التدريب لا يصنع المعجزات.. بل يبني الوعي
تاريخ النشر: 17th, May 2025 GMT
غزلان بنت علي البلوشية
لم يعد التدريب اليوم مجرد محطة يقف عندها الشباب لجمع الشهادات أو اجتياز عقبة في طريق التوظيف. بل تحوّل في ظل التغيرات المتسارعة في العالم المهني والاقتصادي إلى أداة وجودية، تعكس علاقة الفرد بنفسه، وتفضح عمق وعيه بما يريد، وكيف يصل إليه، ولماذا يسعى أصلًا.
لقد أفرزت السنوات الأخيرة ظاهرة باتت مقلقة: شبابٌ يتنقلون من دورة لأخرى، ومن شهادة لأخرى، دون أن يتحقق فيهم التغيير الحقيقي.
التدريب الفعّال لا يُقاس بعدد الحاضرين، ولا بكمية المحتوى، بل بقدرته على تفكيك الصورة الذهنية القديمة عن الذات، وإعادة تركيبها بوعيٍ جديد. هو تدريب لا يُلقّن، بل يُحرّك الداخل، ويوقظ الإمكانات، ويخلق مسارًا واضحًا بين الشخص وسوق العمل، لا مسارًا بين الكرسي والشهادة.
في مجتمعاتنا، ما زال كثير من الشباب يركض خلف الرغبات الآنية، ويُهمل أساسيات الاستدامة الشخصية والمهنية. يغيب عنهم التقييم المالي الذاتي، ولا يُدركون أن القرارات المتسرعة، حتى وإن غُلّفت بلغة التطوير، قد تكون سببًا في ترسيخ الفشل بدل كسره.
من هنا، فإن إعادة تعريف التدريب كأداة للتوجيه المهني والتحليل الذاتي والتخطيط الواقعي، أصبح ضرورة وطنية وإنسانية. لا نريد شبابًا أكثر شهادات، بل نريد شبابًا أكثر وعيًا بذاتهم، بمسؤولياتهم، وبحجم الأثر الذي يمكن أن يحدثوه حين يعرفون من هم، وإلى أين يتجهون.
في الوقت الذي أصبح فيه التدريب عنوانًا شائعًا بين الشباب، لا تزال الفجوة كبيرة بين ما يُقدّم في بعض البرامج وبين الواقع الذي يعيشه المتدرّب بعد خروجه إلى سوق العمل. كثيرٌ من الشباب يدخلون عالم التدريب بدافع الرغبة في التحسين، لكنهم يخرجون منه دون أدوات تحليل ذاتي حقيقية، أو دون بوصلة واضحة ترشدهم في قراراتهم. النتيجة؟ مشاريع عشوائية، استهلاك مفرط، وانتظار طويل لفرص قد لا تأتي.
لقد أصبح تأثير وسائل التواصل الاجتماعي عاملًا مباشرًا في صياغة وعي جيل كامل. منصات مليئة بإعلانات "الثراء السريع"، و"النجاح في أسبوع"، والمنتجات التي تُروّج وكأن السعادة تُشترى. في وسط هذا الزخم، يبدأ الشاب في تغليب الرغبة على الحاجة، والمتعة الفورية على التخطيط المستقبلي. فيصرف ما في الجيب، بحثًا عن رضا سريع أو مظهر اجتماعي زائف، دون أن يدرك أن هذا النمط الاستهلاكي قد يجره إلى أزمات يصعب الخروج منها.
إنَّ التوازن هنا ليس حرمانًا، بل حماية. فالفرد الذي لا يعرف كيف يدير دخله، ولا يملك تصورًا واقعيًا عن مستقبله المهني، سيجد نفسه عاجزًا أمام أول أزمة مالية أو شخصية، كما حدث مع آلاف الشباب في زمن كورونا. لقد كشفت تلك المرحلة هشاشة القرارات غير المدروسة، والمشاريع القائمة على الاندفاع، وعدم وجود خطط بديلة أو وعي مالي حقيقي.
ولعل أبرز ما يغيب عن تجارب كثير من المتدرّبين اليوم، هو التحليل المالي الشخصي. قليلٌ من الشباب من يعرف كم يصرف، ولماذا، وما العائد من ذلك. ينطلق البعض في تأسيس مشاريع صغيرة بدافع الشغف، دون فهم دقيق لجوانب التمويل، التكاليف، أو آليات السوق، فيسقطون سريعًا عند أول تحدٍ. والأسوأ أن البعض يعتبر الفشل أمرًا عابرًا، فيُعيد التجربة دون مراجعة أو تصحيح، مما يرسّخ الإحباط ويفقد الثقة بالنفس.
