نظام التفاهة .. وجذور الظاهرة الترامبية
تاريخ النشر: 12th, May 2025 GMT
10 يناير 2020م.. كتب مصطفى شلش في مقاله «آلان دونو: نظام التفاهة.. أميركا ترامب نموذجًا» بصحيفة «الأخبار» اللبنانية: (منذ لحظة وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة؛ تم إعلان انتصار «نظام التفاهة» على ما عداه من أوصاف أخرى كـ«الشعبوية» التي كثر استخدامها). هذه اللحظة.. تحكي تحولًا في الأخلاق السياسية، تأكدتْ بإعادة انتخاب ترامب رئيسا لإدارة ثانية بعد الرئيس جون بايدن.
المقال.. يقرأ سياسات الرئيس ترامب تحت أضواء نظام التفاهة المبهر، ليس باعتبار الهرج الذي تنهمر به سماء التواصل الافتراضي، والذي ينبغي أن يسمى كثير منه بـ«السفاهة الأخلاقية»، وإنما لأن التفاهة أصبحت نظاما شاملا، يتحكم بأوردة العالم وشرايين الأفراد، يتصدره مشعوذو العلم والدين والسياسة والاقتصاد والإدارة، ويجر أذياله الحُواه وقارئو الكف والفنجان.
عام 2015م.. أصدر الكندي آلان دونو كتابا باللغة الفرنسية يعالج ما عُرف عربيا بـ«نظام التفاهة»؛ وهو العنوان الذي اختارته مترجمة الكتاب للغة العربية مشاعل الهاجري في طبعته الأولى عام 2020م، وعنوانه بالفرنسية «La médiocratie» ومعناه المتوسطون؛ ويقصد بهم غير المتمكنين في تخصصاتهم. والكتاب.. يتحدث عن المتصدرين في الأنظمة ممن هم ليسوا أهلا لها، وقراءته مهمة لفهم التحولات الجذرية التي مست العقل والضمير برهقها، فقد ضربت التفاهة مناهج العلم والمعرفة، وقواعد السياسة والاقتصاد، وقعر الكينونة البشرية، وأسس الأنظمة الاجتماعية.
أهم محددات نظام التفاهة أربعة؛ هي:
- اللامبالاة.. فالتافه يضرب عرض الحائط بمَن يخالفه. واللامبالاة ليست بمشاعر الناس ومصالحهم فقط، وإنما أيضا بمناهج العلوم ومنطق التفكير ومؤسسات المجتمع.
- الاقتناع.. التافه مقتنع بصحة ما يقوم به، وجاد في قراراته وممارسته، ومهما ظهر أن عمله غير مقبول أخلاقيا ومعرفيا فهو يصر عليه. وهي قناعة يكفي أن يعيشها التافه بنفسه، ولا يحتاج أن يبرر أفعاله.
- اللاأخلاقية.. الأخلاق الاجتماعية في نظام التافه ترف، لا ينبغي أن تقف سدا أمام تحقيق المصالح. وهي هنا ليست حكمًا بالسلب بقدر ما هي توصيف للانفلات من القيم التي تمثّل الضمير الإنساني. فهي لا تقتصر على هزّ بطون الرجال وأرداف النساء، فقد سلكت سبيل الكذب والتدليس، والترويج للمواد الضارة، والدعاية للمشاريع الوهمية، ولو أدت إلى المساس بصحة الناس؛ النفسية والبدنية.
- الإثراء.. عندما تصبح الحياة بلا قيم، والإنسان همه إشباع رغباته، فهذا يستدعي السعي السريع للحصول على المال، فمن مرتكزات التفاهة الإثراء المباشر؛ سواء بالنسبة للأفراد أم المؤسسات أم الدول. وبغض النظر عمّا يخلّفه الثراء من اختلال ميزان الاقتصاد الدولي، والذي قد يصل إلى الكساد العالمي، فإن أصحابه ماضون في تحقيق مبتغاهم.
نظام التفاهة.. ليس وليد زماننا، ولم يكتشفه آلان دونو، وإنما هو قرّبه معرفيا إلى الناس، وإلا فالتفاهة ملازمة للإنسان منذ الأزل. وهي لن تقضي على الجد؛ فهما متلازمان في الحياة. لكن ما وصل إليه العالم من توغل التفاهة في أنظمة الحكم، بحيث ضربت أكبر قوة سياسية؛ أمريكا دولة المؤسسات العميقة، وهيمنت على رئيسها ترامب، يستدعي الدراسة.
