دولة النهر والبحر: من مأمنه يؤتى المركز
تاريخ النشر: 16th, May 2025 GMT
دولة النهر والبحر: من مأمنه يؤتى المركز
فصل من كتابي “من الثورة إلى الحرب: الطريق الوعر لبناء الدولة السودانية” (الموسوعة الصغيرة، 2025). والراغب في الحصول عليه يجده من يوم 17 الجاري في طبعة لكندل على أمازون (9.99$)
23 يناير 2023
بين دعوات تقرير المصير-الانفصال المتكاثرة في السودان بدت الدعوة ل”دولة النهر والبحر” نشازاً.
ليست هذه أول دعوات انفصال “النهر والبحر”، إذا استخدمنا العبارة الطارئة، حيال نهوض قوى الهامش بالسلاح وغير السلاح لتقرير المصير. فكان في المركز، الذي يتشكل افتراضاً من أهل النهر والبحر، حشمة وطنية تمسكت بها بوحدة البلاد صدقت أم لم تصدق. ومع ذلك صدع بالدعوة للانفصال أفراد أو جماعات منه هنا أو هناك. وكان خطابهم بالانفصال مع ذلك هامشياً على حواف خطاب الوحدة.
ومن المؤسف أن كانت هامشية خطاب انفصال النهر والبحر هذه سبباً لإهماله إن لم نقل تكفيره. وبلغ ذلك الإهمال حداً تمنى أجنبي مختص في الدراسات السودانية يوماً لو كان له ممثلون في مؤتمر انعقد لمناقشة مسألة جنوب السودان في النصف الثاني من الثمانينيات، فقال إنه وجهة نظر استحق أن نستمع إليها في مناقشة انعقدت عن مآلات البلد.
ثم خرج هذه الخطاب للعلن في أعقاب اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005 من فوق منصة حزبية جهيرة هي منبر السلام العادل. وتزعم المنبر الطيب مصطفى بعد أن كان فارق إخوانه في المؤتمر الوطني، حزب دولة الإنقاذ. وأصدر صحيفة “الانتباهة” التي جعلت انفصال الجنوب من الشمال، أو العكس، خطها لا محيد عنه. وكانت الصحيفة الأولى توزيعاً في جنوب السودان قبل شماله. واشتهر عن الطيب، الذي رحل عنا خلال جائحة كورونا، أنه ذبح ثوراً أسود يوم اختار الجنوب الانفصال كرامة رفعت البلاءـ أو كما قال.
مما يزكي الاهتمام السياسي والفكري النافذ بدعوة النهر والبحر وسياساتها أن خطاب الانفصال الشمالي ما يزال مما يدير عنه قادة الرأي والسياسة وجههم إلى الناحية الأخرى متى طرأ. فلم نتعلم من وقوع انفصال الجنوب الفاجع (لأسباب لعل أهونها الطيب ومنبره وصحيفته) دروسه في بناء الوطن.
وسيظهر لك فشلنا في استيعاب هذه الدروس في الوحدة الوطنية متى استمعنا إلى خطاب النهر والبحر في الوسائط الاجتماعية. فتجد دعاته يقفون على مقدمات صحيحة إلا أنها تسوقهم إلى نتائج وخيمة من جراء تاريخ معاصر للسودان مشوش أو عشوائي. فهم يبدأون من حقيقة أن السودان مما جمع فيه الاستعمار، سجن الشعوب في قولهم، أخلاطاً من شعوب وقبائل متباينة تاريخاً وثقافة. وهذا من المعلوم بالضرورة عن الاستعمار الذي اصطنع أكثر حدود أفريقيا في مؤتمر برلين 1985 الذي تجاحد فيه الأوربيون حول تملك أراضي أفريقيا.
ومع هذا ربما كان السودان أقل الدول تضرراً من اصطناع الحدود. فجغرافيا السودان الحالي، تزيد أو تنقص، تاريخية. فهو بلد موروث من دولة الخلافة التركية (1821-1881) ومن دولة وطنية هي المهدية (1881-1889) تطابقت في كليهما الحدود بصورة لا بأس بها. وجاء الاستعمار الإنجليزي علناً لاستعادة السودان كما عرفناه كما سنرى.
