بعد 6 عقود من حكم حزب البعث، وهيمنة عائلة الأسد على السلطة في سوريا، يتركز اهتمام السوريين على بناء دولة وطنية ديمقراطية، تتوفر فيها شروط الحياة الكريمة، على الرغم مما يواجهونه من تحديات، وواقع معيشي مثقل بالهموم والمصاعب.

وحذر خبراء من أن الطريق إلى هذا الهدف لا يزال يواجه عوائق كثيرة، فبالإضافة إلى إرث الرئيس المخلوع بشار الأسد وتداعياته على بلد خرج لتوه من الجحيم، ولا يزال يعاني من أزمة إنسانية متواصلة منذ 2011، تواجه سوريا هجمة مضادة، تسعى من خلالها فلول النظام السابق إلى جانب قوى محلية وجهات خارجية إلى تقويض ما أنجزته الثورة، وصبغ المرحلة الانتقالية بصبغة طائفية، تمهيدا لإنشاء كيانات تخدم مصالحها وتوجهاتها.

قوات الأمن العام السورية تعتقل مجموعة أشخاص يشتبه بانتمائهم إلى مليشيات فلول الأسد (أسوشيتد برس) سياسة الأسد الطائفية

يوارى أحمد، خلفَ هدوئه، وهو يتحدث، أوجاع سنوات من القهر والعذاب، فقد فر مع عائلته إلى تركيا إثر تعرض أحياء مدينة حمص الثائرة وسط البلاد لقصف بري وجوي حوّلها إلى ركام.

وبعد سقوط الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، استفاد كغيره من السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة في تركيا، من تسهيلات قدمتها الحكومة التركية، سمحت لهم بزيارة مدنهم الأصلية، والاطمئنان على سلامة أوضاعها، قبل أن يقرروا العودة ومغادرة تركيا بشكل طوعي.

إعلان

وتحدث أحمد للجزيرة نت عما شاهده قائلا "رأيت منزلي مجرد أطلال، الحياة شبه معدومة داخل الحي بسبب الخراب، وعلى مشارف أحياء أخرى تتمركز قوات الأمن العام تراقب بحذر حركة السيارات دون إزعاج، بعد أن تعرض بعض عناصرها لكمائن محكمة من قبل فلول النظام السابق، أسفرت عن مقتل العشرات".

وخلال الفترة التي قضاها، شنت تجمعات عسكرية لفلول النظام السابق في مدن مجاورة لمدينته هجمات مسلحة على عناصر الأمن العام ومقرات الحكومة، ما دعاه ليؤكد أن ما يجري لا يشكل تهديدا أمنيا فحسب، بل من شأنه تفكيك المجتمع، رغم هشاشة تماسكه متأثرا بإرث سياسة الأسد الطائفية.

وكانت مدن الساحل السوري إلى جانب أحياء في حمص يقطنها علويون قد شهدت خلال الأشهر الثلاثة الماضية، اشتباكات وتوترات طائفية على إثر هجمات مسلحة شنها موالون للأسد على قوات الأمن العام أدت إلى مقتل المئات.

وامتدت التوترات والصدامات مؤخرا إلى مناطق بريف دمشق تسيطر عليها مليشيات درزية إثر سجالات من التصريحات الطائفية، تخللها تدخل إسرائيلي.

طريق المستقبل ليس ممهدا بالكامل

بعد عقود من حكم الاستبداد، بات السوريون يأملون أن يشكل انهيار نظام الأسد فرصة ثمينة لتجسيد ما دعت إليه ثورتهم ضد النظام السابق، بالانتقال إلى دولة ديمقراطية، تضمن الحرية والكرامة للجميع، وتصون وحدة أراضيها.

ويخشى كثيرون -بحسب منشورات على منصات التواصل الاجتماعي- من أن يفسد الحراك الطائفي والمناطقي عليهم فرحتهم بسقوط الأسد، أو يحبط ما تبقى لديهم من طموحات وآمال بمستقبل أفضل.

