إذا كان الاتحاد الإفريقي جادًا في التزامه المُعلَن بدعم وحدة السودان واستقراره، فإن رفع تعليق عضويته أصبح يمثل الاختبار الحقيقي لهذا الالتزام السياسي والأخلاقي ، ولتلك المصداقية التي باتت على المحك.

فقد دخل السودان مرحلة انتقالية جديدة، بتشكيل حكومة مدنية تحظى بدعم متزايد داخليًا وخارجيًا، مما يعكس تحوّلًا نوعيًا في مسار الأزمة.

هذا التحول يجسد تجدد المشروع الوطني، واستعادة مؤسسات الدولة عبر مسار مدني يحظى بقبول شعبي ودعم دولي. ومع اكتمال الشروط التي علّق عليها الاتحاد قراره في أكتوبر 2021، يصبح استمرار تجميد العضوية منافيًا لروح الشراكة الإفريقية، ولمبدأ دعم الانتقال السياسي في السودان.

لكن مشاعر الغضب والخذلان لا تزال حاضرة في وجدان قطاعات واسعة من السودانيين، تجاه الأداء الإفريقي في بداية الحرب، حين تجنّب الاتحاد توصيف ما جرى بوصفه محاولة انقلابية تقودها ميليشيا مسلّحة للاستيلاء على السلطة بالقوة، واكتفى بمواقف فضفاضة تتماهى مع سرديات القوى السياسية المتحالفة مع تلك الميليشيا، والتي حظيت بدعم إقليمي واضح آنذاك.

كان ذلك الانحراف المبكر في التوصيف سببًا رئيسيًا في تعميق التشويش السياسي، ومنح مساحة لمن لا يستحق، على حساب الدولة وشعبها وقرارها السيادي. وقد كلّف ذلك السودان أثمانًا باهظة لا تزال تداعياتها ماثلة حتى اليوم.

واليوم ومع التحولات الجارية، لاسيما تعيين حكومة مدنية برئاسة الدكتور كامل إدريس، تتكوّن من كفاءات وطنية مستقلة، فإن المطالبة برفع التجميد أصبحت استحقاقًا واجبًا لا مجرد رجاء. فالحكومة الجديدة تمثل تحولًا حقيقيًا نحو الانتقال السياسي، وقد حظيت بدعم شعبي ومن أطراف إقليمية ودولية، وأعلنت التزامها الكامل بالحوار السوداني – السوداني، واحترام السيادة، واستعادة مؤسسات الدولة، مما يجعل استمرار تجميد السودان فاقدًا لأي مبررات قانونية أو سياسية أو أخلاقية.

إن تجربة الاتحاد الإفريقي مع أزمات مشابهة في القارة تؤكد أن تعليق العضوية لم يكن يومًا غاية في ذاته، بل أداة ضغط لحماية وحدة الدول وتهيئة بيئة التسوية. ففي مالي، وغينيا، وبوركينا فاسو، ورغم بقاء السلطة في يد الجيوش بعد الانقلابات، اختار الاتحاد الإفريقي العودة التدريجية وفتح قنوات الدعم، مراعاة لوحدة الدول وتماسكها “BBC، DW، AfricaNews، 2021-2022″ .

أما في الحالة السودانية، فالمشهد يبدو أكثر نضجًا ووضوحًا، بالنظر إلى الحاضنة المدنية، واستعداد الحكومة للانخراط الفاعل في الملفات القارية، ضمن موقف وطني واضح يرفض أي تدخلات تمس السيادة أو تهدد وحدة البلاد.

وعلى الضفة الأخرى، لا يمكن النظر إلى ما يُعرف بـ”حكومة تأسيس” إلا كسلطة موازية صُنعت خارج الإرادة الوطنية، وتستند إلى دعم خارجي مكشوف، في تكرار لنماذج مأساوية عانت منها القارة طويلًا.

لقد شهدنا في الصومال كيف تسببت الحكومات الموازية المدعومة خارجيًا في شلل كامل للدولة، كما تحولت ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي بفعل تعدد “الحكومات” المصطنعة. هذه المشاريع ليست سوى أدوات استعمارية جديدة، تتغذى على تصدّع الدول، وتسعى لتفكيكها من الداخل.

إن استعادة السودان لمقعده في الاتحاد الإفريقي باتت خطوة ضرورة استراتيجية. فالسودان ليس دولة عادية في القارة، بل من مؤسسي المنظمة، ومحور توازن جيوسياسي فاعل يؤثر على أمن البحر الأحمر، وممرات التجارة، واستقرار القرن الإفريقي ومنطقة الساحل. ودعم حكومته الشرعية يعني، من منظور إفريقي، تعزيز الاستقرار الإقليمي، وكبح جماح مشاريع الفوضى، وإعادة الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية في إفريقيا.

ووفق ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن الشعوب لا تُحاسب حين تسقط، بل حين تنهض ولا تجد من يساندها. والسودان وقد بدأ نهوضه، لا يطلب مِنّة، بل يستدعي حقًا تاريخيًا في العودة إلى مقعده كشريك أصيل في بناء البيت الإفريقي.

