في زوايا المشهد الرقمي، حيث تتقاطع الحقيقة مع التزييف، وحق النقد مع الفوضى، نشأت ظاهرة الحروب الجديدة التي تتجاوز الأسلحة التقليدية، تقودها جيوش من "المرتزقة الرقميين". لا يحملون سلاحًا ولا يرفعون راية، لكنهم أكثر فتكًا من طلقات الرصاص. أدواتهم: الكلمة المسمومة، والمعلومة المضلّلة، والصورة المبتورة من سياقها.

مهمتهم: زعزعة المجتمعات، وتشويه الشخصيات العامة، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي تحت لافتات خادعة من قبيل "النقد" و"الحرية" و"الحق في التعبير" أو الدفاع عن قضية من قضايا الأمة.

ورغم أن النقد جزء أساسي من ديناميكية المجتمع، فإن ما يُمارس في كثير من هذه الحملات لا يمتّ للنقد بصلة. بل هو أقرب ما يكون إلى الاغتيال المعنوي المنظم، حيث تُستهدف شخصيات الصحفيين والمحللين والسياسيين بتهم مفبركة، وسيناريوهات معدّة مسبقًا لتدمير صورتهم أمام الرأي العام، وتشويه دورهم في دعم مؤسسات الدولة وتحصين الوعي الوطني.

المرتزقة الرقميون ليسوا مستخدمين عاديين. إنهم أفراد أو مجموعات، يعملون ضمن شبكات منظمة تحت إمرة من يتقنون فنون التضليل والتلاعب بالمعطيات. بعضهم مدفوع الثمن صراحة، والبعض الآخر يعمل بدوافع أيديولوجية أو كراهية مؤسسات الدولة. لكن القاسم المشترك بينهم جميعًا: محاولة هدم ما تبنيه الدولة من ثقة داخلية.

يتحرك هؤلاء وفق خطط مدروسة تُبنى على مراحل تبدأ بالتشكيك، ثم التشويه، وتنتهي بالإسقاط الكامل. تبدأ الحملة بإثارة الشكوك بأسلوب يبدو بريئًا، تليه موجة من المنشورات المضللة التي تعتمد على اقتطاع تصريحات أو إعادة تدوير صور قديمة، وتقديمها بسياقات مزيفة. وبعد تمهيد الرأي العام بهذه الجرعات المتتالية، تبدأ المرحلة الحاسمة: هجوم مركّز ومكرر، يطرح نفس الاتهامات عبر حسابات متعددة، بعضها وهمي وبعضها يُدار من قبل أشخاص حقيقيين مدفوعي الأجر أو مخدوعين بالمحتوى.

يرتكز سلوك المرتزقة الرقميين على سلاح السردية المضادة. لا تعنيهم الحقيقة بقدر ما تعنيهم الكيفية التي تُروى بها القصة. تُبث معلومات مُجتزَأة أو مشوهة تدريجيًا، بدايةً بمنشورات توحي بـ"القلق"، ثم تُضخّم لتصبح "قضية رأي عام". هنا، تُستخدم أدوات مثل الترندات والهاشتاجات والهجوم الجماعي المنسّق، فيتم إيهام المتلقي بأن الغضب الشعبي حقيقي، وأن الرواية المضللة هي الحقيقة المطلقة.

الأخطر من ذلك، أن هذه الحملات لا تقف عند حد الانتقاد أو المعارضة، بل تتوغل إلى الحياة الخاصة، وتستهدف النوايا والسلوك الشخصي والعلاقات العائلية. فالهدف ليس مجرد إسكات الصوت، بل اغتيال السمعة وعزل المستهدف عن مجتمعه.

الصحفي الذي ينقل المعلومة بمهنية، والمحلل الذي يشرح الأبعاد السياسية أو الأمنية، والسياسي الذي يدعو للثقة في مؤسسات الدولة، جميعهم في مرمى نيران تلك اللجان، لا لخطأ ارتكبوه، بل لرفضهم الانخراط في آلة التجييش الممنهجة.