وفي هذا الإطار، استبعد الخبير الحقوقي عبد الملك الأحدب أن تمتلك الحكومة المؤقتة حلا سحريا لمشكلات سوريا الراهنة في ظل استمرار العقوبات التي فرضها الغرب على النظام السابق.

وأشار الأحدب، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن الطريق نحو المستقبل ليس ممهدا بالكامل، إذ تعترضه تحديات، منها:

إعلان الوضع الحياتي، حيث يحتاج الاقتصاد إلى رافعة تمكن البلد من تلبية متطلبات نهوضه وإعادة إعماره، ومن ثم تهيئة الظروف لعودة ملايين اللاجئين. أزمة الأقليات، التي انحرف بعض من تصدروا لتمثيلها على خلفية انفصالية للاستقواء بدول أجنبية، من بينها إسرائيل. التحدي الخارجي، ويتصل بالعقوبات التي ما زال الغرب يفرضها، ويربط رفعها بمطالب قد تمس سيادة الدولة. إلى جانب ما تشكله هجمات إسرائيل العسكرية، واستثمارها الجانب الطائفي من الأزمة الداخلية، من خطر يهدد الأمن القومي السوري. قوات سورية أمنية في إحدى الحملات على مسلحين موالين للنظام السوري السابق (غيتي إيميجز) السرديات الطائفية تدعم الفلول

وانتقد الأحدب السردية التي تروجها الأطراف المتضررة من سقوط الأسد، معتبرا أن "ما يتم تصويره كصراع طائفي أو مواجهة بين أغلبية سنية وأقليات المجتمع السوري، هو تضليل خطير، يراد منه توجيه رسالة للغرب مفادها أن الأقليات تتعرض لمذابح على يد الإسلاميين (النظام الجديد) وعلى المجتمع الدولي إنقاذها".

ويتفق ما طرحه الخبير الأحدب، مع ما ذهب إليه الباحث في معهد دراسات الحرب، رايان كارتر، حيث أوضح في تقرير أن السرديات الطائفية التي تنشرها جهات مناهضة لحكومة أحمد الشرع، تدعم أهداف المتمردين.

وحث الحكومات الغربية على توخي الحذر عند تقييم العنف الناشئ، لأن الجهات الفاعلة في سوريا والمنطقة تحاول دعم روايات المتمردين -عن قصد أو بغير قصد- المصممة لتقويض النظام الجديد.

كما كشف كارتر وجود حسابات شعبية على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها باللغة الإنجليزية، تنشر محتوى يهدف إلى تأجيج هذا التوتر. ومن المرجح -بحسب رأيه- أن يكون هدفها هو نزع الشرعية عن الحكومة  لدى الجمهور الأجنبي، وتعزيز مشاعر الخوف والحرمان الكامنة لدى العلويين.

إسرائيل في عمق المشهد

لطالما ادعت إسرائيل -التي ربطتها مع النظام المخلوع تفاهمات فرضت استقرارا يحفظ أمنها- وقوفها على الحياد من  المذابح والمجازر التي كان يرتكبها الأسد بحق شعبه طوال الأعوام الماضية.

إعلان

دفع سقوط النظام السابق المدوي على يد الثوار الإسلاميين، إسرائيل إلى العودة لسياسة كانت قد استخدمتها سابقا في العراق ولبنان، ترتكز في مبادئها على إضعاف خصومها، وشل قدراتهم، وتشجيع الأقليات على إنشاء كانتونات تخدم مصالحها.

وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، نقلا عن مصادر لم تسمها، أن تل أبيب تعمل حاليا على إقناع القوى العالمية بدعم فكرة تبني الدولة الناشئة في سوريا، نظاما اتحاديا، يضم مناطق عرقية مستقلة، مع جعل المناطق الحدودية الجنوبية منزوعة السلاح، معتبرة "سعي الإسلاميين لتوحيد سوريا إنما يشكل تهديدا لها".

وفي المقابل، ذهب يائير رافيد رافيتز، رئيس فرع عمليات الموساد في بيروت، إلى أبعد من ذلك، عندما طلب من حكومته التعاون مع الأقليات السورية لمواجهة من أسماهم أعداء اسرائيل.

وذكر لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، وجود تنسيق يجرى على الأرض بين إسرائيل والدروز، شارحا، أنه رغم غياب المعلومات المؤكدة لديه، إلا أنه يقدّر، استنادا إلى معرفته، أن الأسلحة الإسرائيلية تنقَل بالفعل إلى محافظة السويداء.

واستعرض رافيتز خطط تل أبيب المستقبلية لاستخدام الأكراد والعلويين في تحقيق أهدافها، مؤكدا -وفق الصحيفة- أن الظروف مهيأة لدعم الحركة الكردية في سوريا سرّا، وحتى تزويدها بالسلاح. أما بالنسبة للعلويين، فيرى أنه من المناسب تقديم دعم سري لهم، وتزويدهم بالسلاح والمعدات "لاستنزاف دماء أعدائنا الرئيسين في سوريا حاليا، وهم السنة المنتمون لتنظيم القاعدة".

مسيحيون ينتمون للكنيسة الأرثوذكسية يسيرون للاحتفال بأحد الشعانين في حي القصاع بدمشق (أسوشيتد برس) "كفوا عن مناصرة الأقليات"

بَيد أن حدثا مهما كشف جانبا من الوضع السائد، وقدم صورة مغايرة للسردية الرائجة حول حقيقة الأوضاع في سوريا. ففي فبراير/شباط الماضي، التقت رئيسة الأمانة الدولية للحرية الدينية، نادين ماينزا، بطاركة وأساقفة وقساوسة مسيحيين أثناء زيارتها لدمشق برفقة وفد رسمي يمثل منظمات دولية.

إعلان

ونقلت ماينزا عن رجال الدين المسيحيين في سوريا قولهم "على الغرب أن يكف عن مناصرة وحماية الأقليات في سوريا، لأن من شأن ذلك أن يعزز الرواية الخطيرة التي استخدمها الأسد، وقسمت سوريا إلى أغلبية وأقلية. وبدلًا من ذلك، عليه السعي للاعتراف بهم كعناصر متساوية في المجتمع حتى ولو قلت أعدادهم".

وذكرت ماينزا في تقرير أعدته عن الزيارة، ونشره مركز ويلسون، الذي يقدم المشورة والرؤى حول الشؤون العالمية لصناع القرار في الولايات المتحدة، أنها استمعت لأغلب الحضور، وكان من جملة ما أكدوا عليه أن معظم جيرانهم المسلمين السنة يرفضون الطائفية والعنف، وأنه في فترة ما قبل حكم الأسد، عاشت الطوائف الدينية والعرقية المتنوعة في سوريا معًا في سلام نسبي، ويأملون استعادة هذا التاريخ.

وأكدوا كذلك أن تأجيج التوترات الطائفية الذي أثبت فشله في العراق بعد الإطاحة بصدام حسين، غذى عدم الاستقرار بدلًا من تعزيز التعافي، ودعوا إلى عدم تكرار نظام المحاصّة العراقي أو النظام الطائفي اللبناني، خشية أن يرسّخ الانقسامات الطائفية نفسها.

وأفادت ماينزا بأن هناك إجماعا على الحاجة الملحة لرفع العقوبات، إذ تنذر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في سوريا بالتحول إلى مجاعة جماعية. وقالت "أعرب معظم الذين قابلتهم عن امتنانهم للرئيس أحمد الشرع الذي أطاح بالأسد، على الرغم من وجود مخاوف جدية لديهم بشأن صِلاته القديمة".

"ارفعوا أيديكم عن سوريا"

من وجهة نظر الكاتب البريطاني، سيمون تيسدال، الذي يرى في تدخل القوى الأجنبية بالشأن السوري أمرا قد يعرض ثورة السوريين للخطر، بدأت سخرية المواقف الحالية تخطف الأنفاس. فالأصدقاء والجيران تكالبوا كالذئاب المفترسة، على جثة نظام البعث المخلوع، التي لا تزال تنتفض، وإذا لم يتم كبح جماحهم -كما يرى- فقد يمزقون سوريا من جديد.