دونالد جون ترامب.. ولد في نيويورك عام 1946م، وتخرج 1968م في جامعة بنسيلفانيا ببكالوريوس اقتصاد. وفي 1971م تولى إدارة أعمال العقارات لعائلته. واشتغل بالسياسة منذ عام 2000م، وفي 2016م دخل الانتخابات ففاز ليصبح أول رئيس من خارج دائرتي السياسة والعسكرة.
أدمن ترامب على اتخاذ القرارات المثيرة للجدل.. ففي إدارته الأولى: حظر السفر إلى أمريكا على مواطني بعض دول الأغلبية المسلمة، وحاول بناء جدار على الحدود مع المكسيك، وعمل على الفصل العائلي للمهاجرين، وألغى التأمين الصحي الإجباري، وفشل في مكافحة جائحة كورونا «كفيد19»، وانسحب من اتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، والمفاوضات التجارية لاتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادي. وبعد نهاية إدارته رفض مغادرة البيت الأبيض، واحتل أتباعه الكونجرس. ثم واصل الترويج لنفسه لدورة جديدة عقب جون بايدن، وفاز في انتخابات 2024م، ليصبح ثاني رئيس أمريكي يُنتخب لإدارتين غير متتاليتين بعد جروفر كليفلاند (ت:1908م).
بداية إدارته الحالية.. وقّع ترامب على عشرات القرارات المقلقة، أبرزها ما يتعلق برفع التعريفات الجمركية على الدول؛ فأعاد جدولة الضرائب معها، ورفعها إلى ما بين 10-34٪، وكان أعلاها مع الصين، مما أدخل البلدين في «حرب التعريفات الجمركية المتبادلة». كما أنه يسعى إلى خفض قيمة الدولار؛ لخفض قيمة البضائع المستوردة، ورفع قيمة البضائع المصدرة، بيد أن هذه الخطوة لو طبقت؛ ستؤدي إلى اختلال موازين القوى؛ الاقتصادية والسياسية، مع احتمال أن تتراجع أمريكا عن صدارتها العالمية في الاقتصاد، وبالتالي؛ قد تفقد موقع الصدارة على الخارطة الجيوسياسية.
يذكر الإعلامي المصري سيد جبيل بأن هناك عقائد تسير وفقها السياسة الأمريكية؛ منها: «عقيدة منرو» للرئيس جيمس منرو عام 1823م التي تحرّم على الأوروبيين التدخل في الأمريكيتين. و«عقيدة ترومان» بعد الحرب العالمية الثانية؛ وهي أن على أمريكا دعم الدول التي تواجه الشيوعية. و«عقيدة نيكسون»؛ عدم خوض أمريكا المعارك عن حلفائها، مكتفية بدعهم. و«عقيدة كارتر»؛ بأن لأمريكا التدخل لحماية حلفائها في الخليج العربي.
أما الرئيس ترامب -بحسب رأي جبيل- فقد اختار «مدرسة جاكسون»، التي ارتبطت بالرئيس الأمريكي السابع أندرو جاكسون (ت:1845م)، وهي عقيدة تقوم على أساس بناء أمريكا أولًا دون الاهتمام بالعالم، إلا ما كان ضروريًا لها. ولتحقيق هذه العقيدة يرى ترامب أن على أمريكا ألا تقدّم للآخرين شيئًا دون مقابل، سواءً في الحروب أم الاقتصاد أم السياسة، أم الجوانب الإنسانية؛ ولذا أصدر قرار منع السماح بالهجرة إلى أمريكا على بعض الدول؛ وإن كان لدواعٍ إنسانية، حتى اتهم بالعنصرية. ولم يبالِ بالأنظمة الدولية؛ وفي مقدمتها الأمم المتحدة وقراراتها، فانسحب من بعض مؤسساتها وبرامجها.. بل إن الأوروبيين حلفاء أمريكا الدائمين اتبع اتجاههم سياسة فاترة؛ بما فيهم الأوكرانيون في حربهم مع الروس.
