تتشابه جولات الباطل في سعيها لحجب أنوار الحق، بل قد ينتفش الباطل ويظهر زبده مؤقتا، حتى تأتي صولة الحق فتجعله جفاء وتصيبه في مقتل "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ" (الأنبياء: 18).
ومن أطول جولات الباطل في مجابهة دعوة النبي ﷺ، فترة حصاره مع أصحابه وعشيرته في شِعب أبي طالب، والتي بدأت في العام السابع من البعثة النبوية، وانتهت في المحرم من العام العاشر للبعثة.
وكان لسان حالهم جميعا ما قاله شيخهم أبوطالب ردا على طلب قريش البغيض:
ونسلمه حتى نقتل دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا أبو لهب بن عبد المطلب، وقد أثنت على موقفه هذا هند بنت عتبة قائلة: لقد نصرت اللات والعزى يا أبا عتبة.
واشتد الحصار على أهل الشِعب حتى أكلوا ورق الشجر وتقرحت أشداقهم، نظرا لإحكام الحصار وتفقد أبو جهل للمنافذ، وإحكامه في إغلاق المعابر، منعا لتسريب أي شيء يحفظ على المحاصرين حياتهم، وما يسرب خفية كان نادرا في غفلة حراس القطيعة، ومن المرات التي انكشف فيها الأمر، أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحا، يريد به عمته خديجة رضي الله عنها، وهي في الشعب فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله؟ قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! قال: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل. ونال منه أبو البختري وتفوق عليه، ومن هنا بدأت فكرة السعي إلى كسر الحصار، والوقوف أمام جهالة أبي جهل ومن معه ممن قبلوا فكرة حصار الأشقاء!
العادة في كل مشاريع التغيير، أن تبدأ فكرة -وما أكثر الأفكار والمفكرين- ولكن الذي يصنع الفارق هو من يملك القدرة على الحركة والتأثير، وما فعله أبو البختري بأبي جهل جعل غيره يقول ولِمَ لا؟ ولماذا لا نوسع الفكرة إلى كسر الحصار بالكلية؟ وكانت البداية هذه المرة مع هشام بن عمرو، وهو رجل من بني عامر بن لؤي، واختار أن يكون أول من يفاتحه في الأمر هو زهير بن أمية المخزومي، وذلك لسببين:
الأول: لأنه من بني مخروم الذين ينتسب إليهم أبو جهل حامي حمى الحصار "ولا يهز الشجرة إلا فرع منها".
الثاني: أن أمه هي عاتكة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله ﷺ، لذا ضرب له على وتر الحمية فقال له: إننا نأكل ونشرب وأخوالك لا طعام لهم ولا شراب، لو كانوا أخوال أبي الحكم لما رضي لهم ذلك.
فقال زهير: وماذا أفعل وأنا وحدي، فقال هشام بن عمرو: أنا معك على هذا، فقال له: ابغنا ثالثا، وهنا وقع اختيار هشام على المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، صاحب المواقف الكريمة، والمكانة في قريش، والمنزلة في بني عبد مناف الذي يشترك فيه مع رسول الله ﷺ، فوافق ولكن قال: ابغنا رابعا، فتوجه هشام إلى أبي البختري بن هشام واسمه العاص، وقد سبق موقفه مع حكيم بن حزام، وهو من بني أسد، رهط خديجة أم المؤمنين الأولى رضي الله عنها، لذا قبل الدعوة على الفور وطلب خامسا، فكان ابن عمه زمعة بن الأسود الأسدي، وتمت به العِدة، وأعدوا لذلك العُدة ووضعوا الخطة واجتمع الرجال الخمسة، واتفقوا على نقض صحيفة القطيعة وميثاق الحصار، وقال زهير بن أمية: "أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم".
ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له فقال: "يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع لهم ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة. وهنا قام له أبو جهل، زعيم القطيعة وحارس المعبر، فرد بغلظته المعهودة، فقال: "كذبت، والله لا تشق". فقام زمعة بن الأسود الأسدي وقال: "أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت"، ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال: "صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به"، ومن بعده قام المطعم بن عديّ وقال: "صدقتما وكذب من قال غير ذلك (يقصد أبا جهل)، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها". وهنا قام صاحب المبادرة هشام بن عمرو فقال مثل ما قاله المطعم، وصدّق المطالبين بنقض الصحيفة، فوجد أبو جهل نفسه محاصرا بآراء خمسة من الوجهاء وأصحاب الكلمة، فأدرك حينها أن هذا ليس مصادفة، فقال: "هذا أمر قُضِي بليل"!
وأبو طالب عم النبي ﷺ، جالس في ناحية المسجد، حيث أخبره رسول الله ﷺ بما أطلعه الله عليه من أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة (حشرة مثل النملة)، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله -عز وجل- فأخبر بذلك عمه، فتكلم أبو طالب بما أخبره به ابن أخيه، ثم قال: فإن كان كاذبا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت.
وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: "باسمك اللهم"، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله، ثم نقض الصحيفة، وخرج رسول الله ﷺ ومن معه من الشِعب.
على هامش هذه الواقعة الكبيرة نذكر أمورا تتم بها الفائدة:
أولا: طوال مدة الحصار لم يرجع أحد من المحاصرين عن موقفه، ولا تململ عن مبدئه، بما في ذلك كفار بني هاشم.
ثانيا: لم يكن الأمر مجرد قرار تعاطف من بني هاشم مع ابن أخيهم بل تعدى لفدائه بأنفسهم، فقد كان أبو طالب يغير مكان نوم رسول الله ﷺ بعدما يأخذ الناس مضاجعهم، ويأمر من ينام في مكانه الأول.
ثالثا: النخوة العربية والحمية القبلية -إن كان لها بقية- يمكن توجيهها للنفع ودفع الضر.
رابعا: بدأ أبوطالب مشواره مع ابن أخيه محمد بن عبد الله بالرعاية والعناية، وكبر ذلك معه وما انفك عنه إلى أن مات، حتى قال رسول الله ﷺ: ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.
خامسا: المواقف العظيمة يقوم بها أصحاب النفوس الكبيرة، وحسن اختيار الأعوان هو أول درجات النجاح وإدراك الغاية.
سادسا: تأخر إسلام صاحب المبادرة هشام بن عمرو إلى فتح مكة، ولم يسلم من أصحابه إلا زهير بن أمية المخزومي.
سابعا: خرج أبو البختري بن هشام مع قريش لقتال رسول الله ﷺ في غزوة بدر، فقال عليه الصلاة والسلام من لقي أبا البختري فلا يقتله، وذلك تقديرا لموقفه الكريم، وكان من أكف الناس عن رسول الله ﷺ، وفي الغزوة نفسها تذكر عليه الصلاة والسلام مواقف المطعم بن عدي وقال: "لَوْ كَانَ المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لَتركتهم له". وفي ذلك أبلغ الدروس في رد الجميل لكل من أسدى معروفا.
ثامنا: الحصار أسلوب الفجار قديما وحديثا، ولكن أمة الملياري مسلم ليس فيها خمسة كأصحاب هشام بن عمرو "الكفار" يقفون أمام عنجيهة أبي جهل، لكسر الحصار عن غزة مراعاة لحق الجوار ورباط العقيدة، فقد أصبحنا في منزلة بين المنزلتين، فلا هي إخوة الإسلام ولا حمية الجاهلية!
النداء الأخير لأمة الإسلام:
إن استمرار العجز مؤذن بسنة الاستبدال، والسنن الكونية لا تحابي أحدا "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم" (محمد: 38). أما أهل غزة فهم على يقين بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات النبي حصاره مكة غزة غزة مكة حصار النبي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء سياسة سياسة صحافة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رسول الله ﷺ بنی هاشم أبو طالب أبو جهل من بنی
إقرأ أيضاً:
سوء التغذية بغزة يحصد أرواح الكبار والصغار بسبب الحصار الإسرائيلي
في مشهد يجسد حجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة مع استمرار العدوان وإغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية وصل الشاب أيوب صابر أبو الحصين (29 عاما) إلى المستشفى جثة هامدة نتيجة إصابته بسوء تغذية حاد.