يملك هؤلاء أدوات متطورة أخطرها الفبركة الرقمية، التي تتيح إنتاج روايات زائفة بمساعدة برامج تُمكّن من تزوير تغريدات أو صور أو محادثات تبدو حقيقية تمامًا. كذلك يُستخدم أسلوب "السياق المضلل"، حيث يُقتبس تصريح دون خلفيته، لتُفهم الرسالة على غير حقيقتها.

المعضلة الأكبر أن بعض رواد وسائل التواصل، بدافع حسن النية، يعيدون نشر هذه المنشورات بقصد التفنيد أو التعليق، مما يمنحها انتشارًا أكبر ومصداقية مزيفة. فمجرد التفاعل معها يسهم في رفع معدل ظهورها على المنصات، ما يجعل التفنيد، أحيانًا، أداة غير مقصودة لنشر التضليل.

وتسهم خوارزميات المنصات الرقمية في تفاقم المشكلة، حيث تمنح الأولوية للمحتوى المثير للجدل والغضب، بصرف النظر عن دقته. وبهذا، يجد المرتزقة بيئة خصبة لفرض رواياتهم وتوسيع تأثيرهم.

ويخطئ بعض المقربين من المرتزقة الرقميين حين يضيفونهم لقوائم الأصدقاء، أو يعلقون على منشوراتهم الاجتماعية، أو يقدمون لهم التهاني والتعازي. فذلك يمنحهم شرعية مجتمعية تعزز من تأثيرهم وتخدم أهدافهم، ولو عن غير قصد.

غالبًا ما تكشف منشورات هؤلاء المرتزقة اعتمادهم على شبكات ومواقع تابعة لتنظيمات متطرفة أو تمويل مشبوه، ما يسهل التمييز بينهم وبين من يطرح رأيًا حقيقيًا.

أولى خطوات المواجهة هي رفع الوعي العام بالتمييز بين النقد الصادق والتشويه المتعمد.فالدفاع عن الوطن لا يعني تكميم الأفواه، بل حماية المجتمع من الهدم النفسي والمعنوي.

ثانيًا، يجب أن تضطلع المؤسسات الإعلامية بدور توعوي، يشرح أساليب التضليل الرقمي ويفضح أدواته، لأن المعركة باتت في الوعي، لا على الأرض فقط.

ثالثًا، على الشخصيات العامة التحصن قانونيًا وإعلاميًا. فالصمت أمام هذه الحملات قد يُفسر ضعفًا أو إقرارًا بالرواية الكاذبة، ما يجعل اللجوء للقانون خطوة ضرورية للردع وكشف الأكاذيب.

وأخيرًا، علينا أن ندرك أنه في ظل تشابك الحقيقة المبتورة بالصوت المرتفع، يبقى التحدي الأكبر هو التمسك بالعقلانية والنزاهة وسط ضجيج الفوضى. والوعي بأن الاغتيال المعنوي لا يُسكت فردًا فقط، بل يُحاول قتل قيم بأكملها: الصدق، الثقة، والانتماء. من هنا، فإن مقاومة المرتزقة الرقميين ليست مسؤولية الصحفي أو السياسي وحده، بل مسؤولية مجتمع بأكمله.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

ترميم الحقيقة في زمن «ما بعد الحقيقة»

قد يظن البعض أن عالم السوشيال ميديا وتكنولوجيا الجوالات المحمولة يشير إلى تقدم حقيقي، وقد يكون هذا صحيحاً جزئياً، لكنه لا ينطبق على جميع المجتمعات. في السياق العربي، قد تكون التكنولوجيا أحد العوامل المعرقلة، إذ تفتقر المجتمعات العربية إلى التقدم التراكمي المبني على أُسس متكاملة. ففي عالمنا العربي، حيث لم تمر التكنولوجيا بمراحل نضج كافية، نعيش في حالة من القفزات السريعة التي تفتقر إلى التأصيل، مما يؤدي إلى «تحديث التخلف».

