لجريدة عمان:
2025-12-14@03:41:32 GMT

في البحث عن نصر أبي زيد (في ذكراه)

تاريخ النشر: 5th, July 2025 GMT

(1)

خمسة عشر عاما بكاملها مرت على رحيل المفكر وأستاذ الدراسات الإسلامية، والباحث شديد التميز والاختلاف الدكتور نصر أبو زيد (1943-2010).

خمسة عشر عامًا، وما زال البحث عن نصر أبو زيد، والبحث عن أفكاره وتصوراته، حول "التجديد" و"التأويل" والبحث عن طريق جديد للخروج من أزمات الفكر العربي وأنفاقه المظلمة، ما زالت مستمرة، بل لعلي أدعي أنها تنامت وتضاعفت، عما كانت عليه في حياته.

ربما جزء من هذا التنامي، وهذا التضاعف والإقبال على قراءته وفهمه وانفتاح الأفق (خاصة بين الشباب) لتقبُّل كثير أو قليل مما طرحه، طوال حياته، حول مفهوم النص والخطاب وقراءة التراث والعلاقة بين واقعنا المعاصر وتراثنا البعيد، وكذلك إشكالات نقد الخطاب الديني وتجديده.. إلخ القضايا الكبرى والإشكالية التي اهتم بها نصر أبو زيد طوال حياته؛ وانشغل بها دراسة وبحثا ومحاضرة وتدريسا وتأليفا.. وبكل أشكال البحث والدراسة والمحاضرة.

أقول إن هذه الأمور جميعا تعود بالتأكيد إلى التطور المذهل في وسائط القراءة والاتصالات والمعلومات. كان من العسير الحصول على نسخة مطبوعة من كتبه في التسعينيات. مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي انتفت محاولات المنع والمصادرة والحصار الذي ضرب حوله كتبه ونصوصه وكل ما من شأنه أن يوضح حقيقة أفكاره وتصوراته.

خلال الفترة (2000-2010)، ثم من (2010-2025) اختلف تماما وكليا استقبال نصر أبو زيد وتلقيه وقراءته في فضاء الثقافة العربية، ولعل دراسة يضطلع بها باحث نابه في مجال "دراسات القراءة ونظرية التلقي" أن يدرس هذا الموضوع يكشف لنا عن التحولات والدوافع والأسباب التي فتحت الفضاء واسعا لإعادة اكتشاف نصر أبو زيد والبحث عنه من جديد.

(2)

كان إنجاز نصر أبو زيد الأكبر طوال حياته، وفي دائرة اشتغاله وإسهامه المعرفي، هي لفت النظر إلى مجموعة من "البديهيات" لم يتوقف عندها الجمهور الأعظم من المتعاطين مع قضايا وإشكالات الفكر الديني، والدراسات الإسلامية (وبخاصة في تقاطعاتها المرتبطة بالحكم والسلطة والهيمنة)؛ منها على سبيل المثال:

حرصه طوال الوقت على التمييز بين "تعليم الدين" باعتباره عقيدة وممارسة طقوسية، وبين "دراسة الدين" باعتباره موضوعًا للبحث، وقد أكد بل شدد على ضرورة عزل هذين الأمرين (تعليم الدين ودراسته) عن التأثيرات والتوظيفات والتدخلات السياسية والإدارية..

في إجابته عن سؤال وجه له، في حوار أجرته معه مجلة "ألف" للبلاغة المقارنة (تصدر سنويا عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة)، عن رأيه في مختلف أنواع الأنظمة التعليمية القومية، وأيها الأنسب أو الأكثر مساعدة في تعليم الدين؟ ولماذا؟ جاءت إجابته على النحو التالي:

يجب التمييز بين "تعليم الدين" وبين "دراسة الدين"، مع التسليم بأن الدراسة خطوة تالية للتعليم (بداهة). لكن يجب التمييز أيضا بين التعليم الديني للمؤمنين، والتعليم الديني الموجه لعموم الطلاب، سواء كانوا من المؤمنين بهذا الدين أم من المؤمنين بدين آخر. وهذا سؤال يجب التعامل معه ومواجهته في المجتمعات الحديثة، شرقًا وغربًا.

