ما أسباب الرغبة الشديدة في تناول الطعام الحار؟
تاريخ النشر: 11th, May 2025 GMT
كشفت الدكتورة يفجيني بيلووسوف أخصائي أمراض الجهاز الهضمي أسباب الرغبة الشديدة في تناول الطعام الحار.
وتابعت: “الإفراط في تناول الأطعمة الحارة يمكن أن يلحق الضرر بالجسم”.
وأشار: “من الناحية الفسيولوجية تفسر الرغبة في تناول الأطعمة الحارة، بفعل مادة الكابسيسين وهي المادة الفعالة في الفلفل، التي تهيج المستقبلات، ما يسبب إحساسا بالحرقان، ونتيجة لذلك ينتج الجسم الإندورفين هرمونات المتعة، وفقا لصحيفة “إزفيستيا” الروسية.
وهكذا تتشكل ردة فعل إيجابية ورغبة في تكرار هذه الأحاسيس. بالإضافة إلى ذلك، تعمل الأطعمة الحارة على تسريع عملية التمثيل الغذائي مؤقتا، ما يعتبره الشخص زيادة في الطاقة.
وأضافت: “لا تقل أهمية الأسباب النفسية، حيث ترتبط الأطعمة الحارة بالنسبة للكثيرين بذكريات ممتعة أو تقاليد ثقافية، كما يستخدم بعض الأشخاص الأطعمة الحارة كوسيلة للتعامل مع الإجهاد، حيث تساعدهم أحاسيس مذاقها على صرف انتباههم عن همومهم”.
وتعتبر التوابل والبهارات في بعض الثقافات جزءا لا يتجزأ من المطبخ، لذلك يصبح استخدامها عادة. يمكن أن يتطور أيضا نوع من الاعتماد على حدتها، حيث مع مرور الوقت تظهر الحاجة إلى تحفيز المستقبلات أكثر فأكثر.
وقد تكون الرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الحارة إشارة لاحتياجات الجسم. فمثلا تشير في بعض الحالات، إلى نقص مجموعة فيتامين В (وخاصة В6 وВ12) أو المعادن (مثل الزنك). هناك تفسير آخر محتمل وهو الحاجة إلى التحفيز الحسي عندما يبدو الطعام العادي بلا طعم.
ووفقا للطبيب، يساعد اتباع نظام غذائي متوازن والاحتفاظ بالعادات الغذائية على التحكم بهذه الرغبات بشكل أفضل ويجعل الخيارات الغذائية أكثر تنوعا وصحية لأن الإفراط في تناول الأطعمة الحارة قد يسبب مشكلات في الجهاز الهضمي.
ونصحت الدكتورة لتقليل الرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الحارة، بالتأكد من أن النظام الغذائي يحتوي على جميع العناصر الضرورية. كما يجب إضافة المزيد من الفواكه والخضروات والبروتينات والدهون الصحية. ومن الأفضل تقليل كمية التوابل في الطعام تدريجيا، واستبدال الأطباق الحارة بأطباق أخرى، ولكن باستخدام أنواع مختلفة من الأعشاب والتوابل. كما يجب تجنب استخدام الطعام كوسيلة للتعامل مع الإجهاد.
مصراوي
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الرغبة الشدیدة فی تناول
إقرأ أيضاً:
الرأسمالية والفصام والرغبات البشرية
علي الرواحي -
لا يمكن الحديث ولا التفكير فلسفيا عن الرغبة وفيها بشكل عام، وعن علاقتها بالرأسمالية بشكل خاص والقدرة الهائلة على إنتاج الرغبات والاستهلاك المتزايد للوقت، والأدوات، وللأشياء، ومخاطبتها من الكهوف البشرية العتيقة، دون استحضار النص/ الكتاب الدولوزي – الجوتاري المضاد لأوديب، المناقض للتحليل النفسي الأفلاطوني الفرويدي التقليدي، الذي ينظر للرغبة على أنها «نقص» و«غياب» و«عوز» لشيء لم يعد بين أيدينا، بل أصبح مفقودا، ونرغب في تملكه، والاستحواذ عليه، في المقام الأول، وعلى أنها واحدة، تعود لشيء أو لسبب واحد فقط، كالعلاقة بالأب، والعائلة، والحرام، والممنوع، في المقام الثاني.
