من الثورة إلى الانقلاب: كيف أعاد العسكر إنتاج الفساد؟
تاريخ النشر: 12th, May 2025 GMT
معتصم محمد دفع الله علي
في كل محطة تاريخية يشهد فيها السودان انقلابًا عسكريًا، لا يقتصر التراجع على مسار التحول الديمقراطي فحسب، بل تمتد التداعيات لتطال البنية المؤسسية والإدارية للدولة، التي تبدأ في فقدان ملامحها الحديثة تدريجيًا. فالحكم العسكري لا يأتي مجرد انقضاض على السلطة المدنية، بل غالبًا ما يكون مصحوبًا بمشروع ممنهج لتفريغ مؤسسات الدولة من مضمونها، وتحويلها إلى أدوات طيعة تخدم مصالح ضيقة لفئة حاكمة، على حساب المصلحة الوطنية العامة.
ومنذ الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش في 25 أكتوبر 2021م، على الحكومة المدنية التي تشكّلت عقب الثورة الشعبية العظيمة في ديسمبر 2018م، والتي أنهت ثلاثة عقود من الحكم الشمولي بقيادة المخلوع عمر البشير، دخل السودان في نفق مظلم من التراجع السياسي والانهيار المؤسسي. فقد وصف الفريق أول عبد الفتاح البرهان الانقلاب حينها بأنه “خطوات تصحيحية لحماية الدولة”، إلا أن الوقائع الميدانية أثبتت أنه كان في جوهره محاولة لإعادة إنتاج المنظومة القديمة، وتحصين رموز النظام السابق من المساءلة والمحاسبة.
تحت شعارات فضفاضة من قبيل “تصحيح المسار”، اتسع نطاق الفساد المالي والإداري داخل أجهزة الدولة، لا سيما في وزارات الدفاع، المالية، والطاقة، حيث تحوّلت هذه المؤسسات إلى بؤر مغلقة تحكمها شبكات مصالح عسكرية ومدنية. وتحت غطاء الحصانة، نجا العديد من المتورطين في ملفات الفساد من المساءلة، بينما تعرّض المبلّغون عنها للملاحقة، في مشهد يختزل حجم الانحراف المؤسسي الذي يعانيه السودان.
وبات الاعتداء على المال العام يسيرًا في ظل انعدام الرقابة الفعالة، من خلال مشاريع فاشلة تخدم دوائر النفوذ الضيقة، أو عبر الإنفاق السري على الأجهزة الأمنية وشراء الولاءات السياسية. ولم تعد الوزارات تُدار بعقلية الخدمة العامة، بل أصبحت منصات لتوزيع المكاسب والامتيازات على أسس الولاء لا الكفاءة، ما أفضى إلى خلل إداري عميق، وعطّل عجلة الإصلاح المؤسسي.
تقارير دولية موثوقة كشفت عن أن جزءًا كبيرًا من موارد الدولة يُدار عبر شبكات اقتصادية موازية، ترتبط بمؤسسات عسكرية أو شركات لا تخضع للرقابة، ما يجعل الدولة، فعليًا، كيانًا مختطفًا يعمل لصالح قلة متنفذة على حساب المصلحة العامة. ويؤكد تقرير “مؤشر مدركات الفساد” الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2024 في مضمونه هذا الواقع، حيث تراجع تصنيف السودان بشكل ملحوظ، وجاء السودان في المرتبة 170 من أصل 180 دولة، مما يجعله من بين أكثر الدول فساداً في العالم. بدرجة متدنية للغاية (15 من 100)، نتيجة تفاقم الفساد بعد انقلاب 25 أكتوبر2021، واستمرار تغوّل المؤسسة العسكرية على الاقتصاد، مع غياب فعّال للرقابة والمساءلة، وتحصين كبار المسؤولين من المحاسبة، وافتقار إدارة المال العام إلى الشفافية، خصوصًا في قطاعات الضرائب والموارد الطبيعية.
وفي تقرير صدر في فبراير 2025 عن المنظمة ذاتها، تحت عنوان “الفوضى غير المقيدة: الصراع والفساد في السودان”، التقرير أوضح أن الفساد داخل قطاعي الدفاع والأمن لا يمثل تهديدًا للشفافية فحسب، بل يُعد من العوامل المركزية في استمرار النزاع المسلح وتعقيد الأزمة الإنسانية.
ويبدو أن تصريحات رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان ونائبه مالك عقار، خلال مؤتمر الخدمة المدنية المنعقد في مدينة بورتسودان بتاريخ 30 أبريل 2025م، حول تفشي الفساد في مؤسسات الدولة، تُعد بمثابة إقرار رسمي بعمق الأزمة، وإن جاءت متأخرة. غير أن هذه التصريحات، بدلًا من أن تبعث الأمل بإصلاح مرتقب، كشفت عن حالة من العجز لدى قيادة السلطة الانقلابية في مواجهة المنظومة الفاسدة، ما يعكس خللًا بنيويًا في إدارة الدولة.
