يتكرر ما نراه، فنستجيب له بشكل تلقائي وكأننا لا نراه، لا تستوقفنا التفاصيل المعتادة كما استوقفتنا في المرة الأولى؛ نمضي وتمضي، فتمضي بنا الحياة كأنها لا شيء».

ما تزال تلك الكلمات تتردد في ذِهني كلما استعدت ذاك الصباح المُتجمّد، في يومي الأول كطالب طِب في مساق الطَّب الشرعي.

كان أوَّل ما شهدناه تشريح جُثة شاب عشريني قضى لِتَوّه في حادث دراجة، لم نتعامل معه كجُثة أو موضوع دراسة، بل استوقفتنا تفاصيله الإنسانية: بنطال الجينز، وقميصه ذو المُربَّعات الحمراء والزرقاء، وعلبة سجائر لم يمنحه القدر فرصة لإنهائها. تساءلت حينها عمّا كان يدور في ذِهنه في لحظاته الأخيرة، وعن الأحلام التي وُئِدت، وعن قلبه الفَتي الذي توقَّف عن النَّبض، وعن أمٍّ ثكلى أو حبيبة تنتظر ورود الثامن من آذار.

كان ذلك أول لقاء لنا مع الموت، فقد كانت الجثث التي تعاملنا معها سابقا في مادة التشريح مغرقة في القدم بحيث فقدت ملامحها البشرية، وقد أطبق الصَّمت على الجميع، وهرب الدَّم من بعض الوجوه. لم يحتمل كثيرون الموقف، وخرج آخرون بحثًا عن القليل من الأوكسجين. كان المدرس واقفًا أمام الجثة يملي على الكاتبة بصوت محايد، ويعود بين الفينة والأُخرى إلى سيجارته، يتكلم بلغة خالية من أي عاطفة: «الطول 185 سم، لون الشعر بني، لون العينين...». استهجنّا حياديته، وابتسامته السّاخرة التي كانت تصفع ذهولنا وتأثرنا ولم نكن نعلم حينها أنه  لن يمضي كثير وقت حتى نتغير.

توالت الدُّروس، وتوالت الجُثَث، وتكررت المواجهات مع الموت، ولم ننتبه إلى أنَّ رهبة الموقف الأول قد زالت، وأن التعوّد قد تسلَّل إلى قلوبنا. خبا تعاطفنا مع الضحايا وأهليهم، وتحولت التفاصيل الإنسانية الصغيرة إلى مجرَّد أدلّة؛ وربما موضع تندَّر أحيانًا. 

هذه التجربة الشخصية ليست حِكرًا على الأطباء؛ بلْ هي جُزء من ظاهرة نفسيّة أوسع تظهر في أوقات الحروب والكوارث، حين تتكرر مشاهد العُنف والدَّمار أمام أعيُننا. في البداية، نشعر بالصَّدمة والحزن، لكن مع تكرار المشهد، يبدأ العقل في بناء جدران دفاعية؛ في مُحاولة لحماية الذّات من الانهيار أو الإحساس بالعجز.

هنا تظهر ظاهرة «التبلُّد العاطفي» أو «الاعتياد»؛ حيث يتراجع التأثّر تدريجيًّا حتى يُصبح الألم مجرّد خلفية باهتة في حياتنا اليومية.

وفي عصر الإعلام الرقمي تتدفق صور العُنف والأخبار المأساوية بِلا توقف، مما يُسرِّع من عملية الاعتياد ويزيد من خطر التبلُّد العاطفي، فالتّعرض المستمر لهذه المشاهد يجعلها تبدو مألوفة وعادية، ويُضعِف قُدرتنا على التَّعاطف مع الضحايا. 

فالعقل البشري مُبرمج على حماية نفسه من الألم النفسي الشديد فعندما يتعرض الإنسان بشكل مُتكرر لمشاهد عنف أو مُعاناة، يبدأ في تطوير آليات دفاعية مثل الإنكار أو الهروب أو حتى التقليل من أهمية الحدث، وهذه الآليات ليست دليلًا على القسوة، بل هي استجابة طبيعية للضغط النفسي المستمر؛ لكن هذا الاعتياد قد يحمل في طياته جانبًا مُظلمًا؛ إذ قد يؤدي إلى «نزع الإنسانية» عن الضّحايا، فنراهم مجرد أرقام أو صور عابرة. فقد يتسلل تبلد المشاعر إلى أعماقِنا دون أن نشعر؛ فيجعلنا أقل قُدرة على التّعاطف وأقل رغبة في اتخاذ موقف.