تُطرح أسئلة كثيرة لا تنتهي عند الحديث عن الرغبة Desire، وعن الفروقات بينها وبين الحاجة Needs ، واللذة، والفرادة البشرية Singularity التي ترفض التقليد، وعن قارة اللاشعور التي اكتشفها أو توصل إليها فرويد، وأخذها جاك لاكان في مسارٍ لساني مختلف.
فالتحليل النفسي التقليدي حول الرغبة وتحديدا مع فرويد ولاكان، كان ينظر لها على أنها التعبير النفسي عن الدافع الغريزي، والغريزة هي قوة دافعة بيولوجية نفسية تنشأ من حاجة جسدية (مثل الجوع، العطش، أو الدافع الجنسي). في حين أن الرغبة هي تمثيل هذه الحاجة في العقل، وتسعى لتحقيق الإشباع الذي يؤدي إلى خفض التوتر المرتبط بالحاجة، فهي لا تنبع من الفرد بشكل أصيل -كما يرى جاك لاكان- بل من التفاعل الرمزي مع الآخر، وتحديدا الآخر الكبير المتمثل في اللغة والقانون والمجتمع.
الرغبة ضد أوديب ومثلث الأسرة
في مقابل ذلك، وبالعودة إلى كتابهما المشترك «ضد أوديب: الرأسمالية والفصام» الذي صدر في جزئين، بالفرنسية في عامي 1972م/1980م، وبالإنجليزية عامي 1977م/1987م، وبالعربية عامي 2021م/2024م، يضع جيل دولوز وفيلكس غوتاري منهجا مغايرا عن السابق في التعامل مع التحليل النفسي وذلك بتوظيف أدوات فلسفية هائلة من النظريات والمراجع والتطعيمات المادية، والواقعية، والرمزية، التي استفادت بشكل ٍ كبيرٍ من الإرث الفلسفي الغربي النقدي في هذا المجال، ومن روافد فنية، وتقنية ضخمة، الأمر الذي وضع هذا العمل كنقطة تحول ثورية ليس في علم النفس فقط، بل وفي علاقات الأفراد بمشاعرهم ورغباتهم، وفي رؤيتهم لأنفسهم وعلاقتهم بأجسادهم التي أصبح يُنظر إليها على أنها الآلات مُنتجة، وتدفقات لا تنقطع، ورغبات لها سيرورات متحولة، ومسلمات غير ثابتة.
من الضروري في البداية توضيح عقدة أوديب Oedipus complex لمعرفة الثورة المعرفية التي سعيا من خلال كتابهما لنقضها، وتقويضها، وتأسيس بديل فكري ونظري عنها، المتمثلة في النظرية النفسية التي صاغها سيجموند فرويد (1856-1939م)، والتي أخذها من مسرحية سوفوكليس الإغريقي (497–406 قبل الميلاد) «أوديب ملكا» والتي ذهب فيها إلى أن الطفل ينظر إلى الوالد من نفس جنسه إلى أنه خصم له،
وهذا الشعور يولّد مشاعر جنسية وعدائية تجاه والده سواء أكان ذكرا أو أنثى .