لهذا، يجب أن يُعاد بناء مفهوم التدريب ليشمل أكثر من مجرد تنمية المهارات. التدريب الفعّال يجب أن يُدمج مع استشارات مهنية وشخصية حقيقية، وتوعية مالية مدروسة، تُعلّم الشاب كيف يفكر، لا فقط كيف يعمل. ما يحتاجه الجيل الحالي ليس دافعًا لاستهلاك أكثر، بل وعيًا أعمق، يساعده على فهم نفسه، وتحديد أولوياته، وبناء قراراته على أساس من الاستدامة، لا الرغبة المؤقتة.
الشباب في كثير من الأحيان يفتقرون إلى التوجيه المهني الفعّال، فيقعون في فخ العمل في مجالات لا تناسبهم، أو إطلاق مشاريع غير مدروسة، ما يؤدي إلى ضياع الموارد والطاقة. التدريب هنا يجب أن يكون مصحوبًا باستشارات مهنية وشخصية مدروسة، تساعد الفرد على الإجابة عن أسئلة أساسية: من أنا؟ ماذا أريد؟ ما المهارات التي أحتاجها؟ ما طبيعة السوق؟ كيف أستعد نفسيًا ومهنيًا لاقتحامه؟
ومن أبرز الثغرات التي يقع فيها كثير من الشباب بعد التدريب، هي ضعف التحليل المالي، سواء على مستوى المصروف الشخصي أو على مستوى تأسيس مشروع. فيركض البعض خلف الرغبات والاستهلاك أو المشاريع السريعة دون أن يمتلكوا وعيًا حقيقيًا بجدوى ما يُقدمون عليه، فيصبح التدريب بلا أثر، والنتائج مؤقتة وهشة.
نصيحة من ذهب
لا تجعل التدريب محطة عبور مؤقتة، بل اجعل منه مرآة تراجع بها ذاتك، وتكتشف من خلالها إمكاناتك الحقيقية. لا تنخدع ببريق الشهادات ولا عدد الساعات، فالعبرة ليست فيما تحمله في ملفك، بل فيما تحمله في وعيك. درّب نفسك أولًا على أن تفكّر، لا فقط أن تتلقى. أن تُحلّل، لا أن تُقلّد. وأن تُخطّط، لا أن تندفع.
الحياة اليوم لا ترحم من يركض وراء الرغبات المؤقتة، ولا تنتظر من يجهل طريقه. اجعل من كل تدريب تخوضه فرصة لتعيد هندسة علاقتك مع ذاتك، مع مالك، ومع مستقبلك. حينها فقط، ستحوّل التدريب إلى خطوة نحو التمكين، لا مجرد لحظة عابرة على ورقة مطبوعة.
وفي الختام..
التدريب ليس حلًا سحريًا؛ بل هو نقطة بداية، يشترط أن تُبنى على وعي داخلي واستعداد فكري ونفسي. في زمن يعجّ بالتحديات والتقلّبات، لم يعد كافيًا أن نعلّم الشباب مهارات العمل، بل أصبح واجبًا أن نعلّمهم كيف يقرؤون أنفسهم، وكيف يتعاملون مع المال، وكيف يصنعون قراراتهم بوعي واستدامة.
إذا ما أردنا فعلًا بناء جيلٍ منتج، مستقل، ومسؤول، فعلينا أن ننتقل من التدريب الذي يُلقَّن، إلى التدريب الذي يُحفّز، ويُوجّه، ويُحلّل. تدريب يعيد للفرد علاقته بنفسه، ويمنحه أدوات الرؤية لا أدوات التكرار؛ فالمستقبل لا ينتظر المترددين؛ بل يصنعه أولئك الذين عرفوا من هم، وماذا يريدون، وكيف يبدؤون من أنفسهم، لا من انتظار الفرص.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مجموعة المعارف تستحوذ على مجموعة بيز لتعزيز إمكانات التدريب والتطوير الإقليمية
أعلنت "مجموعة المعارف"، الشركة الإقليمية التابعة لــ "نما للتعليم" والرائدة في مجالات التدريب والتطوير والاستشارات الاستراتيجية للمؤسسات والأفراد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عن استحواذها على "مجموعة بيز"، واحد من كبرى شركات التدريب والتطوير في المنطقة، وذلك في خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز حضور "مجموعة المعارف" الإقليمي، وتوسيع نطاق الحلول التدريبية والاستشارية التي توفرها لا سيّما في مجالات التعلم الرقمي وتسخير التقنيات الثورية مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي وغيرها.