"التعليم الديني" يجب أن تقوم به المؤسسات الدينية، بشرط أن تكون مؤسسات مستقلة، أي لا تخضع لضغوط ما، مالية أو إدارية، من خارجها. "تعليم الدين" يبدأ قبل المدرسة، في الأسرة، والانتظام في التعليم الديني يكون في المرحلة الأولى التي تؤهل للانتقال إلى التعليم المدني في المرحلة الثانية.

في هذه المرحلة الثانية، تكون المقررات الدينية عامة أي غير مرتبطة بدين بعينه: تاريخ الفكر الديني، مكونات الثقافة الدينية، الأخلاق، إلخ. وفي التعليم العالي يمكن العودة إلى النظامين معا: التعليم الديني، والتعليم المدني. ولكن بمقاييس الدراسة" وليس بمقاييس "التعليم"، بالمعنى المعمول به في المرحلتين الأولى والثانية.

(3)

وقد أثبتت الأيام خصوصًا بعد محنته التي تعرض لها في تسعينيات القرن الماضي، صدق ما حذر منه وصدق ما نتج عن الخلط والتداخل بين الواقع السياسي والسلطة السياسية، وبين الدين وتوظيفه في الصراع الذي وصل لذروته في العالمين العربي والإسلامي في 2011 وحتى وقتنا هذا.

وقد وضع نصر أبو زيد يده على موضع الداء في أزمة الدراسات الإسلامية و"البحث العلمي" المنهجي في هذه الدائرة، كاشفًا وبجلاء أن أزمة الدراسات الإسلامية في البيئات العربية تكمن في افتقارها إلى النظر النقدي الذي لا يكتمل أي "بحث" إلا به، ولا يكتمل "العلم" بمعناه الحقيقي إلا به.

أكد نصر أبو زيد -مرارًا وتكرارًا- على أن الصراع الناشئ بين المفكرين والباحثين والمثقفين من ذوي النظر النقدي وأصحاب المناهج والرؤى الحديثة والمعاصرة، وبين رجال الدين والوعاظ والقائمين على تراث الفكر الديني كما هو دون اقتراب أو تحليل.. إنما هو صراع ناشئ عن التداخل والالتباس المزعج الصاخب بين السلطة السياسية وسلطة المؤسسات الدينية.

كان أخطر ما تعرض له نصر أبو زيد في مواجهاته الفكرية مع أصحاب الفكر الجامد والمتطرف في ذروة المواجهة بين السلطة السياسية في مصر وبين جماعات الإسلام السياسي وتياراته الحركية المتطرفة، هي التشويه الكامل والمتعمد لأفكاره وتصوراته، وذلك عندما لجأ أنصار هذا الفصيل إلى اقتطاع بعض عباراته ومقولاته وأفكاره عن سياقها، بما يشوهها ويحملها ما لا تحتمله أبدا في سياقها الطبيعي، وقد حلل نصر أبو زيد هذه الآلية الخطيرة في مجمل ممارسات الخطاب الديني "السياسي" منه بالأخص في دراسته المرجعية نقد الخطاب الديني.

(4)

في رصده لـ «آليات الخطاب الديني المعاصر ـ آلياته ومنطلقاته»، وهي واحدة من أهم وأخطر دراسات أبو زيد (منشورة في كتابه «نقد الخطاب الديني») حدد أبو زيد خمس آليات تكشف بجلاء ألاعيب وحيل منتجي خطاب تيار الإسلامي السياسي، وبخاصة تشويه المفاهيم (وفي القلب منها مفهوم "العلمانية" بكامل حمولاته المعرفية وجذوره الفلسفية، وتجلياته الثقافية)، وتحريف مضامينها، وإلباسها ثوبا كريها منفرا يتفق والأهداف التي يتغيونها، يحدد أبو زيد هذه الآليات فيما يلي:

1- التوحيد بين الفكر والدين؛ أي التوحيد بين فهم الإنسان وتفسيره وبين الإسلام كجوهر، فيتحدث عن موقف الإسلام ورؤية الإسلام، وليس فهمه هو أو تفسيره وتأويله لموقف ورؤية الإسلام. وذلك بالرغم من أن الفكر الإسلامي من بدايته يدرك أن هناك مجالًا للوحي، ومجالًا للخبرة الإنسانية، فكان الصحابة يسألون النبي (صلى الله عليه وسلم)، إن كان ما قاله وحي من الله أم هو الرأي والمشورة.

ويكشف أبو زيد أن الخطاب الديني المعاصر في توحيده بين فكره هو وبين الدين، كأنه ضمنيا يتحدث باسم الله، ويُلبس هذا الخطاب قداسة زائفة بغرض الهيمنة على قلوب البسطاء وجمهور المتدينين.