وأوضح في مقال، نشرته صحيفة غارديان البريطانية، أن على القوى الأجنبية أن تدع سوريا وشأنها، وترْكَ أمر مستقبل السوريين للسوريين.

إعلان

وأضاف "ليس للمجتمع الدولي الحق بإبداء رأيه بعد 13 عاما من الفشل في سوريا، خصوصا أن "تدخلات الغرب الجبانة" أجّجت الحرب، وأمام القيادة الحالية العديد من المصاعب، من إعادة اللاجئين والتخلص من الألغام إلى إصلاح اقتصاد البلاد المتهالك والتعافي من السنوات السابقة.

وتساءل تيسدال "كم سيكون من المنعش أن يثق العالم ولو لمرة واحدة فقط بشعب تحرَّر للتوّ، كي يرسم طريقه نحو العدالة والمصالحة وإعادة الإعمار بعيدا عن التدخل الخارجي؟".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات النظام السابق الأمن العام فی سوریا

إقرأ أيضاً:

مراقب إخوان سوريا علي البيانوني الأسبق يروي تفاصيل تجربته في سجون الأسد

يواصل المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، علي صدر الدين البيانوني، سرد محطات سيرته الذاتية في الجزء الثاني من هذه الشهادة التوثيقية التي اختار أن تنشرها منصة "عربي21". وفي هذا الجزء، يفتح صاحب الشهادة صفحاتٍ من ذاكرته عن تجربةٍ مفصلية ومؤلمة عاشها في سجون نظام حافظ الأسد منتصف السبعينيات، حيث الاعتقال بلا تهمة، والتعذيب بلا حدود، والروح المؤمنة التي صمدت في وجه الظلم.

من الانضمام المبكر لجماعة الإخوان عام 1954، مرورًا بمحطات المسؤولية الدعوية والتنظيمية، ووصولًا إلى الاعتقال في سجن "الشيخ حسن" الدمشقي، يقدم أبو أنس سردًا حميميًا صادقًا عن تلك السنوات القاسية التي تحوّلت ـ بفضل ما بثته من معاني الأخوّة والصبر والتجرد ـ إلى ما يشبه "تجربة روحية خالصة"، كما يصفها.

وفي هذا الجزء، لا يكتفي الكاتب بسرد الوقائع، بل يعيد تشكيل مشهده النفسي، ويستحضر وجوه الإخوان الذين شاركوه الزنزانة، كما يعرض جزءًا من الإنتاج الشعري الذي وُلد تحت الضغط والقهر، في زنزانة لا تتجاوز مترين.. لكنها كانت ـ في تعبيره ـ"أشبه بليالٍ حول الكعبة".

هذه المذكرات ليست مجرد تأريخ شخصي، بل شهادة حية على لحظة من لحظات الصراع بين الاستبداد والدعوة السلمية، وبين القهر المادي والصمود المعنوي، وبين آلة القمع وصوت الإنسان الحرّ.

6 ـ الالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين:

انتظمت في جماعة الإخوان المسلمين عام 1954، بموافقة وتشجيع من والدي رحمه الله، وأذكر من أفراد أسرتنا الأولى الإخوة: غسان البنقسلي، وسهيل البنقسلي، ومحمد فاضل درويش، ومحمد أسعد الطويل وكان من أوائل موجّهي الأسرة الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة، صديق الوالد الحميم، وهو الذي كان له أكبر الأثر في تربيتنا وتوجيهنا.

تدرّجت في الجماعة من أخ منتسب، إلى أخ عامل، إلى موجّه أسرة ثانوية، إلى موجّه أسرة جامعية، ثم مسئولاً عن الإخوان في جامعة حلب، ثم عضواً في إدارة مركز حلب، وعضواً في المكتب التنفيذي، وعضواً في مجلس الشورى، ثم نائباً للمراقب العام الأستاذ عدنان سعد الدين بعد خروجي من السجن في عام 1977، وكان يقيم خارج سورية، وكنت أتولى مسؤولية العمل في الداخل.