وبحضور عدد من القيادات التنفيذية من الطرفين، وقع الاتفاقية الدكتور علي سعيد بن حرمل الظاهري، رئيس مجلس إدارة "نما للتعليم"، وهازل جاكسون، المؤسس والرئيس التنفيذي لمجموعة "بيز".
وبفضل خبراتها الواسعة التي تمتد لثلاثة عقود في تقديم تجارب تطويرية فعّالة في القطاعين العام والخاص، ستساهم "مجموعة بيز" في تحقيق إضافة نوعية لجهود "مجموعة المعارف" في الارتقاء بالإمكانات والكفاءات البشرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجاهزيتها لمواجهة التحديات واغتنام الفرصة السانحة من خلال حلول تدريبية واستشارية فعّالة ومبتكرة.
وعقب الاستحواذ، ستواصل المجموعتان العمل تحت فرق القيادة ذاتها واسميهما التجاريين الحاليين مما يضمن استمرارية الأعمال لجميع العملاء والشركاء.
أخبار ذات صلةوفي هذا الصدد، قال الدكتور علي سعيد بن حرمل الظاهري، رئيس مجلس إدارة "مجموعة المعارف": "إن استثمارنا في مجموعة بيز يأتي تماشياً مع رؤيتنا طويلة الأمد الرامية إلى رسم ملامح مستقبل التدريب والتطوير المهني في المنطقة، ونتطلع من خلال دمج الإمكانات الاستراتيجية التي تتمتع بها مجموعة المعارف مع الخبرات الطويلة وتجارب التعلم المبتكرة التي توفرها مجموعة بيز إلى إرساء منصة فعّالة ومتميزة لتمكين الأفراد والمؤسسات من الازدهار والنمو في عالم متسارع التغيير، وذلك في خطوة تعكس إيماننا المتواصل بأهمية التعاون وتوحيد الإمكانات لقيادة لتحقيق تأثير مستدام في شتى المجالات."
وقالت هازل جاكسون، المؤسس والرئيس التنفيذي لمجموعة بيز: "نعتز بما حققته "مجموعة بيز" على مدار الثلاثين عاماً الماضية، في حين يُمثل توحيد جهودنا مع "مجموعة المعارف" خطوةً محوريةً تُمكّننا من توسيع نطاق عملنا وانتشارنا ومواصلة تقديم تجارب تعلمية تحويلية، متطلعين إلى نشهد الإمكانات والآفاق الجديدة التي يتيحها هذا الاستحواذ."
من جهته، قال الدكتور أحمد بدر، الرئيس التنفيذي لـ"مجموعة المعارف": "تُعد مجموعة المعارف من بين المؤسسات الرائدة في تقديم خدمات تدريبية واستشارية عالية الجودة تلبي احتياجات القطاعات الاستراتيجية. واليوم، نعتز بتوحيد جهودنا مع مجموعة بيز لنوسع نطاق خدماتنا لتحاكي احتياجات العملاء وتوفر حلولاً مبتكرة قائمة على التكنولوجيا والتحول الرقمي وتقنيات الذكاء الاصطناعي وترتقي بكفاءة الخدمات التي نقدمها للشركاء في القطاعين العام والخاص."
وتلتزم "مجموعة المعارف" بدعم المؤسسات الحكومية والخاصة في المنطقة من خلال تقديم حلول مبتكرة ومخصصة تسهم في تعزيز الأداء المؤسسي وتحقيق التنمية المستدامة. وتسعى المجموعة إلى تطوير حلول تدريبية واستشارية فعّالة تستجيب للتطورات المتسارعة وتلبي احتياجات القطاعات المختلفة، مما يمكّن المؤسسات من تحقيق الريادة الإقليمية والدولية. وتشمل خدمات "مجموعة المعارف" حلولًا متكاملة تغطي مجالات التدريب والتطوير، والاستشارات الاستراتيجية، وتقييم المواهب، والتعلم التحويلي وحلول الدفاع والأمن. وبفضل شراكاتها مع نخبة من كليات الأعمال العالمية والجمعيات المهنية المعتمدة على المستويين المحلي والدولي، تواصل المجموعة تقديم حلول تدريبية فعّالة تسهم في تحقيق أهداف المؤسسات وتعزيز تنافسيتها عالمياً.
المصدر: الاتحاد - أبوظبي