والسؤال: ما الجذر النفس الاجتماعي الذي دعا ترامب أن يتبنى نظام التفاهة؟ بنظري؛ يعود ذلك إلى الستينات الميلادية، كان ترامب شابًا حينها؛ عندما انتشرت «حركة الهيبيز»، وهي حركة مثّلت نموذجًا شعبيا لنظام التفاهة لِمَا قبل العصر الرقمي، وجذرًا مؤسسًا لهذا العصر، - الفردانية.. من ثورة التلفزيون حتى ثورة الإنترنت، «عمان»، 24/ 1/ 2022م - ، فقد أثّرت على تفكير ترامب بمنهجها، وإن اختلفت الممارسات.
فالحركة الهيبيزية.. «ثورة» على المجتمع الليبرالي، لم تبالِ بقيمه الأخلاقية، وكان أصحابها مقتنعون بصواب تصرفاتهم؛ ويضحّون لأجل التغيير. وكذلك ترامب؛ يتخذ قراراته دون مبالاة بردود فعل السياسة العالمية، ولا بالتقاليد الأمريكية؛ السياسية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية، حيث يتخذها وهو مقتنع أنه يفعل ذلك لصالح أمريكا.
الهيبيزية.. وُصِفتْ باللاأخلاقية عند خصومها بسبب مناهضتها الأعراف الاجتماعية القائمة على الليبرالية، وترامب.. لا يراعي أعراف السياسة المعهودة، فيتخذ قرارات صادمة للضمير، ولو وصل الأمر إلى اتخاذ مواقف عنصرية ضد الأجانب، والتصريح بتهجير أهل غزة المنكوبين بالإبادة الصهيونية من بلادهم.
بالنسبة لسعي ترامب إلى الإثراء المباشر فهذا واضح، فقد جعل همه جلب الصفقات بتريليونات الدولارات، ورفع التعريفات الجمركية على دول العالم. أما الهيبيزية فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ عندما ثارت على استعمال النقد ذاته، لتكون الموارد مشاعةً بين البشر، فكلاهما اتخذ موقفًا سلبيًا من ثروات الآخرين.
هذا البُعد الجذري لتصرفات ترامب، والتي أصبحت «ظاهرة ترامبية» لها مؤيدوها في أمريكا والغرب، لاحظها الفيلسوف الروسي الكسندر دوجين «عقل بوتين»، فرأى في قرارات ترامب «ثورة على المؤسسة الليبرالية» التي شكّلت «الدولة العميقة» في أمريكا والغرب، تمامًا كما فعلت الحركة الهيبيزية خلال فورتها في ستينات القرن العشرين الميلادي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نظام التفاهة
إقرأ أيضاً:
قصر طائر بـ”نصف مليار $”.. هذه هي الطائرة التي أهدتها قطر لترامب (صور)
الجديد برس|
بعد ظهور تقارير إعلامية تفيد بتقديم قطر طائرة “بوينغ” فاخرة لتستخدم كطائرة رئاسية، دافع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحد عن خططه لقبولها كـ”هدية”، فيما نفت قطر أن تكون الطائرة “هدية” أو أنه تم اتخاذ قرار نهائي بهذا الشأن.
ورجحت شبكة “آيه بي سي نيوز” التي كانت أول من أذاع النبأ أن تكون طائرة البوينغ 8-747 جامبو أثمن هدية تتلقاها الحكومة الأميركية على الإطلاق، حيث وصفتها بأنها “قصر طائر”.
ويحظر الدستور الأميركي تحت بند المكافآت، على المسؤولين الحكوميين قبول هدايا “من أي ملك أو أمير أو دولة أجنبية”.
وفي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، شنّ ترامب هجوما حادا مدعيا أن الطائرة “هدية” مؤقتة ستذهب إلى وزارة الدفاع وستحل مكان طائرة عمرها اربعة عقود.
وأضاف ترامب إن العملية “شفافة”، موجها سهام النقد إلى الديمقراطيين الذين يرغبون في إنفاق المال على طائرة رئاسية جديدة دون داع.
من جانبه، قال علي الأنصاري، الملحق الإعلامي في سفارة قطر في واشنطن “إن النقل المحتمل لطائرة للاستخدام المؤقت كطائرة رئاسية قيد الدراسة حاليا بين وزارة الدفاع القطرية ووزارة الدفاع الأميركية”، مؤكدا أنه لم يتم اتخاذ أي قرار بعد.
واعتبر البيت الأبيض ووزارة العدل أن الهدية قانونية لأنه لم يتم منحها مقابل أي خدمة أو إجراء معين، ما يعني بالتالي أنها ليست رشوة، وفق ما أبلغت مصادر شبكة “آيه بي سي”.