الاعتياد على مشاهد العُنف هو انعكاس لصراع داخلي بين الحاجة إلى الحماية النفسية والواجب الأخلاقي تجاه الضحايا، ومسؤوليتنا أن نبحث عن التوازن، وأن نتمسّك بإنسانيتنا مهما اشتدت قسوة العالم من حولنا، فقد يصبح الصّمت أو اللامبالاة نوعًا من التَّواطُؤ غير المباشر مع الجريمة.
(الغد الأردنية)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة العنف الحوادث مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

تحقيقات تكشف حملة إماراتية لاستهداف حزب فرنسي وإرباك المشهد السياسي

كشفت تحقيقات صحفية متقاطعة، استندت إلى مصادر مطلعة داخل أجهزة الاستخبارات الفرنسية، عن حملة تأثير خارجية ممنهجة مرتبطة بالإمارات تستهدف حزب “فرنسا الأبية”، أكبر كتلة يسارية في البرلمان الفرنسي، في ما وصفه مراقبون بأنه أخطر تدخل أجنبي يضرب الحياة السياسية الفرنسية في السنوات الأخيرة.

وبحسب ما نقله موقع “دارك بوكس”، فإن التصعيد السياسي الجاري في باريس بات ينظر إليه داخل الدوائر الاستخباراتية الفرنسية على أنه عملية نفوذ طويلة الأمد، تقودها شبكات إعلامية واستشارية مرتبطة بأبوظبي، وتهدف إلى تشويه صورة اليسار الفرنسي، وربطه بالإسلام السياسي، وتأجيج خطاب الخوف والكراهية داخل المجتمع.

ميلانشون: أصبحنا “هدفا للإمارات”
وتفجرت القضية علنا بعد تصريحات أطلقها جان لوك ميلانشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية” والمرشح الرئاسي السابق، أكد فيها أن حزبه “أصبح هدفا للإمارات”، وذلك عقب تقديم الحزب شكوى رسمية إلى النيابة العامة بشأن ما وصفه بـ“عملية تأثير أجنبية”.

وقال ميلانشون، في تدوينة نشرها على مدونته، إن الاستهداف جاء عبر استطلاع رأي مثير للجدل حول المسلمين في فرنسا، اعتبره الحزب جزءا من حملة منظمة تهدف إلى ربط الإسلام السياسي باليسار، ونشر الذعر داخل الرأي العام الفرنسي.

وكان الاستطلاع قد تحدث عن “ظاهرة إعادة أسلمة” في فرنسا، مصحوبة بـ“زيادة مقلقة في الالتزام بالأيديولوجية الإسلامية”، ما دفع منظمات إسلامية فرنسية إلى تقديم شكاوى قانونية متعددة، متهمة القائمين عليه باستخدام أسئلة منحازة تهدف إلى “نشر سم الكراهية في المجال العام”.

وأكد حزب “فرنسا الأبية” في شكواه أن الاستطلاع “شكل منصة لخطاب يحرض على التمييز والكراهية وربما العنف”، مشيرا إلى أنه عقب نشره سجلت أعمال معادية للإسلام.

وقد أنجز الاستطلاع من قبل المعهد الفرنسي للرأي العام (Ifop)، بتكليف من مجلة “إكران دو فاي” (Écran de Veille)، التي ربطتها تحقيقات صحفية بشبكات إعلامية واستشارية مرتبطة بالإمارات.

شبكة إعلامية مرتبطة بأبوظبي
وكشفت تقارير إعلامية، من بينها تحقيقات لصحيفتي لوموند وميديابارت، عن صلات بين أبوظبي ومسؤولين في مجلة “إكران دو فاي”، المملوكة لشركة Global Watch Analysis" (GWA)"، المعروفة بعدائها الشديد للإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، وبتبنيها خطابا معاديا لقطر، بما ينسجم مع توجهات السياسة الخارجية الإماراتية.

وبحسب “لوموند”، فإن مؤسس ورئيس تحرير منصتي "Écran de Veille" و"GWA"، أتمان تازغارت، كان على تواصل عبر البريد الإلكتروني مع عميل إماراتي سابق، لعب دورا محوريا في عمليات تأثير نفذتها شركة الاستخبارات السويسرية "Alp Services" لصالح أبوظبي.


وفي تموز/يوليو 2023، كشفت “ميديابارت” أن شركة Alp Services جمعت بيانات عن أكثر من ألف شخص ومئات المنظمات في 18 دولة أوروبية، وصنفتهم زورا على أنهم مرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين، قبل تمرير هذه الملفات إلى أجهزة الاستخبارات الإماراتية لاستخدامها في حملات تشويه وتحريض إعلامي.

ووفق التحقيق، كان حزب “فرنسا الأبية” من بين نحو 200 شخصية و120 منظمة استهدفت في فرنسا ضمن هذه العمليات.

تحذير من اختراق المؤسسات
وحذر الحزب، في شكواه، من أن “شبكة نفوذ إماراتية قد تكون تسللت إلى مؤسسات الدولة الفرنسية”، في إشارة إلى استدعاء لجنة تحقيق برلمانية لمستشارين مرتبطين بمنصة “إكران دو فاي” للإدلاء بشهاداتهم حول ما سمي “التغلغل الإسلامي”.