رغم المعاناة الشديدة خلال فترة السجن، ومن مختلف أنواع التعذيب، خلال الأشهر الأولى، وبين الحين والآخر.. فقد كان معظم الإخوة على قدر كبير من الصلابة، ثابتين صابرين محتسبين، وعشنا معاً أجواءً روحية أخوية صافية، لم تكن تخلو من الشعر والفكاهة والمرح، ومن العلم والتعلّم، مما خفف عنا كثيراً من آلام هذه المعاناة.من الإخوة الذين عملت معهم في الجماعة، أو تعرّفت عليهم، قبل خروجي من سورية، واستفدتُ منهم، وتركوا في نفسي أطيب الأثر، الإخوة الأساتذة: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الله علوان، والقاضي الشيخ عبد الوهاب ألتونجي، والمحامي عبد القادر السبسبي، وعمر بهاء الدين الأميري، والدكتور فوزي حمد، وعبد القادر خطيب، والقاضي محمد كلزية، وأمين يكن، وأحمد حلمي خوجة، ومحمد علي الهاشمي، وعادل الهاشمي،  وصبحي غنام، وصبري غنام، ومحمد الحسناوي، ومحمد أديب الجاجة، وعبد الله الطنطاوي، ومحمد السيد، والمهندس رياض جعمور، وطبيب الأسنان أبو أسامة عبّادي، وعادل كنعان، وحسان الصفدي، والشيخ محمد فاروق البطل، والمهندس محمد عادل فارس، ومحمد عنجريني، ومصطفى عنجريني، وإبراهيم جلال، والأخت الفاضلة الأستاذة أمينة الشيخة، وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم الآن كثير.

7 ـ فترة السجن

في 16 آذار 1975 اعتقلت مع مجموعة من الإخوة من مختلف المحافظات السورية، من قبل شعبة الأمن السياسي، بسبب انكشاف انتمائنا للجماعة، عشت معهم أكثر من سنتين في سجن (الشيخ حسن) في حي الميدان في دمشق، حيث قضينا السنة الأولى في زنزانات انفرادية، لا يتجاوز طولها المترين، وعرضها المتر ونصف المتر، والسنة الثانية في زنزانات جماعية، وحدنا أحياناً، ومع سجناء سياسيين آخرين أحياناً أخرى. وقد تعلّمت من هؤلاء الإخوة الكثير، واستفدت من صحبتهم خلال فترة السجن، وما زلت أحتفظ لهم في نفسي بحبّ عميق، ومكانة خاصة. أذكر من هؤلاء الإخوة: حسان ترجمان، وطه الفرج، وأحمد نيساني، وعبد الغني زينو، وعلاء الدين عجان، وعبد الكريم الشلبي، وعبد الستار قطان.. وآخرين لم تحضرني أسماؤهم الآن.

ورغم المعاناة الشديدة خلال فترة السجن، ومن مختلف أنواع التعذيب، خلال الأشهر الأولى، وبين الحين والآخر.. فقد كان معظم الإخوة على قدر كبير من الصلابة، ثابتين صابرين محتسبين، وعشنا معاً أجواءً روحية أخوية صافية، لم تكن تخلو من الشعر والفكاهة والمرح، ومن العلم والتعلّم، مما خفف عنا كثيراً من آلام هذه المعاناة.

وأذكر أنه في حوار فكريّ سياسيّ في السجن، مع رئيس فرع الأمن السياسي بدمشق، المقدّم أمين العلي، بعد فترة التحقيق والتعذيب، خلال سهرة طويلة امتدّت إلى ما بعد منتصف الليل، قلت له: إنكم بعد التحقيق معنا - وكنا حينئذٍ ستة عشر معتقلاً - وبعد أن اطلعتم على منشورات الجماعة ومنهجها، هل وجدتم في أنشطتنا ومنشوراتنا، ما يخلّ بأمن البلد؟. فأجابني: لا لم نجد ما يخلّ، لكنكم أنتم باعتدالكم، ووسطيّتكم، وسِلميّتكم، وانفتاحكم على المجتمع.. أخطر علينا من أولئك المتطرّفين الذين يحملون السلاح.