لنوضح هذه الفكرة، يجب أن نتأمل مسار الثقافة والإعلام في العالم العربي. على الرغم من التحولات الإعلامية والثقافية التي شهدها العالم العربي، فإن معظم المجتمعات العربية لم تشهد نضجاً حقيقياً في أي مرحلة من مراحل التطور، بل مرّت بتغيرات سريعة، حيث تظهر تكنولوجيا جديدة قبل أن نستوعب السابقة. وهذا يخلق نوعاً من «القفزات» التي لا تبني أساساً معرفياً قوياً، بل يسهم ذلك في انهيار البنية المعرفية.

في الماضي، كانت المعرفة في المجتمعات العربية تُنقل عبر وسائل شفاهية، مثل الحكايات الشعبية، والشعر، والمواعظ الدينية. كانت الكلمة المنطوقة هي وسيلة الوعي الأساسية، والحامل للقيم الثقافية والدينية. في هذا السياق، كان هناك نظام صارم للتحقق من الأخبار، مثل الحديث الشريف الذي يعتمد على التواتر، وهو مشابه لأسلوب الصحافة الحديثة التي تتطلب تعدد المصادر لنشر الخبر. هذه الطرق كانت جزءاً من بناء عالم الحقيقة.

مع دخول المطبعة في بداية القرن التاسع عشر، تراجعت الوسائل الشفهية، وحلّت الكتابة المطبوعة بوصفها وسيلة رئيسة لنقل المعرفة. ورغم أن المطبعة قد هيأت المجال لنقل المعرفة، فإنها كانت محصورة في النخب السياسية والثقافية. ثم جاء اختراع المذياع في منتصف القرن العشرين، الذي أعادنا إلى مرحلة الشفاهة ولكن بشكل جماعي، حيث دخل الصوت كل بيت، لكنه لم يخلق ثقافة نقدية لاستقبال المعلومات، بل كان أكثر وسيلة للترفيه والدعاية السياسية.

في السبعينات والثمانينات، جاء التلفزيون، الذي أضاف الصورة إلى الصوت، لكنه بقي أداة دعاية سياسية أكثر من كونه وسيلة تعليمية. ومع دخول الكمبيوتر في التسعينات، تم دمج النص بالصورة، لكنه اصطدم بمستوى تعليمي وثقافي غير مهيأ، فظل أداة فردية محدودة. وفي منتصف عام العقد الأول من الألفية ظهرت السوشيال ميديا، التي جلبت ثورة كبيرة في سرعة وتنوع المعلومات، لكن ذلك كان من دون حراس بوابات التحرير، ومن دون تدقيق للمعلومات، فتراجعت الحقائق أمام الآراء والصور والعالم الحسي والمشاعر.

ومن هنا أخذ مصطلح «ما بعد الحقيقة» رواجاً، رغم أن المفهوم في صورته الأكاديمية كان أقدم من ذلك بكثير، لكنه أصبح أكثر شيوعاً بعد 2016 في سياقات مختلفة، مثل استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، ومجيء دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة، حيث شنّ حملة شعواء على الميديا التقليدية التي تلتزم المعايير التحريرية والتدقيق المعلوماتي. في عالم «ما بعد الحقيقة» أصبح الرأي العام رهن التحيزات الشخصية والمشاعر، وابتعدنا كثيراً عن عالم الحقائق الموضوعية.
في العالم العربي، دخلنا عملياً في «زمن ما بعد الحقيقة» قبل 2016؛ لأن بنية الحقيقة نفسها لم تكن قد ترسّخت لدينا. لم تنشأ مؤسسات تحقيق قوية، ولا ثقافة إعلامية ناقدة، وضعفت مهارات التمييز بين الرأي والخبر، والمعلومة والشائعة وضرب الودع على الشاشات.