2- رد الظواهر إلى مبدأ واحد، أو بمعنى آخر اختصارها في جانب واحد، فيختصر هذا الخطاب مفهوم "العلمانية"، مثلًا، في مناهضة الدين، ويختزل "الماركسية" في الإلحاد والمادية، و"الدارونية" في حيوانية الإنسان، و"الفرويدية" في الجنس، فيلغي بذلك القوانين الطبيعية والاجتماعية، والسياق الذي ظهرت فيه هذه الظواهر.

3- الآلية الثالثة تعتمد على "تكريس سلطة التراث والسلف"، فيحول السلف واجتهاداتهم إلى نصوصٍ متعالية، غير قابلة للنقاش وإعادة النظر، ويربطها بالدين ذاته، فتكتسب قداسته. وينتقي من التراث ومن السلف، ما يتوافق مع فكره ويهمل بل ويلغي ما يتناقض مع فكره.

4- اليقين الذهني والحسم الفكري، مما يجعله لا يتحمل أي خلاف جذري مع أفكاره، فهو -يرى يقينًا- أنه يمتلك الحقيقة الشاملة، الواضحة، النهائية، غير قابلة للمراجعة والنقاش، حتى وإن اتسع صدره لبعض الخلافات الجزئية.

5- الآلية الأخيرة أن الخطاب الديني المعاصر، يُهدر البعد التاريخي، فيطابق بين النصوص وفهمه لها، مهملًا أن النصوص التراثية لها لغتها وعالمها الذي تنتمي اليه، ويهمل حتى سياق الواقع المعاصر ومشكلاته وهمومه واختلافها عن هموم الماضي ومشكلاته وأسئلته..

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التعلیم الدینی الخطاب الدینی تعلیم الدین نصر أبو زید البحث عن

إقرأ أيضاً:

فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة

منذ يومين مرت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيل رجل من أعظم رجال مصر فى القرن العشرين؛ رجل لم يكن مجرد سياسي أو صاحب منصب، بل كان مدرسة كاملة فى الوطنية والعناد الشريف والإصرار على أن تبقى مصر واقفة مهما حاولت قوى الاحتلال أن تكسر إرادتها. 

أتحدث هنا عن فؤاد باشا سراج الدين، الرجل الذى ترك بصمة لا تمحى فى الوجدان المصرى، والذى رحل عن عالمنا فى التاسع من أغسطس عام 2000، لكنه لم يرحل يوما عن ذاكرة الوطن.

فى كل مرة تمر فيها ذكرى رحيله، أشعر أن مصر تعيد اكتشاف جزء من تاريخها؛ تاريخ لا يمكن فهمه دون الوقوف أمام شخصية بهذا الثقل وبهذه القدرة على الصمود. 

ولد فؤاد باشا سراج الدين سنة 1910 فى كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ، وبدأ مشواره شابا يحمل حلم الوطن فى قلبه قبل أن يحمله على كتفيه. 

تخرج فى كلية الحقوق، ودخل معترك الحياة العامة صغيرا فى السن، لكنه كبير فى العقل والبصيرة، وفى سن لم تكن تسمح لغيره سوى بأن يتدرب أو يتعلم، أصبح أصغر نائب فى تاريخ الحياة البرلمانية المصرية، ثم أصغر وزير فى حكوماتها المتعاقبة، فى زمن لم يكن الوصول فيه إلى المناصب بالأمر السهل ولا بالمجاملات.

لكن ما يجعل الرجل يستحق التوقف أمامه ليس كثرة المناصب، بل طريقة أدائه فيها، فقد كان نموذجا للمسؤول الذى يعرف معنى الدولة، ويؤمن بأن خدمة الناس شرف لا يباع ولا يشترى. 

ومن يعيش تفاصيل تاريخه يدرك أنه لم يكن مجرد جزء من الحياة السياسية، بل كان جزءا من الوعى العام للمصريين، وصوتا قويا فى مواجهة الاحتلال، وسندا لحركة الفدائيين فى القناة، وواحدا من الذين كتبوا بدموعهم وعرقهم تاريخ كفاح هذا الوطن.

ويكفى أن نذكر موقفه الأسطورى يوم 25 يناير 1952، حينما كان وزيرا للداخلية، ورفض الإنذار البريطانى الداعى لاستسلام رجال الشرطة فى الإسماعيلية. 