وبهذه المناسبة، أذكر أنني ـ رغم تذوّقي للشعر ومحبّتي له ـ لم أنظم قبل السجن إلاّ محاولات شعرية محدودة، لكن المعاناة والأجواء الروحية الصافية التي خيّمت علينا.. دفعتني إلى نظم كثير من القصائد، لم يسلم منها سوى ثماني قصائد، أمكن تهريبها إلى خارج السجن، وعناوين هذه القصائد هي: (جواب، ونداء القدر، وإخوة السجن، وأمّاه، وحديث النفس، ومدرسة السجن، ووردة القلب، وأبتاه)، وقد نشرتها بعد ذلك تحت عنوان (من ذكريات الماضي)، وقدمت لها بهذه المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

من ذكريات الماضي

مقدمة وتعريف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيّين، وعلى آله وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبع هداهم إلى يوم الدين.. وبعد:

فقد قدّر الله لي أن أعيش سنتين ونيّف، مع ثلّة كريمة من الإخوة، في سجن "الشيخ حسن" في حيّ "الميدان" بمدينة "دمشق"، حيث اعتقلنا لعلاقتنا بجماعة الإخوان المسلمين. كان ذلك في منتصف شهر آذار من عام 1975، واستمرّ الاعتقال حتى نهاية الأسبوع الأول من شهر نيسان 1977، حيث أفرج عن معظمنا، دون أن توجّه إلينا أيّ تهمة، ودون أن نحال إلى القضاء، بينما استمرّ اعتقال الآخرين ثلاث سنوات أخرى، ثم أفرج عنهم أيضاً دون أن يحاكموا أو يوجّه إليهم أي اتهام.

ولقد كانت تلك الفترة التي قضيتها في السجن مع هذه المجموعة، من أخصب سنوات العمر، إشراقاً روحياً، واطمئناناً نفسياً، وأنساً بالله عز وجل، ورضىً بقضائه، وتذوّقاً لمعاني الأخوّة في الله والمحبة فيه.

وقد تعلّمنا الكثير مما لا يُتاحُ تعلّمه في غير هذه الظروف، وكانت لنا لقاءات وجلسات، يُفيضُ كلّ واحدٍ على إخوانه، مما أنعم الله به عليه، وأكرمه به، من المعاني الإيمانية، والفيوضات الربّانية. ولعلّ السنة الأولى التي كان فيها كلّ واحدٍ منا في خلوة تامّة، في زنزانته الانفرادية، كانت هي الأجمل والأغنى والأنفع، وكان من بعض حصيلتها هذه القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبها إلى خارج السجن، والتي أنشرها في هذا الكرّاس، لأول مرة، تلبية لرغبة بعض الأحباب.

تعلّمنا الكثير مما لا يُتاحُ تعلّمه في غير هذه الظروف، وكانت لنا لقاءات وجلسات، يُفيضُ كلّ واحدٍ على إخوانه، مما أنعم الله به عليه، وأكرمه به، من المعاني الإيمانية، والفيوضات الربّانية. ولعلّ السنة الأولى التي كان فيها كلّ واحدٍ منا في خلوة تامّة، في زنزانته الانفرادية، كانت هي الأجمل والأغنى والأنفع، وكان من بعض حصيلتها هذه القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبها إلى خارج السجن، والتي أنشرها في هذا الكرّاس، لأول مرة، تلبية لرغبة بعض الأحباب.ولقد عبّرت عن مشاعري في ذلك الحين، لوالدي الشيخ أحمد عز الدين البيانوني، رحمه الله تعالى، عندما زارني في السجن، بعد حوالي ثلاثة أشهر من الاعتقال، وسألني: كيف حالك؟. قلت له: إني أعيش ـ بفضل الله ـ أسعد أيام حياتي في هذه الزنزانة، ألا تذكرُ ـ يا أبتِ ـ تلك الأيام والياليَ التي قضيناها معاً في مكة المكرّمة حول الكعبة، وفي مِنى وعرفات، عندما حججنا معاً قبل عام؟. قال: بلى، أذكرها جيداً. قلت: فإني أعيش أياماً ولياليَ في زنزانتي، تشبه تلك الأيام والليالي. فذرفت عيناه – رحمه الله – وقال لي: هنيئاً لك!. جئت أواسيك، فإذا بك تواسيني. ودعا لي، وشدّ على يدي، وشجّعني، ووعدني أن يزورني كلّ شهر، لكنه مرض بعد ذلك، وامتدّ به المرض، حتى توفّيَ في نهاية عام 1975، ولم أرَه بعد تلك الزيارة، كما أنني لم أعلم بوفاته إلاّ بعد خروجي من السجن في السابع من نيسان عام 1977.