وقد استمعت اللجنة إلى كل من نورا بوسيني وإيمانويل رازافي، اللذين يقدمان نفسيهما كصحفيين، ويعرفان بتأليف كتب تتهم حزب “فرنسا الأبية” بالارتباط بإيران وبـ“معاداة السامية الجديدة”.

ويرى الحزب أن اختيار هذين الاسمين يعكس نجاح عمليات التأثير الأجنبية في توجيه النقاش السياسي الداخلي، خصوصا أن التحقيق البرلماني وصف من قبل معارضين بأنه “سيئ التصميم” ويخدم أجندات اليمين واليمين المتطرف.

الاستخبارات تنفي… وميلانشون يحذر
وخلال مثوله أمام لجنة التحقيق، شدد ميلانشون على أن جميع مسؤولي الاستخبارات الفرنسية الذين أدلوا بشهاداتهم نفوا وجود أي صلة بين حزبه وجماعات إسلامية، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين.
وحتى ماتيو بلوخ، النائب اليميني المقرر للجنة، أقر قائلا: “في هذه المرحلة، لا يوجد ما يثبت وجود روابط هيكلية أو مالية بين الأحزاب السياسية والمنظمات الإسلامية”.

في المقابل، تساءل ميلانشون عن تجاهل اللجنة لما وصفه بـ“الخطر الإماراتي”، محذرا من أن فرنسا قد تتحول إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية، ولا سيما في ظل التوتر بين الإمارات وقطر.

وقال أمام اللجنة: “احذروا، هناك قوة خارج فرنسا تتلاعب وتتدخل لتصفية حساباتها مع قطر… لا أقبل أن تكون فرنسا مسرحا لهذه الصراعات”.

قضية كارلوس بيلونغو تعود للواجهة
كما أعيد فتح ملف استهداف النائب كارلوس مارتنز بيلونغو، عضو حزب “فرنسا الأبية”، الذي خضع عام 2023 لتحقيق مالي بعد تقرير صادر عن وحدة الاستخبارات المالية الفرنسية Tracfin بتهم التهرب الضريبي وغسل الأموال.

وبعد عامين، أسقطت النيابة العامة القضية، معترفة بعدم وجود أي مخالفات. وكشف موقع “L’Informe” الاستقصائي أن تقرير Tracfin كان مليئا بـ“أخطاء غير معقولة”، ما أثار شبهات بأنه أعد تحت ضغط إماراتي، خصوصا بعد انتقادات بيلونغو لتنظيم الإمارات لقمة المناخ COP28 برئاسة مدير شركة “أدنوك”.

ووصف بيلونغو القضية بأنها “فضيحة تدخل أجنبي”، وتقدم بشكوى بتهمة “الوشاية الكاذبة” و“التواطؤ مع قوة أجنبية”.

سياق أوسع لحملات التأثير
وتخلص التحقيقات إلى أن ما يجري في فرنسا ليس حادثا معزولا، بل جزء من استراتيجية إماراتية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل النقاش الأوروبي حول الإسلام، وإضعاف الأصوات الداعمة لفلسطين، وتعزيز خطاب اليمين المتطرف.

وتشير تقارير إلى أن أبوظبي أقامت علاقات مع أحزاب يمينية متطرفة في أوروبا، من بينها حزب التجمع الوطني الفرنسي بزعامة مارين لوبان، الذي استفاد – بحسب “ميديابارت” – من قرض بقيمة 8 ملايين يورو مر عبر بنك إماراتي عام 2017.

ورغم ذلك، تجاهل تحقيق برلماني فرنسي حول التدخل الأجنبي عام 2023 الإشارة إلى أي دور إماراتي أو إسرائيلي، مكتفيا بالتركيز على روسيا والصين.

وبحسب “دارك بوكس”، فإن حجم الاختراق لا يزال غير واضح، لكن المؤكد أن فرنسا تواجه معركة نفوذ غير مسبوقة على أراضيها، وسط تساؤلات متزايدة حول مدى استعداد الطبقة السياسية والإعلامية لمواجهة هذا النوع من التدخل الخارجي، الذي يجري – وفق التحقيق – “على مرأى من الجميع”.

مقالات مشابهة

  • فلنغير العيون التي ترى الواقع
  • تحقيقات تكشف حملة إماراتية لاستهداف حزب فرنسي وإرباك المشهد السياسي
  • هشام طلعت مصطفى يتصدر المشهد بسبب برنامج «دولة التلاوة».. ما القصة؟
  • برامج البودكاست تحظى بمكانة متقدمة في المشهد الإعلامي الإيراني
  • أزمة أرض الزمالك تشعل المشهد مرة أخرى..مستقبل النادي في خطر
  • ياسر ريان: حسام حسن قرأ المشهد بذكاء وتفادى عواصف كأس العرب
  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • المشهد الانتخابى وهندسة القوائم «٦»
  • بييجي كل 100 سنة مرة.. مصر على موعد استثنائي مع أطول كسوف شمسي منذ قرن
  • من الفوضى إلى الهيكلة: الطريق إلى تنظيم العمل السياسي