بهذا المعنى، تعود كل العقد للأسرة أو للمثلث المكون من الأب والأم والطفل، وتترحل بحسب فرويد إلى اللاوعي الذي يتحكم في حياة الفرد، وسلوكياته، ورغباته المستقبلية، وبالتالي تجعل الشعور بالنقص جزءا جوهريا من حياة الفرد الذي يحدد إلى حد كبير علاقته بالآخر لأنه يملك ما ينقصه، ويسعى من خلاله إلى اكتماله من خلال هذا التفاعل معه، ومن هنا تنشأ رغباتنا بوصفها نقصا، وبحثا عن شيء غائب، ومفقود، والتي تتحول إلى حلم، أو استيهام، أو أسطورة يتناقلها الأفراد، والأجيال.
غير أن هذه الفكرة بالرغم من أنها تحولت لاحقا إلى براديغم أو نموذج تحليلي في علم النفس وسعيه الحثيث لفهم التعقيدات البشرية التي تحيط بالفرد في نومه ويقظته وهذيانه المستمر، كان لها آثار مختلفة على الفرد وعلى المجتمع. فهي في المقام الأول، نظرية اختزالية، تعُيد كل شيء، كل عقدة، إلى المثلث الأوديبي، ولا تكترث للسياقات التي يمر بها الفرد عن سواه، في نشأة هذه الرغبات. كما أنها في المقام الثاني، تنتهج مبدأ النسخ Copying، الذي ينسخ ويعيد إنتاج التأويلات بناء على مسار سابق، معروف سلفا، وكل ما يفعله المحلل النفسي ينحصر في ترتيب ووضع هذه الرغبات في مسار جاهز من التحليلات بما فيها التعبيرات اللغوية التي تعُبر إلى حد كبير عن عقد ونقص وكبت لاشعوري. بينما في المقام الثالث، يُرسخ هذا التحليل الجانب التجريدي والأحادي للرغبات البشرية العميقة، فالرغبة كما يذهب دولوز وعوتاري ليست مجردة، بل هي مادية في أساسها، وعمقها النهائي، فهي لا تبدأ من تهويمات بل من حاجات لها أساس محسوس، وبالتالي فإننا أمام تعدد واختلاف وتوليفات وإنتاج، ولسنا أمام وحدة وتطابق وتجريد وشعور عميق بالذنب، وهو ما يعني بأننا أمام تصور جديد للبشر، ولرغباتهم، ولطرق تفاعلهم مع الحياة.
البشر: عُمّال راغبون
ينتجون جسدا بدون أعضاء
في مستهل الجزء الأول من هذا العمل Anti-Oedipus: Capitalism and Schizophrenia ، نقف على مفهوم مادي جديد للرغبات، يختلف جذريا عن التحديد الفرويدي السابق، ويتمثل هذا المفهوم في أننا كبشر عبارة عن الآلات راغبة منتجة Desiring-Production تنتج سلوكيات لا تتوقف، وذلك انطلاقا من الجسد الذي يعمل كآلة تشتغل ليل نهار، دون توقف، فهذه الآلة البشرية تتنفس، تأكل، تتبرز، ترغب، تحارب، تتصارع، تبدع، وهي في كل الأحوال تنتج عددا لا نهائيا من الأشياء. ذلك أن كل آلة منُتجة ترتبط بآلة منتجة أخرى، فالفم يرتبط بالمعدة، وبالدماغ، وبالجسد، وهكذا نصبح كبشر عُمّال تحركنا الرغبة في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وهي التعويذة الرأسمالية المرنة في التعامل مع المنتجات الجديدة المستمرة، والتي تأتي كاستيعاب لكل الرغبات البشرية التي تتسع يوما بعد يوم، حيث نجد أن الرأسمالية لا ترفض هذه المنتجات، بل تعمد إلى الحفاظ على تدفقها داخل الجسد البشري وخارجه، ووضعها ضمن نطاق الإنتاج الرغبوي المستمر، وهذا يشمل المنتجات التي كانت ممنوعة ومهمشة لفترة طويلة من التاريخ البشري. فالبشر بوصفهم الآلات منُتجة لا تعمل بمفردها، بل تشتغل بشكل ثنائي، أو ثلاثي، ولكن ليس بشكل أحادي، فهناك دائما آلة موصولة بآلة أخرى، تنتج الأولى شيئا ما (حلم، فكرة، منتج) ليتدفق إلى آلة أخرى تستقبله، وتعيد إنتاجه، بما يتناسب مع الآلة الأخرى.