كم كنت أتمنى لو أني سجّلت ذكرياتي اليومية عن تلك الفترة، لكن ظروف السجن لم تكن تسمح بذلك، إذ كان مجرّد حيازة قلم أو ورقة أو كتاب أو مصحف.. من قِبل واحدٍ منا، تعتبر جريمة نعاقَبُ عليها جميعا.

ولقد كان من حسن الحظ، أن سلمت بعض القصائد والرسائل، التي أمكن تهريبُها خارج السجن، خلال زيارات الأهل نصف الشهرية، وقد اطلع عليها بعض الأحباب، ورغبوا إليّ في نشرها، وكان أستاذنا الشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، رحمه الله تعالى، يطالبني بنشرها كلما التقيته، وكنت أعتذر له وأتعلّل.

وأخيراً، وبعد أكثر من عشرين عاماً، وأمام إلحاح بعض الأقارب والأحباب، وجدتُني مدفوعاً إلى طباعة هذه المجموعة المتبقّية من ذكريات تلك الفترة، لعلّها تعبّرُ ـ ولو بشكلٍ جزئيّ محدود ـ عن بعض ملامح تلك المرحلة، التي عشتها مع مجموعة من الإخوة الأحبة، ما زلت أحتفظ لهم في أعماق قلبي، بمحبة خاصة، فلقد سعدت بصحبتهم ردحاً من الزمن، وتعلمت منهم الكثير..

واللهَ أسأل، أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل، ويتقبّلَ مني صالحَ عملي، ويقيَني سيئه، وأن يرحم شهداءنا الذين قضَوا في سجون الظّلمة، ويفرّج عن إخواننا الرّابضين في غياهب السجون، منذ أكثرَ من ثمانيةَ عشر عاماً، وما زالوا ثابتين على طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.. "وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد". وأسأله - سبحانه وتعالى – أن ينتقمَ من الطغاة والظالمين، الذين يحاربون دينه، ويسومون دعاته سوء العذاب، إنه قويّ عزيزٌ شديد العقاب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

15 من رجب 1418 هـ الموافق 15 تشرين الثاني 1997 م

أبو أنس

إقرأ أيضا: مراقب إخوان سوريا الأسبق علي البيانوني يروي سيرته لـ "عربي21".. هذه بدايتي

مقالات مشابهة

  • مراقب إخوان سوريا علي البيانوني الأسبق يروي تفاصيل تجربته في سجون الأسد
  • الرئيس الشرع: مارسنا أعمالنا القتالية لتحرير سوريا بكل شرف وأمانة وأنقذنا المنطقة من إرهاب كان يجثم على صدور السوريين والمنطقة
  • الرئيس ماكرون: اعتداءات إسرائيل على الأراضي السورية ممارسة سيئة وانتهاك لسيادة ووحدة سوريا
  • الرئيس الشرع: لن نسمح بالفتن الطائفية ولا بانتهاك سيادة سوريا من أطراف خارجية
  • موقع أميركي: روسيا تدعم مساعي العراق لإعادة فتح خط أنابيب النفط إلى سوريا
  • الرئيس ماكرون: سقوط بشار الأسد لاقى ارتياحاً لدى الجميع وعلى السوريين اليوم أن يتحدوا لتحقيق السلام والاستقرار
  • الشرع يلتقي في باريس قيصر الشاهد على جرائم نظام الأسد
  • باحثان أميركيان: هل تتجه إسرائيل وتركيا نحو التصادم في سوريا؟
  • العجري: مساعي التهدئة مع واشنطن لا تشمل “إسرائيل”.. وموقفنا من العدوان الأمريكي دفاعي بحت