إنّ فرص الإصلاح ستظل محدودة طالما بقيت المؤسسة العسكرية ممسكة بمفاصل الدولة دون مساءلة، ودون تفويض شعبي أو أطر قانونية واضحة. الفساد في السودان ليس مجرد خلل إداري، بل هو عرض لأزمة حكم متجذرة، لا يمكن معالجتها دون الانتقال إلى سلطة مدنية كاملة، تستند إلى الشرعية الدستورية، وتحظى بدعم جماهيري ومؤسسي. فلا يمكن بناء دولة حديثة في ظل الحكم العسكري، ولا يمكن اجتثاث الفساد ما لم يبدأ الإصلاح من قمة السلطة نفسها.
الوسوممعتصم محمد دفع الله عليالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
هل يتكرر السيناريو الليبي الكارثي في السودان؟
بينما يمضي السودان في حربه الطاحنة، تظهر تطورات تنذر بتجاوز حالة الاحتراب التقليدي إلى ما هو أخطر: تقسيم فعلي للدولة وظيفيا (functional partition).
إعلان مجموعة (تأسيس) عن تشكيل حكومة موازية، والتصعيد العسكري الكثيف في مدينة نيالا وحول الفاشر، بالتزامن مع لقاء كان مرتقبا جرى إلغاؤه للرباعية الدولية في واشنطن، يضعان المشهد السوداني في تقاطع طرق حاسم: فإما المضي في مسار السلام وفق خارطة الرباعية الحالمة، أو الانزلاق نحو نسخة سودانية من التجربة الليبية، بكل ما تحمله من فوضى وصراع مزمن وشرعية منقسمة، أو هكذا يُراد.
ما يجري ليس مجرد تمرد وحرب مفروضة بين مكونات عسكرية وسياسية، بل هو صراع جذري على شكل الدولة السودانية، وحدودها السياسية والاجتماعية، ومن يحكمها، ومن يملك قرارها السيادي.
والمؤشرات المتزايدة على نية المليشيا وما أعلنته من خارطة جديدة للسودان تشي بترسيخ سلطتها في إقليم دارفور ومحيطه، عبر أدوات مدنية ظاهرها "تحالف مدني"، وباطنها "سلطة أمر واقع"، تُنذر بمرحلة جديدة أكثر تعقيدا وخطورة، قد تُدخل السودان في نفق النموذج الليبي طويل الأمد.
الحكومة الموازية: شرعنة التمرد وتقنين الانقسامفي خضم الانهيار المؤسسي الشامل، خرجت قوات المليشيا بالإعلان عما أسمته "تحالفا مدنيا انتقاليا"، في محاولة مكشوفة لخلق غطاء سياسي لسيطرتها على غرب السودان كخطوة أولى للضغط.
هذا التحالف، الذي رُوّج له إعلاميا كبديل مدني علماني، لا يخفي حقيقة كونه واجهة سياسية لسلطة مليشياوية تفرض حكمها على الأرض بقوة السلاح والدعم الخارجي العابر للحدود، خصوصا من الراعي الإقليمي.
إنها ليست خطوة معزولة، بل تتسق مع إستراتيجية طويلة المدى تهدف إلى خلق "إقليم مستقل فعليا"، يستخدم لاحقا كورقة تفاوض أو نقطة انطلاق لمشروع سياسي أكبر.
ومن هنا، فإن إعلان الحكومة الموازية يجب أن يُقرأ باعتباره أول تجلٍ علني لخيار التقسيم السياسي بأبعاده المعلومة، في سياق متطورات الحرب وفشل مشروع التمرد.
التصعيد في نيالا: السيطرة قبل الاعتراففي موازاة هذا التحرك السياسي، تخوض قوات التمرد معارك ضارية في مدينة نيالا، عاصمة جنوب دارفور، في مسعى لتأمين سيطرتها الكاملة على الإقليم الغربي.
إعلانفنيالا ليست مدينة عادية، بل تُعد مركز الثقل الإداري والعسكري في دارفور، وأي سيطرة عليها تُعد بمثابة إعلان غير مباشر لقيام "سلطة إقليمية بديلة".
التصعيد هنا يتجاوز الأهداف العسكرية إلى أهداف سياسية عميقة: فرض واقع جديد بالقوة قبل أن تبدأ أية تسوية دولية، وجعل المليشيا في موقع تفاوضي أقوى، إن لم يكن موازيا للحكومة المعترف بها دوليا في البلاد، والتي تتخذ بورتسودان عاصمة مؤقتة وتجري ترتيبات العودة إلى الخرطوم.
واشنطن والرباعية: هل تُدرك اللحظة؟في ظل هذه التطورات الميدانية الخطيرة، ظلت الأنظار تتجه إلى لقاء الرباعية الدولية في واشنطن نهاية يوليو/ تموز المنصرم، لكنه أُرجئ. تأتي هذه الخطوة بعد فشل مساري جدة، وأديس أبابا، ومجمل المحاولات السابقة في جنيف، والقاهرة، ولندن في تحقيق اختراق حقيقي.