فإذا صح خطاب النهر والبحر في المقدمة عن اصطناع الاستعمار لحدود مستعمراته نجده أخطأ الاستنتاج منه. فمن رأيهم أن الإنجليز قصدوا من هذا الخلط إرباك الدول التي اصطنعها متى ما خرج منها. فالخلط في نظرهم “مقلب” ظللنا نعاني ويلاته حرباً ذات كلفة عالية في النفس والمال. وعقيدة النهر والبحر أن بالسودان هويتين: زنجية تنتمي إلى أفق أفريقي ونهرية تنتمي لمصر والحجاز والبحر الأبيض المتوسط. ودارفور عندهم مما انتمى إلى الأفق الأفريقي. فظلت قائمة على مملكتها التاريخية بعد غزو الإنجليز للسودان في 1898. ولم يتفق للإنجليز ضمها للسودان إلا في 1916. ويتخذ دعاة النهر والبحر من تأخر دارفور في الوفود إلى السودان حجة على أنها لم تنتم إليه إلا عن طريق الخطأ في أحسن الأحوال.
سبقت دعوة النهر والبحر دعوة مماثلة في 2010 عرفت بـ “العرنوبية”، وتمثلت جغرافيا هذه الدعوة في فضاء النهر والبحر نفسه. غير أن اسمها راجع إلى ثقافة هذا الفضاء التي هي مزيج من ثقافة العرب المسلمين الوافدة للسودان منذ القرن التاسع الميلادي وشعب النوبة والبجا التاريخي. وهذه الهجنة هي الحبل السري الحضاري لشعوب العرنوبية، والتي تشكل أساساً لقيام دولة قومية منهم. والعرنوبية حالة زهد في الوطن السوداني الواحد سبقت النهر والبحر. ونفى منظروها أن دعوتهم عرقية؛ فهامش الوطن، في قولهم، قد رفع السلاح طلباً لتقرير المصير بينما يتعلل الشمال بأنه، متى سقطت حكوماتهم الديكتاتورية، تراضى الجميع على الوحدة الوطنية. وهذه في نظر الداعين للعرنوبية خطة كاسدة. فلن يتعافى الانفصالي من انفصاليته، ولا غضاضة.
وأكثر زهادة النهر والبحر في الوطن هي نقص حاد في التاريخ. وسأل أحدهم مرة لماذا لا نحصل على النتيجة المرجوة من ثوراتنا. وكان رده أن سببه التاريخ الغلط الذي نأتي به إليها. فلا يقوم دليل على قول النهر والبحر بأن دارفور زنوجية منبتة عن العرب ودوائرهم في الحجاز والبحر المتوسط. فأقام سلاطين مملكة دارفور علاقات وثقى مع الدولة العثمانية منذ نهايات القرن الثامن عشر اضطربت الروايات عنها. فبينما رأى السلاطين أنها ضمنت استقلال مملكتهم جاءت نصوص صريحة من العثمانيين بتبعية دارفور لمحمد علي باشا. ومن عزة سلاطين دارفور بعلاقتهم بالعثمانيين أن سمى السلطان عبد الرحمن نفسه على أختامه بـ “الرشيد” التي حيّاه بها السلطان سليم الثالث (1789-1807) وهو يتلقى هداياه.