بهذا التصور، يصبح المجتمع نقاط تلاق للرغبات، ومساحة واسعة لتدفقها، وصيرورتها، وتحولها من آلة لآلة أخرى، من فرد لآخر. وهذا يعني أن المجتمع يصبح بلا نقاط مرجعية، بل كل النقاط في حالة تغير، وحركة، انفصال واتصال، انقطاع وتدفق. من هنا يأتي الجذمورRhizome، المصطلح الأساسي في هذا العمل الذي يعارض بشكل جذري مفهوم الشجرة لدى فرويد، والذي يذهب إلى أن المجتمع عبارة عن شبكة لا مركزية، وغير هرمية، ومن الممكن ربط أي نقطة فيه بالنقاط الأخرى، وهذا يؤدي إلى عدم وجود جوهر ثابت، بل هناك علاقات بين النقاط، والشبكات، ومراكز القوى، وهناك الآلات تُنتج، والآلات تعيد الإنتاج، ليستمر التدفق، ويستمر المجتمع بدون أعضاء بالمعنى الفلسفي المجرد وليس الفيزيائي، حيث من الممكن لهذه التدفقات أن تحدث بحرية، وبدون تنظيم عمودي، فلا تفاوت أو لا يوجد عضو أفضل أو أقل من غيره، بل لكل واحد منها وظيفة موازية للآلات الأخرى.
الرأسمالية وانفجار الرغبات
إن العلاقة بين الرأسمالية والرغبات معقدة ومتشابكة، حيث يمكن القول إن الرأسمالية لا تكتفي بتلبية الرغبات، بل إنها تعمل على إنتاج وتضخيم وتفجير الرغبات بطرق لم تكن موجودة من قبل. بالنسبة لهما الرأسمالية هي آلة هائلة لـ«إنتاج الرغبات» (desiring-production). على عكس التصورات التقليدية التي ترى الرأسمالية كنظام اقتصادي بحت، فهما يعتبرانها نظاما اجتماعيا ونفسيا يشتغل على مستوى الرغبة نفسها، من جوانب كثيرة:
1.إنتاج الرغبات بدلا من إشباع الحاجات: لا تركز الرأسمالية فقط على تلبية الحاجات الأساسية (مثل الطعام والملبس والمأوى)، بل تتجاوز ذلك بكثير لإنتاج حاجات ورغبات جديدة باستمرار. السوق الرأسمالي لا ينتظر حتى يرغب الناس في شيء ما؛ بل يعمل على خلق هذه الرغبة من خلال التسويق والإعلان والموضة والتكنولوجيا.
2.التدفقات: الرأسمالية في جوهرها، هي نظام تدفقات (Flows): تدفقات رأس المال، تدفقات السلع، تدفقات العمل، وتدفقات الرغبات. هي تتطلب تحرير وتسييل هذه التدفقات من القيود القديمة (مثل الإقطاعية أو الأسرية) لكي تعمل بفعالية.
3.نزع الأقلمة (Deterritorialization): تعمل الرأسمالية باستمرار على تسييل أو «نزع أقلمة» (Deterritorialization) ونطاق العلاقات والرموز القديمة. مثلا، تحرر العمال من الأراضي الزراعية (تغيير علاقات الإقطاع) ليصبحوا قوة عمل متنقلة، وتحويل القيم التقليدية لصالح قيم الاستهلاك والإنتاج. هذه التدفقات تخلق مساحات فارغة (نوع من «الجسم بلا أعضاء» على المستوى الاجتماعي) حيث يمكن للرغبات أن تتدفق بحرية أكبر.