وقتها لم يتردد لحظة، واختار الكرامة على السلامة، والوطن على الحسابات السياسية، ذلك اليوم لم يصنع فقط ملحمة بطولية، لكنه صنع وجدانا كاملا لأجيال من المصريين، وأصبح عيدا رسميا للشرطة تخليدا لشجاعة رجال رفضوا أن ينحنوا أمام الاحتلال، وهذه الروح لم تكن لتظهر لولا وزير آمن برجاله وبمصر أكثر مما آمن بنفسه.

كما لا يمكن نسيان دوره الحاسم فى إلغاء معاهدة 1936، ودعمه لحركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز، ولا تمويله للفدائيين بالمال والسلاح، كان يعلم أن المستقبل لا يهدى، وإنما ينتزع انتزاعا، وأن السيادة لا تستعاد بالكلام، وإنما بالمواقف.

وفى الداخل، قدم سلسلة من القوانين التى شكلت تحولا اجتماعيا حقيقيا؛ فهو صاحب قانون الكسب غير المشروع، وصاحب قوانين تنظيم هيئات الشرطة، والنقابات العمالية، والضمان الاجتماعى، وعقد العمل الفردى، وقانون إنصاف الموظفين. 

وهى تشريعات سبقت عصرها، وأثبتت أن الرجل يمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية عميقة، وميلا دائما للعدل والمساواة، وفهما راقيا لطبيعة المجتمع المصرى.

ولم يكن خائفا من الاقتراب من الملفات الثقيلة؛ ففرض الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضى الزراعية حين كان وزيرا للمالية، وأمم البنك الأهلى الإنجليزى ليصبح بنكا مركزيا وطنيا، ونقل أرصدة الذهب إلى مصر للحفاظ على الأمن الاقتصادى للدولة، وكلها خطوات لا يقدم عليها إلا رجل يعرف معنى السيادة الحقيقية ويضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.

ورغم الصدامات المتتالية التى تعرض لها، والاعتقالات التى مر بها فى عهود متعددة، لم يتراجع ولم يساوم، ظل ثابتا فى المبدأ، مؤمنا بالوفد وبالحياة الحزبية، حتى أعاد إحياء حزب الوفد الجديد عام 1978، ليبقى رئيسا له حتى آخر يوم فى حياته، وقد كان ذلك الإحياء بمثابة إعادة الروح لمدرسة سياسية كاملة ترتبط بتاريخ النضال الوطنى الحديث.

إن استعادة ذكرى فؤاد باشا سراج الدين ليست مجرد استدعاء لصفحات من التاريخ، بل هى تذكير بأن مصر لم تبن بالكلام، وإنما صنعت رجالا مثل هذا الرجل، آمنوا أن الحرية حق، وأن الوطنية فعل، وأن الكرامة لا تقبل المساومة. 

وفى زمن تكثر فيه الضوضاء وتختلط فيه الأصوات، يبقى صوت أمثال فؤاد باشا أكثر وضوحا، وأكثر قوة، لأنه صوت نابع من قلب مصر، من تربتها وأهلها ووجدانها.

رحل جسد الرجل، لكن أثره باق، وتاريخه شامخ، وسيرته تذكرنا دائما بأن الوطن لا ينسى أبناءه المخلصين وأن مصر، رغم كل ما تمر به، قادرة دائما على إنجاب رجال بحجم فؤاد باشا سراج الدين.

مقالات مشابهة

  • عزيزي (ميدو): دورينا ليس (سبوبة)
  • الحباشنة يكتب..مجلس النواب أمام اختبار ضبط الخطاب وحماية استقرار الدولة
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • التدريب الديني أولاً.. نيويورك تايمز: الولاء يطغى على الكفاءة في بناء الجيش السوري الجديد
  • موسكو تدعو برلين إلى تخفيف حدة الخطاب "المناهض" لروسيا
  • المحللون الحزبيون على الشاشات… من يمثل من؟ واقع إعلامي بلا اسمنت مهني
  • مسلحون يقتلون والد ضحايا مجزرة البو دور في صلاح الدين
  • فؤاد باشا سراج الدين .. الرجل الذى علم المصريين معنى الكرامة
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • مدرسة عمر بن الخطاب تحصد لقب بطولة المملكة لتنس الطاولة لطلاب دور القرآن