صحيح أن الإنجليز لم يستولوا على دارفور إلا بعد 18 عاماً من “استعادتهم” لمعظم السودان، كما تجري العبارة. ولم يكن تباطؤهم ذلك زهداً في تملك دارفور كأرض سودانية. كان وراء تأخرهم اعتبارات لوجستية وشواغل مع الفرنسيين الذين كانوا عند حدود دارفور الغربية. ولن نفهم ذلك التباطؤ على وجهه الصحيح إلا باعتبار أمرين: أولهما أن الإنجليز أقروا سلطان دارفور عليها شريطة دفع جزية سنوية بمثابة اعتراف بتابعيته لهم؛ والأخير، وهو الأهم، أن اتفاقية الحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر (1899) شملت في السودان المناطق التي سبق للحكومتين “استعادتها” مثل الخرطوم والجزيرة والشرق علاوة على “المناطق التي ستستعيدها الحكومتان معاً” مثل دارفور. فلم يتأخر الإنجليز عن احتلال دارفور سهواً حتى طرأ طارئ قادهم إليه. كانت دارفور في واقع الأمر أرضاً سودانية “استعادتها” للأملاك المصرية فرض وجوب. وصح بذلك النظر في تأخر الإنجليز عن احتلالها في غير ما تهيأ للنهر والبحر، وحتى لانفصاليي دارفور أنفسهم، من أنها إضافة عشوائية للسودان.
ما تزال الدعوة لدولة النهر والبحر خطاباً على الوسائط بين شباب زهد في وطن طالت الحرب فيه واسقمت. ولن تجد صدى لها في دوائر الرأي والفكر المتنفذة. وبدا لي أنها دعوة استقل فيها هؤلاء الشباب بموقف من الوحدة الوطنية حيال مركز منسوبين إليه شاءوا أم أبوا. وكان استقلالهم عن وجهي المركز: وجه مثل دولة الإنقاذ التي أرادت إخضاع الهامش بالحرب الزؤام دون جدوى، ووجه معارضتها التي في الحكم الآن والتي تريد استرضاءه بتنازلات مسرفة مثل اتفاق سلام جوبا. وهو اتفاق في مركز الدائرة في خطاب النهر والبحر. فلم يروا منه دارفور تجنح للسلم إن لم تزداد عنفاً. وكان سبباً للفتنة و”الحسد” التنموي من أقاليم أخرى بما فيها أقاليم النهر والبحر.
بدا لي، فوق كل هذا، أن دولة النهر والبحر لم تفكر بعد إن كانت ستنال انفصالها بيسر متى قررت ذلك من طرف واحد. وصح التحذير من هذه الاستنامة هنا باستعادة كلمة للعقيد جون قرنق. كان، وهو في طور مشروعه لبناء السودان الجديد الموحد بفوهة البندقية، إذا سمع من أحد الشماليين مللاً طالب به بالانفصال من الجنوب، قال له: “خذ سلاحك وأطلع جبل أو غابة أو صحراء وحارب لانفصالك”.
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
عُمان التي أسكتت طبول الحرب
في ركنٍ من هذا العالم العربي الملتهب، حيث تتشابك مصالح الإمبراطوريات وتتصادم استراتيجيات الدول الكبرى على حساب الجغرافيا والتاريخ، هناك دولة اختارت طريقًا مختلفًا.
سلطنة عُمان هذه الواحة الهادئة وسط صحراء النزاعات لم تسمح لنفسها أن تكون بيدقًا في رقعة الشطرنج الدولية، ولم تُبدّد مكانتها في لعبة المحاور والاصطفافات، بل وقفت كـ«السيدة الحكيمة»، كما يسميها المراقبون، تمسح عن الوجوه غبار الحروب، وتفتح للخصوم أبوابًا لم يكونوا يتوقعونها.
في منطقة تتوزعها الرياح بين الطموح النووي الإيراني، والوجود الأمريكي الصارم، والاشتباك العربي المزمن، رفعت سلطنة عمان راية أخرى: راية «الاحترام المشترك»، و«الحوار قبل الضربة»، و«اليد الممدودة بدل الإصبع على الزناد».
وهنا، يكمن الاستثناء العُماني: دولة لم تُقامر يومًا بدماء جيرانها، ولم تبنِ مجدها على ركام الدول الأخرى. بل آمنت أن دورها الحضاري ليس بالتحالف مع الأقوى، بل بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع.