4.إعادة الأقلمة(Reterritorializatio:
بعد التسييل، تقوم الرأسمالية غالبا بـ إعادة أقلمة (Reterritorialization) الرغبات والتدفقات على أساس شفراتها الخاصة. مثلا، بعد تسييل الروابط المجتمعية القديمة، تُعاد الرغبات إلى قنوات جديدة مثل الاستهلاك المحدد بعلامات تجارية، أو الانتماءات المصطنعة التي ينتجها السوق. هذا يعني أن الرأسمالية تطلق العنان للرغبات ثم تعيد توجيهها لخدمة منطقها الخاص (الربح، التراكم).
يؤدي هذا التفاعل إلى ما يمكن وصفه بـ «انفجار الرغبات» في المجتمع الرأسمالي:
• الرغبة كقوة محركة لا تتوقف: تزدهر الرأسمالية على مبدأ أن الرغبة لا تُشبع بشكل كامل أبدا. فبمجرد تلبية رغبة ما (مثلا، شراء هاتف جديد)، تظهر رغبة أخرى على الفور (الإصدار الأحدث، ميزة جديدة). هذا الاستهلاك اللانهائي والرغبة المتجددة هو محرك النمو الرأسمالي.
• إنتاج الندرة المصطنعة: على الرغم من الوفرة، تخلق الرأسمالية إحساسا دائما بالندرة أو النقص، ما يغذي الرغبة في المزيد. يتم ذلك من خلال الموضة، التسويق الذي يوحي بأنك «غير مكتمل» بدون المنتج الفلاني.
• تطبيع الرغبة في الاستهلاك: يصبح الاستهلاك ليس مجرد تلبية للحاجات، بل يصبح بحد ذاته تعبيرا عن الهوية، والانتماء الاجتماعي، وحتى تحقيق الذات. يُصبح «أن ترغب وتستهلك» هو السلوك الطبيعي والمطلوب.
• الجانب المظلم لانفجار الرغبات: يمكن أن يؤدي هذا الانفجار إلى أشكال من الاستلاب والقلق وعدم الرضا الدائم.
فالرغبات التي تنتجها الرأسمالية قد لا تكون بالضرورة تلك التي تؤدي إلى سعادة حقيقية أو تحقيق ذاتي، بل قد تربط الأفراد بدائرة لا نهائية من الإنتاج والاستهلاك.
باختصار، الرأسمالية، بحسب دولوز وجوتاري، ليست مجرد نظام يلبي الرغبات، بل هي آلة قوية تنتج الرغبات وتسيّلها وتعيد توجيهها بطرق تؤمن استمراريتها ونموها. إنها تطلق العنان لانفجار غير مسبوق في الرغبات، مما يشكل محركا رئيسيا لديناميكياتها الاجتماعية والاقتصادية. وهذا يقودنا للحديث عن العلاقة بين الخرائط والرغبات، حي يُعد هذا الموضوع مركزيا في هذا السياق.
الرغبات والخرائط:
من الهرمية إلى الجذمور
يقوم دولوز وجوتاري بتمييز حاسم بين «الخريطة» و«المخطط الهرمي» وهذا التمييز هو مفتاح فهمهما للرغبات وعلاقتها بإنتاج المعرفة والواقع:
ففي الجانب الهرمي، يتسم بأنه تقليدي ونسخي فهو نسخة أو تقليد لواقع موجود مسبقا، حيث يعيد إنتاج ما هو موجود بالفعل، ويرسم الحدود الثابتة، والمسارات المحددة. كما أنه من الجانب الثاني، هرمي ومركزي، غالبا ما يكون هرميا، بمعنى أنه ينطلق من نقطة مركزية (مثل الشجرة التي لها جذور وجذع وفروع). الذي يمثل نظاما مغلقا، وله بداية ونهاية محددة. وهذا ينعكس بشكل مباشر على نموذج التحليل النفسي حيث تعمل التحاليل النفسية التقليدية (الأوديبية) كـ«مخططات تتبعية» للرغبة. فهي تفترض أن الرغبة تُعاد إنتاجها دائما ضمن النمط الأوديبى (الأسرة، النقص، الأب) نفسه، وتحد من إمكانيات تدفقها وتنوعها.