وعلى الاتحاد الإفريقي، إذا أراد أن يظل إطارًا جامعًا للقارة لا مجرد منصة للمواقف الرمادية، أن يصطف الآن إلى جانب الدولة لا الميليشيا، إلى جانب الإرادة الشعبية لا الفوضى، وأن يصحح خطأ التجميد قبل أن يتحول إلى خطيئة سياسية وأخلاقية لن يغفرها السودانيون ولا التاريخ.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأحد 3 أغسطس 2025م
[email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الاتحاد الإفریقی

إقرأ أيضاً:

مركز القاهرة الدولي يعقد ورشة حول السلم والأمن في سياسة الاتحاد الإفريقي

عقد مركز القاهرة الدولي ورشة عمل حول تفعيل الركيزة الخاصة بالمرأة والسلم والأمن في سياسة الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية فيما بعد النزاعات، وذلك بالتعاون مع مركز الإتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية فيما بعد النزاعات، وهيئة الأمم المتحدة للمرأة في مصر، وبتمويل من الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية.

أكد السفير سيف قنديل مدير عام المركز أن انعقاد ورشة العمل يعكس الأولوية التي توليها مصر لملف إعادة الإعمار والتنمية فيما بعد النزاعات، وهو الملف الذي يضطلع السيد رئيس الجمهورية بريادته على مستوى القارة الأفريقية، مشيراً إلى أن تحقيق السلام المستدام يتطلب تضمين النساء والفتيات بشكل كامل في جهود التعافي وإعادة الإعمار، وأن مشاركة النساء والفتيات في عمليات صنع القرار تعزز من فرص استدامة اتفاقيات السلام وتسهم في تعافي المجتمعات بشكل أسرع. كما أوضح أن الورشة تأتي للبناء على اعتماد النسخة المُحدثة من سياسة الاتحاد الأفريقي والتي رسّخت محورية الركيزة الخاصة بالمرأة والسلم والأمن، مؤكداً أهمية التركيز على آليات تنفيذية عملية تراعي خصوصية السياقات المحلية وتستجيب لاحتياجات النساء والفتيات على أرض الواقع.

تناولت ورشة العمل العديد من الموضوعات المرتبطة بتفعيل الركيزة الخاصة بالمرأة والسلم والأمن ضمن سياسة الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية فيما بعد النزاعات، وشملت النقاشات سُبل ترجمة الالتزامات السياسية إلى إجراءات عملية على المستويات المؤسسية. كما تم استعراض دور النساء كقائدات فاعلات في إعادة بناء المجتمعات وتعزيز التماسك الاجتماعي، والتحديات التي تواجههن في سياقات النزوح وإعادة الدمج، بما في ذلك محدودية الوصول إلى الموارد والخدمات الأساسية، والحاجة إلى تضمين منظور النوع في السياسات الوطنية والإقليمية.

كما تطرقت النقاشات إلى تعزيز مشاركة النساء في التعافي الاقتصادي بعد النزاعات، من خلال تمكينهن في ريادة الأعمال والاندماج في سوق العمل، والاهتمام بالصحة النفسية والدعم الاجتماعي والنفسي لضمان تعافي شامل ومستدام. وقدمت الورشة نماذج وتجارب عملية محلية وإقليمية تؤكد أن تضمين منظور النوع في جميع مراحل إعادة الإعمار يعزز فاعلية السياسات ويحقق أثراً ملموساً على صعيد المجتمعات المحلية.

شارك في ورشة العمل عدد من الخبراء والمتخصصين في مجالات المرأة والسلم والأمن وإعادة الإعمار والتنمية، مما أتاح تبادل الخبرات والرؤى حول أفضل الممارسات والسياسات المراعية للنوع في سياقات ما بعد النزاعات. ومن بين المشاركين ممثلين عن الشبكة العربية لوسيطات السلام، والمجلس القومي للمرأة، والوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، ومكتب الوكالة الألمانية للتعاون الدولي لدى الاتحاد الأفريقي GIZ، ومركز الاتحاد الأفريقي لإعادة الاعمار والتنمية ما بعد النزاعات، وعدد من وكالات الأمم المتحدة، فضلاً عن ممثلين عن مراكز أبحاث ومنظمات غير حكومية معنية بموضوعات المرأة والسلم والأمن.

مقالات مشابهة

  • الحباشنة يكتب..مجلس النواب أمام اختبار ضبط الخطاب وحماية استقرار الدولة
  • الجزائر تجدّد التزامها بدعم قضايا الشباب الإفريقي
  • انطلاق فعاليات المنتدى العربي الإفريقي للشباب من القاهرة إلى الأقصر
  • توجه قطار الشباب إلى الأقصر ضمن فعاليات المنتدى الإفريقي الـ 14
  • الاتحاد الدولي للصحفيين: إشراك المرتضى في مفاوضات إنسانية سابقة خطيرة تقوض مصداقية الأمم المتحدة
  • معهد فلسطين: حكومة الاحتلال تدرك أن عمرها السياسي قصير
  • هل قتلت قوات الدعم السريع الصحفي السوداني معمر إبراهيم؟
  • رأي إردام أوزان يكتب: الاقتصاد السياسي.. معركة قائمة بلا رايات ولكن بعواقب وخيمة
  • علي فوزي يكتب.. السودان بين الصراع والبحث عن قائدٍ وطني
  • مركز القاهرة الدولي يعقد ورشة حول السلم والأمن في سياسة الاتحاد الإفريقي