في السادس من مايو، بينما كانت شاشات الأخبار تغرق في صور الانفجارات، وبينما كانت المؤشرات تنذر بتوسّع خطير في الصراع الدائر بين جماعة أنصار الله والتهديدات أمريكية المتصاعدة تجاه استهداف الملاحة الدولية في البحر الأحمر، خرجت مسقط باتفاق ناعم لكنه جلل: وقف إطلاق نار مؤقت بين واشنطن وصنعاء، يضمن سلامة الملاحة، ويمنح للسلام فرصة ليلتقط أنفاسه.
ولم تكن هذه المبادرة وليدة لحظة، بل هي نتيجة شهور من الحوار الصامت الذي أجرته سلطنة عُمان، بهدوء، بعيدًا عن الأضواء، في قنوات خلفية لا تعتمد على التصعيد، بل على بناء الثقة، حجرةً بعد حجرة.
لكن الأمر لم يتوقف عند اليمن.
إذ حملت الأيام التالية مفاجأة أكبر: إيران تُعلن موافقتها على مبادرة عُمانية لاستضافة جولة رابعة من المفاوضات مع الولايات المتحدة.
في وقتٍ كانت فيه التوترات تنذر بالانفجار، وبين تحركات بحرية ومواقف سياسية حادة، قررت طهران أن تستمع لصوت مسقط.
لماذا؟ لأن هذه الدولة التي لا تلوّح بالقوة، تملك ما هو أثمن من ذلك: تملك المصداقية.
لقد فهمت سلطنة عمان منذ بداية الجمهورية الإسلامية في إيران، ومنذ لحظة دخول الأساطيل الأمريكية للخليج، أن دورها ليس الوقوف في الضد، بل الوقوف في المنتصف، لا كحياد باهت، بل كوسيط نشط، بكرامة وهدوء.
فما الذي يجعل هذا البلد العملاق برسالته، ينجح فيما فشلت فيه دول كبرى، ذات أبواق وسفارات وميزانيات مهولة؟ الجواب، ببساطة، إنه لا يُمارس السياسة من أجل العنوان، بل من أجل الغاية.
ففي السياسة كما في الطب، لا يحتاج الطبيب الجيد إلى صخب، بل إلى يد ثابتة ونية خيّرة.
وهذا ما فعلته سلطنة عُمان.
اقتربت من الجراح وهي تهمس لا تصرخ، ووضعت الضمادة لا الحطب.
لقد وُلدت هذه الفلسفة من تاريخ طويل في العلاقات الإنسانية والسياسية.
فسلطنة عُمان، التي تفتح أبوابها للحجاج والدبلوماسيين على حد سواء، تعرف أن الكلمة الطيبة تُغيّر العالم أكثر مما يفعل الرصاص.
عرفت ذلك عندما وقفت على مسافة متزنة من كل صراعات المنطقة، وعندما شاركت في مساعي الاتفاق النووي مع إيران، وعندما رفضت أن تدخل تحالفات استنزفت الدول وأغرقتها في الرمال.
عُمان لا تُراهن على النصر، بل على النُبل.
لا تُقايض بالتحالفات، بل تُبادر بالثقة.
لا ترفع شعارات، بل ترسم جسورًا.
وفي لحظةٍ يخشى فيها العالم اندلاع حربٍ جديدة بين قوى كبرى، تُطفئ مسقط الشرارة قبل أن تصبح نارًا.
تجمع طهران وواشنطن تحت سقف واحد، لا لتفرض رأيًا، بل لتفتح نافذة.
هذا المقال ليس تمجيدًا لدبلوماسية، بل احتفاء بأخلاق دولة.
بدولةٍ فهمت أن القيادة لا تحتاج صراخًا، بل رقيًّا.
وأن التاريخ لا يخلّد الأصوات العالية، بل الأفعال العظيمة التي تمشي على أطراف الأصابع.
تحية إلى عُمان، دولة الأفعال الهادئة التي كلما اقتربت الحرب، قررت أن تكتب فصلًا جديدًا للسلام.