بينما في جانب الخرائط، نجد أنها تتسم بسمات مختلفة جذريا، فهي إبداعية ومنتجة: الخريطة ليست نسخة، بل هي منتِجة للواقع. إنها تُخلق بالتواصل مع الواقع وتُحدث تغييرات فيه. إنها مفتوحة، تتصل بغيرها، قابلة للتعديل المستمر، كما أنها من الجانب الآخر لا مركزية، فالخريطة لا تتبع مسارا خطيا أو هرميا. إنها تعمل كجذمور لا بداية ولا نهاية، يمكن الاتصال بها في أي نقطة، ولها خطوط مفتوحة، وتدفقات لا نهائية. إنها تمثل نظاما مفتوحا ودائم التغير. بالإضافة لذلك، فهي تجريبية وعملية، فالخريطة موجهة نحو التجريب والتفاعل مع الواقع. إنها أداة للاستكشاف والابتكار، وليست مجرد تمثيل جامد. يمكن رسمها على الحائط، أو تصورها كعمل فني، أو بناءها كفعل سياسي.
وهذا يعني بأن من الضروري النظر للرغبات كخرائط تُعيد إنتاج الواقع وتساهم في تدفقه، فالرغبة تنتج الخرائط أو ترسمها، فهي ليست شيئا نبحث عنه في خريطة موجودة مسبقا؛ بل هي نفسها عملية رسم للخرائط. إنها تخلق تواصلات، تُقيم علاقات، وتُنتج واقعا جديدا باستمرار، وبهذا المعنى فهي «آلة رغبة» تتصل بـ«آلات» أخرى، مما يشكل «تجمعات» (assemblages) معقدة ومتغيرة. كما أنها من الجانب الآخر، ينظر إليها كتدفقات للرغبة، فهي ليست حالات نفسية داخلية، بل هي تدفقات طاقية وسيميائية ومادية. هذه التدفقات هي ما تُشكّل «الخرائط» التي نعيشها. على سبيل المثال، شبكة العلاقات الاجتماعية، أو المسارات المهنية، أو التفضيلات الثقافية، كلها تتشكل وتتغير بفضل تدفقات الرغبة التي لا تتوقف. أخيرا من الممكن القول: إن الخريطة تعُد أداة للمقاومة: فهم الرغبة كخريطة يمكن أن يكون أداة سياسية ثورية. فإذا كانت الرأسمالية (وغيرها من أنظمة السيطرة) تعمل على فرض «مخططات تتبعية» أو هرمية على حياتنا، فإن رسم «خرائط» جديدة للرغبات يمثل فعلا للمقاومة. إنه يعني البحث عن خطوط هروب، وإقامة تواصلات غير مألوفة، وإيجاد مناطق جديدة من الوجود.
لا تشكل الرغبات جانبا هامشيا في حياة الإنسان، حيث خضعت للكثير من البحوث والتفلسف قبل وجود علم الأعصاب بالمفهوم الحديث، وعلاقة ذلك بالهرمونات، والنواقل العصبية التي تساهم في التحفيز والذاكرة. بل من الضروري النظر إليها على أنها من أهم المحركات الوجودية في النفس البشرية، بالرغم من تداخلها من عوامل أخرى، فهي تساهم في تغيير رؤيتنا عن أنفسنا، وإمكانياتنا، وقدرتنا على تغيير المستقبل، بالخروج من حصار الماضي، والانفتاح على الآفاق المنتجة، التي لا تسلك الطرق المتبعة والمعتادة.
علي بن سليمان الرواحي باحث ومترجم في القضايا الفلسفية المعاصرة