في هذا السياق تصدق منجّمة مرة في لقاء تلفزيوني فيصدقها العالم، ويخطئ عالم مرة فتضيع سمعة إنجازاته العلمية. منجّم يصيب مرّة واحدة في المائة فتنسحب المصداقية على كل أكاذيبه، ويخطئ عالم مرة واحدة في المائة فتسحب الثقة من 99 في المائة من علمه الذي هو صادق بالفعل، ويُرمى بالكذب.

تحديث التخلف عندنا كان ضحية تلك القوى المعطلة. مفهوم «القوى المعطلة» (disruptive forces) ظهر في التسعينات من القرن الماضي، وفحواه هو أن ابتكارات، مثل الإنترنت والجوالات الذكية، تهدم النظم القديمة، وتستبدلها بواسطة أخرى أكثر رشاقة وتأثيراً. مع مرور الوقت، أصبح هذا المفهوم يشمل مجالات أخرى، مثل الاقتصاد والسياسة والإعلام. في الإعلام، ومن هنا كانت السوشيال ميديا القوة المعطلة الأكبر، حيث أخرجت صناعة الإعلام من يد المؤسسات التقليدية ذات المعايير الصارمة إلى مؤسسات ما بعد الحقيقة، وصفحات «اليوتيوب»، و«فيسبوك»، و«إكس» التي يسيطر عليها أفراد لا يتمتعون لا بالمهنية، ولا بصرامة المعايير.

في حالة العالم العربي لم تسهم القفزات التكنولوجية في بناء بنية معرفية قوية، أو ثقافة التحقق من المعلومة. ومع دخول السوشيال دخلنا عالم النميمة، حيث تكون الشائعات أسرع انتشاراً من الحقائق.

لعب كل من الخوارزميات والكمبيوتر الكموني دوراً كبيراً في هذا التحول، إذ يُروج للمحتوى الذي يثير الانفعال والمشاعر بدلاً من المحتوى الأكثر دقة أو فائدة معرفية. وبذلك تسارعنا من بيئة معرفية هشة إلى بيئة أكثر هشاشة، وصولاً إلى عالم تختلط فيه الحقيقة بالرأي، والمعلومة بالدعاية، والخبر بالشائعة.

أصبح العالم العربي اليوم ضحية قوتين كبيرتين: عالم ما بعد الحقيقة، وعالم القوى التكنولوجية المعطلة التي ظاهرها التقدم وباطنها تخلف براق. ما زالت مقولة عالم الإعلام الكندي ماكلوهان قائمة: «الوسيلة هي الرسالة». ليس مهماً أن تكون لديك تكنولوجيا حديثة، ولكن الأهم ماذا تقول فيها أو تكتب أو تنشر. نحن لدينا أدوات حقيقية ومحتوى ما أحوجه إلى معايير صارمة تأخذنا بعيداً عن عالم ما بعد الحقائق إلى عالم الحقائق، وقد يكون الأمر أفضل لو مكثنا قليلاً في هذا العالم حتى ننضح.

(الشرق الأوسط اللندنية)

مقالات مشابهة

  • ترميم الحقيقة في زمن «ما بعد الحقيقة»
  • هل وجود المرتزقة الروس في أفريقيا يفاقم التوتّرات وعدم الاستقرار؟
  • هل البوشار يزيد الوزن؟ الحقيقة التي لا يعرفها كثيرون
  • تأجيل محاكمة 41 متهم بـ "لجان العمليات النوعية بالنزهة" استهدفوا محكمة مصر الجديدة
  • تأجيل محاكمة 46 متهمًا في قضية "لجان المضارين" لـ 12 يوليو
  • الفريق أسامة عسكر: أنهينا المعوقات التى عطلت عمل لجان تقنين أراضي الدولة بالمحافظات
  • الذهب يلمع في أفريقيا وسط فوضى الاقتصاد العالمي
  • مواجهة الفوضى.. ما أهداف مشروع قانون تنظيم الفتوى؟
  • هل تغيير زيت المحرك مبكرًا يخفض استهلاك البنزين؟ الحقيقة التي لا يخبرك بها أحد!