وقد نشر الصحفي معاذ أبو طه عبر حسابه على إنستغرام صورة مؤثرة تبرز حجم المجاعة وسوء التغذية الذي يعانيه سكان غزة بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ قرابة السنتين.
View this post on InstagramA post shared by ???? ⚡️معاذ أبوطه moazabutaha (@moaz_abutaha)
ولم تكن الرضيعة جوري استثناء، إذ كانت أيضا ضحية لسوء التغذية.
لا تعلق…. pic.twitter.com/Sm3W5y21Z8
— zahira_Sahran????????????????????????الخاص ممنوع ???? (@bouchraSahrane) June 29, 2025
أما الطفلة أمل البيوك البالغة من العمر 7 سنوات فهي تصارع الموت نتيجة سوء تغذية حاد، حيث انخفض وزنها من 20 كيلوغراما إلى 11 كيلوغراما فقط رغم أنها لم تكن تعاني من أي أمراض سابقة.
وتم وصف حالتها الصحية بالحرجة للغاية، في حين يقف أطباء مستشفى ناصر بمدينة خان يونس عاجزين عن تقديم العلاج اللازم بسبب النقص الشديد في الإمكانيات، وسط تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
الطفلة آمال البيوك (7 أعوام) تصارع المـ ـوت جراء سوء تغذية حاد، أدى لتدهور وزنها من 20 كغم (44 باوند) إلى 11 كغم فقط (24 باوند)، رغم أنها كانت سليمة ومعافاة قبل إغلاق المعابر قبل ثلاثة أشهر. pic.twitter.com/sgoIOeyixf
— Dr. Aya (@iie_011) July 1, 2025
وكتب مدونون في غزة "أنت مخير بين أمرين، إما أن تزحف نحو المواقع العسكرية الإسرائيلية والأميركية -وهي بمثابة مصيدة للأرواح وقتل للجائعين كل يوم- أو أن تبقى مكانك وتموت جوعا أنت وأطفالك".
وعلق آخرون "لست بحاجة لأن أقول إننا في غزة نعيش أقسى أيام الأرض فأنتم ترون وتعرفون.
إعلانلكن ما لا يقال كفاية، وما ينبغي أن يقال الآن وبلا مواربة: بعضنا صار أخطر من الحرب ذاتها، حين يتحول التاجر إلى مستغل، والمواطن إلى مضارب، والبائع إلى محتكر لا تلوموا الاحتلال فقط، بل انظروا في مرآة الخيانة اليومية".
????حليب الأطفال الرضّع ممنوع من الدخول إلى #غزة بفعل الحصار الإسرائيلي ليتحوّل إلى أداة من أدوات الإبادة الجماعية! pic.twitter.com/fJsWrG9HQq
— المرصد الأورومتوسطي (@EuroMedHRAr) June 30, 2025
وأضاف المعلق "في عز انقطاع الحليب هناك من خزنه لبيعه بأضعاف سعره، وفي ذروة الجوع هناك من رفع سعر كيس الدقيق وكأنه يبيعه مغموسا بدم الفقراء، وفي اللحظة التي مات فيها الأطفال من سوء التغذية كان هناك من يتفاوض على سعر العلبة بدل أن يقدمها صدقة لوجه الله".
شام.. طفلة من قطاع غزة،
قد تُفارق الحياة في أي لحظة،
نتيجة التجويع الممنهج والحصار الصهيوني الخانق.
جسدها الهزيل، بطنها المنتفخ، وصرختها التي تمزق القلب…
شهادة حية على جريمة إبادة، تمارسها آلة الاحتلال بحق شعبنا، بالتجويع، والحرمان، إضافة للقصف والقتل الأعمى بالنيران.
شام ليست… pic.twitter.com/QUgNEoUk8M
— رضوان الأخرس (@rdooan) June 28, 2025