لكن السؤال الملحّ: هل يمكن لأي لقاء كهذا أن يتجاوز مرحلة "إدارة الأزمة" إلى "حل الأزمة"؟ أم إنه مجرد محطة جديدة في مسلسل التكتيكات والبيانات والتوصيات التي لا تغير شيئا في الواقع؟
المقلق أن الرباعية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تُبدِ حتى الآن إرادة قوية للجم دعم الراعي الإقليمي الواضح لقوات التمرد، ولا لممارسة ضغط فعلي لوقف الحرب وتفكيك المنصات السياسية الموازية.
ويبدو أن الفاعلين الدوليين يكتفون بردود فعل متأخرة على أحداث سبقتهم بأشواط، مما يعزز الانطباع بأن السودان يُترك لمصيره وقدره بازدواجية معايير متعمدة في صفقات السلام التي تجري في المنطقة، وخلط الأوراق والمطامع.
بين الخرطوم وطرابلس: هل نحن أمام نسخة سودانية من ليبيا؟في ضوء ما سبق، تفرض المقارنة مع ليبيا نفسها بقوة. فقد شهدت ليبيا بعد سقوط القذافي انقساما حادا بين سلطتين، واحدة في الغرب والثانية في الشرق، تدعمهما قوى خارجية متباينة.
واليوم، يُراد من وراء الإعلان أن يسير السودان على خطى مشابهة، مع بعض أوجه الشبه والاختلاف.
من حيث الشبه:
كلا البلدين يشهدان سلطتين متنافستين: واحدة تحظى بشرعية دولية كاملة، وأخرى تسعى لفرض سلطتها بالأمر الواقع. كلاهما يعاني من تدخلات خارجية متناقضة، تدعم أطرافا متنازعة وتزيد من تعقيد المشهد. انهيار مؤسسات الدولة، وتفشي اقتصاد الحرب، وتحول الصراع إلى حالة مزمنة، كلها قواسم مشتركة بين النموذجين.لكن السودان يتميز بعوامل تزيد من تعقيد وضعه، وتجعل من خطر الانزلاق أشد وطأة بحكم الاستهداف المستمر:
البنية القبلية والاجتماعية في السودان أكثر تداخلا وتشابكا، ما يجعل أي محاولة للتقسيم محفوفة بصراعات دموية طويلة الأمد. الجيش السوداني لا يزال يتمتع بامتداد شعبي وتاريخي وسند أوسع من نظيره الليبي بعد الثورة، وهو ما يُبقي على إمكانية وحدة الدولة، إن أُحسن توجيه هذا الثقل وقدرته على استكمال النصر ودحر التمرد. الجوار الجغرافي للسودان أكثر هشاشة، بحدود مفتوحة مع سبع دول، مما يُعقّد المشهد الأمني ويُغري قوى إقليمية بالتدخل أو الاستفادة من حالة الهشاشة والفراغ.هذه الخصائص تجعل من التجربة السودانية مرشحة لأن تكون نسخة أكثر فوضوية وتعقيدا من الحالة الليبية، إذا لم يتم تدخل الدولة بحزم لإيقاف هذا المسار، الذي يرمي إلى إعادة سردية (الطرفانية) والشرعية للمشهد لأجل فتح آلية إعادة (تأسيس) إلى كراسي الحكم.
إعلانوالضغوط الدولية التي تتكثف، سواء ما اتصل بلجنة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان، أو اجتماعات واشنطن الملغاة، أو الجنائية، كلها حلقات لأجل غاية واحدة، أريد لها أن تتزامن مع إعلان المليشيا (لحكومتها الافتراضية).
الفرصة تضيق.. والكارثة تقتربالسودان اليوم يمر بمرحلة هي الأخطر في تاريخه الحديث، ليس فقط بسبب شدة الحرب، بل لأن ملامح الدولة ذاتها باتت على المحك.
المقصد من ورائها أن تتحرك القوى الإقليمية والدولية سريعا نحو تسوية سلمية شاملة يراد فرضها لتُنهي الحرب وتعيد بناء الدولة على أسس مدنية وديمقراطية جامعة في صيغة اتفاق (إطاري جديد)، أو أن يستمر الضغط الخارجي ويُترك السودان لينزلق إلى هاوية الانقسام والتشظي، كما حدث في ليبيا، وربما بشكل أكثر دموية وتعقيدا لتباين الأوضاع بين البلدين.
إن تشكيل حكومتين، أو هكذا رمت الخطوة، وتحول العاصمة إلى مدينة منكوبة، وغياب أي أفق واضح للسلام رغم اكتمال الجهاز المدني الجديد من بورتسودان، كلها مؤشرات على أن الوقت لم يعد في صالح الحلول التدريجية أو المناورات السياسية، وقوى نافذة في المنطقة تقف وراء المخطط في سياق الخطط البديلة بعد أن فشل التمرد في تحقيق أهداف الحرب.
فكل يوم يمر دون بلوغ التسوية الوطنية بإرادة داخلية تنشدها القوى المسندة للجيش، يُقرب السودان خطوة أخرى من نموذج دولة فاشلة متعددة الرؤوس التي يسعى خصومه لتجسيدها، ويراد لها أن تكون بلا مركز ولا مستقبل، أو استمرار حالة الهشاشة والانقسام واستدامة الحرب. فهل من معتبر؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline