روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
تاريخ النشر: 20th, November 2025 GMT
قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، ومع مطلع عهد فلاديمير بوتين، كان مستقبل روسيا السياسي يبدو غامضا ومتضاربا. فقد عززت الدولة بعض الحريات وقمعت غيرها؛ وألمحت إلى الديمقراطية، لكنها أبقت على قبضتها المحكمة في إدارة الشؤون السياسية.
فتحت الباب أمام رأسمالية السوق، لكنها سمحت في الوقت نفسه للأوليغارشيين والمقربين من السلطة والمسؤولين بالاستحواذ على تلك الأسواق.
والأهم أن ارتفاع أسعار النفط وتحسن مستويات المعيشة وتنامي العلاقات مع الغرب جعلت روسيا تبدو وكأنها توفر حياة مستقرة وواعدة لمواطنيها، ما داموا يلتزمون بالابتعاد عن السياسة.
ما افتقرت إليه الدولة، وليس مصادفة، هو أي توجه أيديولوجي واضح. وكان ذلك انعكاسا مباشرا للواقع السياسي في مرحلة ما بعد 1991، حين اعتاد الروس الشك بعد تجربة تدهور الاتحاد السوفييتي ثم انهياره. فقد أصبح فرض قناعة جماعية مهمة صعبة، ومكاسبها غير مؤكدة.
ومع دخول القرن 21، حمل الروس رؤى متناقضة: هل كانت الشيوعية مشروعا نبيلا أم خطأ فادحا؟ وهل شكل انهيار الاتحاد السوفييتي لحظة تحرر وفرص، أم بداية معاناة؟ في ظل هذا الارتباك، بدا للسلطة أن الحفاظ على مساحة رمادية واسعة - تشبه إلى حد ما عالم السياسة الحزبية الأمريكية - أنفع من فرض عقيدة محددة أو تحديد ما يجب على الناس الإيمان به.
لكن الأمر كان أيضا مسألة قانونية. فقد اعترفت المادة 13 من دستور روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي رسميا بالتنوع الأيديولوجي للدولة، وحظرت تأسيس دولة بأيدولوجية واحدة. حتى بوتين لم يُبدِ أي التزام بهذا المبدأ. كما لاحظ الصحفيان الاستقصائيان الروسيان أندريه سولداتوف وإيرينا بوروجان في كتابهما: أصدقاؤنا الأعزاء في موسكو: القصة الداخلية لجيل مكسور(الشؤون العامة، 2025، 336 صفحة).
أجرى زملاؤهما مقابلة مع بوتين عام ٢٠٠٠، في الأشهر الأولى من توليه منصبه، وسألوه عما إذا كانت روسيا بحاجة إلى أيديولوجية جديدة. رفض الفكرة رفضا قاطعا. وقال: «لا يمكن اختراعها عمدا»، مضيفا أن البلاد بحاجة بدلا من ذلك إلى «تعزيز الدولة والاقتصاد والمؤسسات الديمقراطية، بما في ذلك حرية الصحافة».
اليوم، يبدو هذا وكأنه خيالٌ منسيٌّ منذ زمن. لم يعد الكرملين متمسكا بأي ادعاءات ديمقراطية. يبدو أن بوتين مقدر له أن يحكم إلى أجلٍ غير مسمى، وحتى في المراحل الأخيرة من الانتخابات، يمنع المرشحون المستقلون من الترشح.
اختفت الصحافة الحرة، وكذلك جميع أنواع الحريات الأساسية، مهما كانت محدودة: فضغط «إعجاب» على منشور خاطئ على وسائل التواصل الاجتماعي أو تبرع لمؤسسة تُعتبر غير قانونية يكفيان لعقوبة سجن طويلة.
انقطع الاقتصاد إلى حد كبير عن الغرب؛ السفر إلى أوروبا محفوف بالمخاطر ومكلف ومعقد. والأهم من ذلك كله، استغلت الدولة الأيديولوجية لتبرير نفسها أمام الجمهور وتقديم رواية توجيهية: إمبريالية وعسكرية، محافظة ومعادية للغرب.
كتابان جديدان يتتبعان منحنى هذا التحول، ويعرضان عودة ظهور الأيديولوجية كمسألة محورية لكل من الدولة والمواطن في روسيا اليوم. في كتاب أصدقائنا الأعزاء في موسكو، ينظر سولداتوف وبوروجان إلى جيلهم .
يرويان قصة مجموعة من الأصدقاء والزملاء السابقين، الشباب الروس الذين، على مدار سنوات بوتين، تكيفوا بثبات مع النظام الحاكم، وانجرفوا نحو الأفكار والتبريرات القومية وغير الليبرالية، وانتهى بهم الأمر كمؤيدين لحرب روسيا في أوكرانيا. من خلال تركيز كتابهما على القيم المتغيرة لهؤلاء الأصدقاء، يوضح سولداتوف وبوروجان كيف أن استراتيجية بوتين المتعمدة «لعزل روسيا عن الغرب»، كما قالا، قد قويت من قبل الروس أنفسهم.
في كتابها الأيديولوجية وصنع المعنى في ظل نظام بوتن، (مطبعة جامعة ستانفورد، ٢٠٢٥، ٤١٤ صفحة)، توضح المؤرخة وخبيرة العلوم السياسية الفرنسية مارلين لارويل كيف كانت الديناميكية المتغيرة باستمرار بين الدولة والمجتمع أساسية في قوة بوتن. تشير الكاتبة إلى أن جهود بوتين لبناء أيديولوجية وطنية إمبريالية جديدة لا تعتمد فقط على قيم مفروضة من الأعلى، بل تعتمد أيضا على استغلال الأفكار والتوجهات الفكرية السائدة في المجتمع.
وتشير هذه الكتب مجتمعة إلى أن الأفكار التي حركت حرب روسيا المستمرة في أوكرانيا وصراعها الأوسع مع الغرب، ليست تعسفية أو غير عقلانية، بل إنها نتاج التفاعل الطويل والمتطور بين نظام بوتين والشعب الذي يحكمه.
في الصفحات الافتتاحية من أصدقائنا الأعزاء في موسكو، تم تعيين سولداتوف وبوروجان للتو في صحيفة إزفستيا، صحيفة رسمية سابقة، ثم أصبحت صحيفة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
خلال التسعينيات، اكتسبا قدرا ضئيلا من الحرية الجريئة في قول الحقيقة للسلطة، وسرعان ما وجد المؤلفان أنفسهما مندفعين إلى دائرة نشطة وطموحة من الزملاء والأصدقاء والمنافسين وشركاء النقاش الفكري، وحوارات استمرت لسنوات، وتطورت بالتزامن مع تحول روسيا في عهد بوتين.
منذ بدايات حكم بوتين، بدأت ولاءات أصدقاء موسكو تتغير، حيث صُدم سولداتوف وبوروجان من رد جهاز الأمن الداخلي الروسي على أزمات احتجاز الرهائن في نورماندي- أوستريا ٢٠٠٢ وبيسلان ٢٠٠٤. لاحظا زملاءهم يتأثرون بالجهاز، من كتابة مقالات تصدر مباشرة من الأمن الفيدرالي إلى إنتاج أفلام وثائقية مليئة بنظريات المؤامرة ومعاداة الغرب، وشعرا بأن اثنين من أصدقائهما انتقلوا إلى «الجانب الآخر».
مع نهاية فترة الاستقلال النسبي لصحيفة إزفستيا، بدأ مسار سولداتوف وبوروجان ينحرف عن زملائهم الملتزمين بالقواعد. بدت مقاومة الوضع الجديد بلا جدوى، فتوجه الكثيرون للمسارات المهنية والمالية. في الوقت نفسه، أطلق سولداتوف وبوروجان موقعهما الاستقصائي «Agentura.ru» حول أجهزة الأمن الروسية، مشيرين لاحقا إلى شعورهم بعدم مواكبة جيلهم في منتصف الثلاثينيات.
منذ عام 2008، بدا مسار روسيا السياسي غامضا، مع تنحي بوتين مؤقتا لصالح ميدفيديف، ثم عودته للرئاسة عام 2012 وسط احتجاجات وقمع واسع. مع تصاعد السيطرة السياسية، بدأت الأيديولوجية الروسية الرسمية في الظهور، وبرزت مجموعة من القيم «الروسية» التي دافع عنها بوتين واعتبر معارضوه أعداء للبلاد. وفي هذه الأثناء، تغيّرت مواقف العديد من أصدقاء سولداتوف وبوروجان: بعضهم أصبح مؤيدا قويا للسلطة وشارك في دعم الحروب، بينما اضطر سولداتوف وبوروجان للفرار إلى لندن مع الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022.
يكتشف سولداتوف وبوروجان، أثناء مراجعة مسار أصدقائهما القدامى، أن الكثير من هذه النخبة المثقفة تحوّلت طوعا إلى أدوات في آلة الحرب الروسية، مؤيّدين الغزو وأيديولوجية الكرملين المعادية لليبرالية والغرب.
ويصف المؤلفان كيف يعيش الروس اليوم كما لو كانوا متفرجين على قوى لا يمكن مقاومتها، كما حدث في عهود الاستبداد السابقة. الخيار أمامهم - كما يرونه - إما البقاء خارج النظام مع حتمية الإقصاء والقمع، أو البقاء داخله والقيام بدور فيه. وقد اختار معظم أصدقاء المؤلفَين الطريق الثاني، مدفوعين بالطموح والرغبة في البقاء ضمن المنظومة.
ترى لارويل أنّ قصة أصدقاء سولداتوف وبوروجان تعبر عن القوى العميقة التي شكلت عهد بوتين. فالعلاقة بين النظام والمجتمع ليست استبدادا خالصا، بل علاقة تشاركية قائمة على عقد اجتماعي غير معلن يعاد تشكيله باستمرار.
لكن ثابتا واحدا لم يتغير: قناعة بوتين بأن مهمته هي إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى. الوسائل وحدها هي التي تغيرت، إذ لجأ النظام إلى خليط من الأفكار- الأرثوذكسية والقيصرية والإرث السوفييتي والشعبوية و»الأوراسية»- لتبرير سياساته وتفسيرها.
توضح لارويل أن نظام بوتين انتقائي ونفعي، لا يقوم على عقيدة سياسية ثابتة، بل يسحب من «مخزن» الأفكار ما يخدم رؤيته ومصالحه في اللحظة. داخل هذه الديناميكية، يمكن للأفكار أن تصعد من النخب إلى القيادة كما يمكن أن تُلقى من فوق نزولا إلى المجتمع.
تضرب مثالا بإيفان إيلين الذي تبنى بوتين بعضا من أفكاره، بينما لم تصمَّم كتاباته أصلا للجمهور العام، بل للنخبة المحيطة بالسلطة. وتشير أيضا إلى «رواد الأعمال الفكريين» الذين يسمح لهم النظام بالدفع بأيديولوجياتهم الخاصة طالما أنها تفيد الدولة أو تتقاطع مع مصالحها- مثل الأوليغارشي المحافظ مالوفيف أو المنظّر المتطرف دوجين، الذي تُستخدم أفكاره بشكل انتقائي كلما احتاجها الكرملين.
وفق تحليل لارويل، بعد عودة بوتين للرئاسة عام 2012، تخلّى النظام بوضوح عن النموذج الغربي الحديث لصالح عقيدة انتقامية تبرز العداء للغرب والليبرالية، وتمجد عظمة روسيا وقادتها عبر التاريخ. تراكمت لدى بوتين والدائرة الأمنية حوله مظالم جيوسياسية- من الثورات الملونة إلى توسع الغرب شرقا- فتحولت إلى رؤية تعتبر النظام الليبرالي العالمي مجرد غطاء للهيمنة الأمريكية ومحاولة لتطويق روسيا.
هذه الرؤية دفعت بوتين إلى تبني دور «مهندس الفوضى» خارج حدوده، ومع تقدم النظام في العمر ازدادت نظرته للعالم تصلّبا. يبرز هنا مفهوم «روسيا الكاتيكونية»، الذي يصور روسيا كقوة مكلفة بحماية النظام العالمي من الانهيار، مستندة إلى مزيج من الأرثوذكسية كدرع روحي والقوة النووية كدرع مادي. في هذا الإطار تبرَر السياسات العدوانية- من ضمّ القرم إلى التدخل في سوريا- وتقدّم كأفعال ضرورية وفاضلة، وهو المنطق نفسه الذي يبرر الحرب الواسعة على أوكرانيا.
منحت الحرب في أوكرانيا نظام بوتين أيديولوجية أكثر تماسكا، إذ أعادت إحياء النزعة الإمبريالية الروسية وجمعت أفكار النظام المختلفة في قضية وجودية واحدة. ثلاثة عوامل خدمت الكرملين: تجنب الهزيمة في الميدان، خوف الروس من خسارة الحرب بغض النظر عن موقفهم من بدايتها، وضمان بقاء سلطة بوتين.
تستعرض لارويل ملامح «الإمبراطورية الروسية» كما يراها النظام: تعزيز نفوذ الدولة خارجيا، واستخدام خطاب قومي، وحماية النظام، ودور بوتين التاريخي الذي لا يُمس. وفي الوقت نفسه، نجحت موسكو في ترويج الحرب للداخل وللجنوب العالمي كـ«حرب تحرير» ضد الهيمنة الغربية، وهو تأطير براجماتي لكنه يعكس جانبا من رؤيتها للعالم.
وبما أن الاندماج مع الغرب بشروط روسية لم يتحقق، ترى موسكو أن التحالف مع العالم غير الغربي لتغيير النظام الدولي هو الخيار الأجدى.
ورغم أن الحرب صنعت دولة أكثر وحدة وأيديولوجية أوضح، إلا أن ذلك لا يعني أن بوتين يملك سلطة مطلقة. فحكمه يوصف بأنه لا يسعى لقولبة عقول الناس بل لتهميش الأيديولوجيات المنافسة وتقديم حوافز ضخمة للولاء. وترصد لارويل بدايات «فاشية مجزأة» يدعو بعض الروس من خلالها إلى عسكرة كاملة، في حين يفضل معظمهم عدم الانجرار للحرب وإبقائها بعيدة عن حياتهم اليومية والاقتصاد الثقافي والمدني.
يستفيد نظام بوتين حاليا من خضوع الناس لا حماسهم، لكن استمرار الحرب سيجبره على تجنيد مزيد من المقاتلين، معظمهم من المناطق الفقيرة التي تُغريها المكافآت المالية. ويعتمد نجاح أيديولوجية الدولة على قدرة الكرملين على حماية الطبقات العليا والمتوسطة من تأثير الحرب.
تتوقع لارويل أن الحرب ستنتهي، لكنها لا ترى أنها ستقود إلى انفتاح ليبرالي جديد؛ فالإعجاب السابق بالغرب تلاشى داخل المجتمع والنخبة. مؤيدو الحرب يرون الغرب عدوا، وحتى معارضوها يشعرون بالمرارة تجاه عجز الغرب وموقفه العقابي من الروس. كما أن الأوروبيين، في 2024، دفعوا لشراء الطاقة الروسية أكثر مما قدموا لأوكرانيا من مساعدات.
جوشوا يافا مراسل صحيفة النيويوركر في موسكو عين زميلا في مؤسسة نيو أمريكا لجهوده في روسيا، وحائز على جائزة برلين من الأكاديمية الأمريكية
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد السوفییتی نظام بوتین فی موسکو
إقرأ أيضاً:
البوسعيد.. ورسوخ الدولة العمانية
خميس بن راشد العدوي -
(أبناءَ عمان الأوفياء.. لقد حافظت بلادنا العزيزة على كينونتها كدولة مستقلة ذات سيادة عبر العصور، وقد تعاقبت عليها أنماط حكم عديدة أدى كل منها دوره الحضاري وأمانته التاريخية.
وإنَّنا نستذكر في هذا اليوم الأغر قادة عُمان الأفذاذ على مر التاريخِ، قادة حملوا راية هذا الوطن، ووحَّدوا أمته، وصانوا أرضه الطاهرة، ودافعوا عن سيادته، ونحمِلُها مِن بعدهم على الطريق ذاته، معاهدين الله عزَّ وجلَّ ألا يُثنينا عن عزمِنا عزمٌ، ولا تُشغِلُنا عن مصلحة وطنِنا مصلحة، تعضدنا في ذلك أمة مباركة بفضل الله، مشرَّفة بدعاء نبيه الكريم.
إنَّه لمن دواعي سرورنا، وتكريما لأسلافنا مِن السلاطين، واستحضارا ليوم مجيد مِن تاريخ عمان الحافل بالأيام المشرقة، أنْ نعلن في هذا المقام، بأنْ يكون يوم العشرين مِن نوفمبر مِن كل عام؛ يوما وطنيا لسلطنة عمان، وهو اليوم الذي تشرّفت فيه الأسرة البوسعيدية بخدمة هذا الوطن العزيز؛ منذ العام ألف وسبعمائة وأربعة وأربعين للميلاد، على يد الإمام المؤسِّس السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي، الذي وحَّد راية الأمة العمانية، وقاد نضالها وتضحياتها الجليلة؛ في سبيل السيادة الكاملة على أرض عمان، والحرية والكرامة لأبنائها الكرام، وجاء مِن بعده سلاطين عظام؛ حملوا رايتها بكل شجاعة واقتدار، وأكملوا مسيرتها الظافرة بكل عزم وإصرار.
وإنَّ احتفاءنا بهذا اليوم إنَّما هو تخليد لسِيَرهم النبيلة ومآثرهم الجليلة، والتزام أكيد منا بالمبادئ والقِيَم التي شكَّلت نسيج أمتنا العمانية؛ نصون وحدتها وتماسكها، ونسهر على رعاية مصالحِ أبنائها، رافضين أيَّ مساس بثوابتها ومقدساتها).
مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أعزَّه الله وأدام مجده.. مخاطبا شعبه يوم السبت 11 يناير 2025م، في الذكرى الخامسة لاستوائه على عرش سلطنة عمان.
إنَّ هذا الخطاب العميق بالمعنى الأخلاقي للسياسة؛ ليس مِن جنس الخطابات التي يلقيها الحكام للحديث عن منجز متحقق، أو سياسة مُتَّبعة، أو رؤية استراتيجية، أو قضية مُلِحّة، وإنَّما هو خطاب تأسيسي، مِن الخطابات التي ينبغي أنْ تدرس ضمن مقررات المدرسة السياسية العمانية؛ بكونه أحد معالم نظريتها السياسية. وهو خطاب ملفت لنظر المحللين السياسيين والمنظّرين في فلسفات الحكم. إنَّه خطاب يلخّص أسباب ثبات أنظمة الحكم في عمان ورسوخ الدولة بها، وهذا ما يجعلني أضعه نصا مرجعيا للحديث عن دور أسرة البوسعيد في استقرار الدولة العمانية.
إنَّ هذا الخطاب كاشف عن جوانب مِن مضامين النظرية السياسية الحديثة، التي بدأ تشكلها بتنصيب الإمام أحمد بن سعيد بن أحمد بن محمد البوسعيدي (ت:1198هـ)، عام 1744م؛ أي منذ حوالي 281 سنة، مدة توشك على الثلاثة قرون، امتد فيها نفوذ الدولة العمانية إلى مناطق شاسعة في الشرق الإفريقي والسواحل الغربية مِن الهند وإيران وباكستان، ثم رست ثابتةً بالدولة الحديثة؛ لتكون محورا للسلام العالمي.
يخاطب جلالة السلطان المعظم حفظه الله شعبه في بيان السيرة التي سار عليها حكام عُمان بقوله: (أبناء عمان الأوفياء)، وهذه العبارة كما أنَّها تكشف عن طبيعة العلاقة المتبادلة بين الشعب والحاكم؛ فإنَّها كذلك تعكس إحدى أهم الخصال التي يتمتع بها جلالته، وهي صفة يدركها كل مَن عرفه؛ منذ قبل أنْ يستوي سلطاناً على دست الحكم، ألا وهي صفة الوفاء، وهي مِن جملة الصفات النبيلة التي يتمتع بها جلالته. ولأدرك المسار القادم للدولة؛ فقد كتبت عند توليه مقاليد الحكم مقالاً بعنوان «جلالة السلطان هيثم بن طارق.. الخصال الشخصية في قيادة الأمة»، نشرته مجلة «تكوين» بتاريخ: 13/ 2/ 2020م؛ أشرت فيه إلى بعض خصاله، بيد أنَّني خصصت مقالاً لصفة الوفاء -ومعها الحكمة- التي تأتي في مقدمة خصاله العظيمة، فكتبت مقالا بعنوان «جلالة السلطان المفدى.. قوام حكمه: الوفاء والحكمة»، نشرته جريدة «عمان» بتاريخ: 10/ 1/ 2022م، وقد ضمنت المقالين كتابي «طور التحولات»، لمن أراد الرجوع إليهما، كشهادة واجبة اتجاه عاهل بلادنا المفدى أيدَّه الله، ومفتاح لدراسة النظرية السياسية التي تسير عليها الدولة.
ومما قلته في صفة الوفاء التي تحلى بها جلالته حفظه الله: (الوفاء.. هو الدافع النفسي لمحبة الإنسان لوطنه، يصنع شعباً متآصر الوشائج، متحد الصف، فيغدو كل فرد فيه مطمئناً بأنْ كرامته تُصان، وحقوقه تُحفظ، ويُعترف بجميل صنعه، ويُقدَّر حُسن إنجازه. فما أعظمها مِن سياسة يتتوج بها الحكم، وتساس بها الرعية، وتقام عليها العلاقات الخارجية).
إنَّ هذه الصفة هي التي انتظم عليها الحكم البوسعيدي.. فكان الأئمة الأفذاذ والسادة الكرام والسلاطين العظام منهم؛ يحفظون الود لكل مَن كان سنداً للدولة وعمل على استقرارها، وقدم خدمة وطنية للبلاد، فبالأمس القريب.. رأينا جلالة السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م) يمد بيد الإكرام لمن وقف مع الدولة الحديثة بداية نشأتها، فأسند المهام إليهم، واستمرت المودة في أبنائهم. وهذه صفة تأسست في آلبوسعيد منذ جدهم الإمام أحمد بن سعيد، حيث يروي عنه حميد بن محمد بن رزيق النخلي (ت:1291هـ) مؤرخ الدولة البوسعيدية أمثلة جميلة مِن الوفاء تجاه مَن وقف معه، وقد حصل ذلك عنده، حيث وصّى الإمام أحمد أبناءه السادة بأنْ يكون رزيق بن بخيت «قلم الحساب في الفرضة»؛ أي مسئول المحاسبة في ميناء مسقط، بيده وبيد أبنائه مِن بعده، حيث كتب عهداً بذلك، فكان مِن بعده ابنه محمد، ثم حفيده حميد.
وقد تأكد الوفاء بمولانا المعظم السلطان هيثم بن طارق حفظه الله؛ عندما ذكر الدور العظيم الذي قام به حكام عُمان على مر التأريخ. وبهذا هو أول حاكم عماني يشيد ذكراً بالدور الحضاري لكافة الحكام الذين تعاقبوا على البلاد بمختلف أنظمة الحكم. وهذا نهج الدولة البوسعيدية؛ فتداول الحكم بين حكامها لم يتنكب لثقافة البلاد وتأريخها، ورغم النزاعات السياسية التي كانت تحصل بين القبائل بعضها البعض، وبين بعض القبائل مع نظام الحكم القائم حينها، إلا أنَّها لم تجّرْ الحكام إلى الانتقام مِن قبيلة أو بلد.. بل ولم يتعدَّ إلى شخص آخر مهما كانت القرابة، طالما أنَّه لم يرتكب جرماً اتجاه الدولة أو الناس.
أشار الخطاب السامي إلى عامل عظيم لاستقرار الدولة؛ وهو ضمان الحرية والكرامة لأبناء عمان، وهما عنصران عمليان منبثقان عن مبدأين أخلاقيين هما العدل والمساواة، اللذين تمتع بهما حكام عمان عموما. ومَن يقرأ تاريخ حكام البوسعيد يجد آية ذلك، فقد دأب السادة والسلاطين على الالتقاء بالشعب، فالتأريخ يحدثنا عن جولتين سنويتين كان يقوم بهما السيد حمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (ت:1206هـ)، حتى أحبه الشعب، والتف حوله، وانقاد له، في ظل حكم والده الإمام سعيد (ت:1225هـ). وهذا ما عاصرناه لدى جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه مِن خلال جولاته السنوية، وهو ما نشهده اليوم مِن لدن جلالة السلطان هيثم بن طارق في الالتقاء بالشعب؛ عبر زياراته السامية للمحافظات.
مِن منطلق هذه المبادئ الكلية.. يأتي التحول في الاحتفال باليوم الوطني للبلاد مِن يوم 18 نوفمبر إلى 20 نوفمبر مِن كل عام. إنَّ الجميع يدرك الدور المحوري الذي قام به السلطان قابوس في بناء الدولة الحديثة، فقد أخرج البلاد مِن عصر كان يعيش الشعب فيه متأخرا عن الزمن العالمي؛ سواء مِن حيث الثقافة النامية أم الإدارة المتقدمة للمجتمعات أم التطلع نحو مستقبل أفضل، إلى عصر حديث مِن بناء الإنسان والمجتمع والدولة يحقق كل ذلك، ولذلك؛ رأيت بحق أنَّه افتتح طوراً جديداً مِن أطوار التاريخ العماني الكبرى. بيد أنْ البلاد أكبر مِن أجيالها وحكامها، والدولة أرسخ مِن حكوماتها ومؤسساتها، فكان الاحتفاء بذكرى 20 نوفمبر 1744م هو انطلاقة جديدة مِن الحرية والكرامة بتوحيد الأمة العمانية وطرد المستعمر الأجنبي عنها، وكل الحكام الذين ظهر في عهدها إنَّما هم حلقات في جِيد التاريخ العماني، وتحفظ المجد للشعب، على أرض وطن يأبى إلا الاستقلال والكرامة والحرية. إنَّه لفتة حكيمة ووفاء عظيم من جلالته أدام الله مجده.
ومِن باب التسجيل التأريخي.. حريٌّ بأنْ أشير إلى أنَّ الحكم البوسعيدي في شرق إفريقيا قد اعتمد هذا التأريخ للاحتفال بقيام الدولة البوسعيدية المجيدة، وذلك؛ بمناسبة مرور 200 عام على قيامها عام 1944م؛ زمن السلطان خليفة بن حارب بن ثويني بن سعيد بن سلطان البوسعيدي (ت:1960م). فقد جاء في الدعوة السلطانية لحضور الاحتفال:
(«تذكار».. الاحتفال بمرور مائتي عام على قيام الدولة السعيدية.
من خليفة بن حارب.. إلى حضرة الفاضل..... تحيةً وسلاماً.
وبعد سنحتفل رسمياً في يوم 20 نوفمبر 1944 مع حكومتنا بذكرى تأسيس وقيام مملكتنا السعيدية، التي مضى عليها الآن مائتا عام.
ففي مثل هذا اليوم، منذ مائتين سنة مضت، قامت عمان «مجمعة» بانتخاب جدنا الأكبر الإمام أحمد بن سعيد بن أحمد البوسعيدي إماماً عليها. ولمناسبة هذه الذكرى السعيدة؛ فإنَّنا متأكدون مِن أنَّ الأمة العربية كلها، في كل مكان، ستشاركنا بقلوبها في هذه الذكرى، ولا غرو.. فهذا العيد في الحقيقة عيدها، وهذا المجد في الواقع مجدها، وأنَّ أمتنا التي عملت قديماً للخلود؛ كتب لها البقاء في سجل الأبد.
وبمناسبة هذه الذكرى السعيدة.. ندعوك للحضور في قاعة القصر الكبرى، لتشاركنا في الاحتفال الرسمي في يوم 20 نوفمبر 1944، في الساعة ثلاث والدقيقة 45 صباحاً. ولك الشكر، وعليك السلام.
تنبيه: عند حضورك إلى القصر احمل معك هذه الورقة).
[وهذا التوقيت غروبي؛ يقابله بالزوالي حوالي الساعة 9,45 صباحاً].
إنَّ العلاقة المتبادلة بين الحكام والشعب؛ الحاكم بصيانة البلاد وحفظ كرامة الإنسان، والشعب بالحفاظ على اللحمة الاجتماعية والولاء للسلطان، هي ما جعل الدولة تنحو باستمرار نحو الاستقرار، لتصبح دولة راسخة الوجود، متجددة النهوض. فرغم الاضطراب السياسي الذي مرت به عُمان، كانت الدولة تنحاز للشعب وتستند عليه. فمِن بعد الدولة المركزية لليعاربة في مرحلتها الأولى القوية، التي انهارت بعد موت الإمام سلطان بن سيف اليعربي الثاني (ت:1131هـ)، دخلت البلاد في عنف قبلي مستطير، لجأت فيه الأطراف المتصارعة إلى الاستعانة بالقوات الفارسية، فكاد الوطن أنْ يفقد سيادته، والشعب أنْ تداس كرامته؛ لولا أنَّ الله قيّض لهما القائد الفذ الهمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، فجنّد معه جموعاً مِن الشعب، فقمع بهم أولاً رؤوس الفتنة في البلاد، ثم واجه بهم المحتل، وطردهم مِن البلاد، وتعقبهم حتى البصرة، وفرض هيبته على مياه الخليج، فحمد الناس سيرته، ووثق به الشعب لقيادته، وانتخبه العلماء وزعامات البلاد وعموم الشعب إماماً على عمان. ليؤكد على مبدأ ألّا بقاء لمحتل، وأنَّ الشعب دوماً مع قيادته؛ طالما أنَّها تحفظ حريته واستقلال بلاده.
ثم إنَّ الحكام عملوا جَهدهم على تجاوز الصراع العنيف بين الحلفين الكبيرين؛ الهناوي والغافري، اللذين انقسمت الأمة بهما، وتكلل بإعادة صهر القبائل في شعب واحد متآخٍ في الدولة الحديثة، التي قامت على الحقوق المدنية المتساوية وسيادة القانون. إنَّ بناء الدولة المدنية الذي تجلى دستورياً في الدولة الحديثة هو عمل تراكمي، يمكن رجع بدايته -خارج الولاء القبلي والتأطير الفقهي- إلى السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي (ت:1856م)، كان ذلك يحصل مِن دون هدم بنية القبيلة، ولا تنازل عن مقاصد الدين الحنيف.
وعندما امتد النفوذ البوسعيدي إلى شرق إفريقيا في عهد السيد سعيد بن سلطان قامت هناك دولة مواكبة للتحولات الجيوسياسية في العالم. لقد عاشت الشعوب التي حكمها البوسعيد في رخاء وازدهار. ولم يفرض عليهم العمانيون دينهم أو مذهبهم أو ثقافتهم أو لغتهم، وإنَّما تشكل مزيج حضاري مِن الثقافة العمانية العربية وثقافة تلك الشعوب؛ لاسيما الإفريقية، فقد تزاوج العمانيون مع هذه الشعوب؛ صهراً وثقافةً ومصيراً، ولعله مِن أفضل صيغ التعايش التي حصلت في هذه البلدان. كان ذلك والاستعمار الغربي ينهب إفريقيا، ويشحن سفناً كالرواسي بالأفارقة عبيداً إلى أوروبا وأمريكا، وكان يتخلص مِن الحمولة الزائدة أثناء هيجان البحر بكثير منهم، ومَن يصل الناجي مِن غرق الأمواج وسياط العذاب وفتك الأمراض يواصل حياةً مهينة في خدمة الإقطاعيين الغرب.
لم ينسَ حكام البوسعيد الذين بنوا دولة لعُمان في شرق إفريقيا شعبهم، ففتحوا المجال للعمانيين بالهجرة إليها؛ ليسندوا حكامهم هناك، فاستقطب السلاطين الفقهاء والقضاة والشعراء والمؤرخين، مثل: الفقيه المتكلم ناصر بن جاعد الخروصي (ت:1263هـ)، والشاعر الفقيه ناصر بن سالم الرواحي؛ أبي مسلم البهلاني (ت:1339هـ)، والمؤرخ سعيد بن علي المغيري (ت:1962م)، ومُفسّر القرآن عبدالله بن صالح الفارسي (ت:1982م). وهذا امتداد لما قام به سلاطين البوسعيد في عُمان، والذين ما انفكوا يستقطبون إليهم الفقهاء والقضاة والعلماء ورؤوس القبائل، للاستفادة منهم في بناء الدولة العمانية، وقد تتوج ذلك ببناء مؤسسات للثقافة العمانية والفكر الديني والشئون الداخلية؛ تأتي في مقدمتها وزارات: الشئون الدينية، والثقافة، والداخلية، المتعاقبة، وخصص النادي الثقافي والمنتدى الأدبي لرعاية الحقول البحثية والإبداعية.
لقد استقرت الدولة على المبادئ العليا التي تُطوَّع لها المتغيرات؛ بمختلف تقلباتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لترسّخ الدولة وينعم الشعب. ومن أهم هذه المبادئ التي قام عليها «النظام الأساسي للدولة»:
- الإسلام هو دين البلاد، ومِن روحه تستمد الأنظمة والقوانين، ومِن توجيهاته تنبع القيّم والآداب. والعربية هي اللغة الرسمية، التي لا يجوز أنْ تؤثر عليها أية لغة أخرى. وفي ظل مقاصد الإسلام وسعة الثقافة العربية؛ تأسست الدولة المدنية، كافلةً التنوع الثقافي.
- الوحدة الوطنية لا تقبل المساس، تحت ظل قيادة واحدة على رأسها السلطان حاكم البلاد، فلا يُسمح أنْ تتكوّن أية قوى داخلية خارج إطار مؤسسات الدولة وقوانينها، ولا يجوز لأيٍ مِن مكونات الوطن الارتباط بجهة خارجية، دون أنْ تنشئه الدولة أو تسمح به المبادئ الدستورية والتشريعات القانونية.
- دولة حديثة نامية، قائمة على التدرج في بناء المؤسسات الدستورية والقانونية والإدارية، بغية الوصول لمشاركة كافة شرائح الوطن في إدارة الدولة، تحت قبة «مجلس عمان» بغرفتيه: مجلس الشورى ومجلس الدولة.
- عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، وإنَّما تبنى العلاقات معها في أطر الاتفاقيات والمواثيق الدولية، تحت مظلة الأمم المتحدة وهيئاتها.
- التسامح وحرية الفكر والتعبير هو العقيدة الأخلاقية التي يجب أنْ تسود بين جميع مَن يقطن عمان. والسلام والتعاون وعدم إذكاء الحروب هو عقيدتها السياسية التي تتعامل بها مع الدول، وفي إطارها تسعى السلطنة للمساهمة في حل النزاعات الدولية.
- عدم التنكر للمنجز العماني عبر التاريخ؛ دينياً وحضارياً وسياسياً، بما في ذلك تجارب الحكم السابقة وتطور نظرياتها السياسية.. بل الاستفادة مِن هذا المنجز بحيث يحقق التوازن في الانتقال إلى الدولة الحديثة وتجدد نهضتها المستدامة، وجعله هُوية تشكل الثقافة العمانية التي تؤمن بالتعدد في إطار الوحدة.
- التواصل الحضاري مع الشعوب، وتجنب العزلة الدولية، عبر التمثيل السياسي، والتبادل الاقتصادي، والاستفادة مِن التجارب العلمية والتعليمية والثقافية، والحضور مِن خلال الفعاليات والمناشط الإقليمية والدولية، في كل مناحي الحياة.
- الموازنة المحكومة بالعدالة والمساواة في توزيع الثروة لبناء كل قطاعات السلطنة، عبر توزع المؤسسات الخدمية في كل المحافظات، وتحقيق الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي لجميع سكان عمان. وآخر صور التوزيع العادل؛ هو ما منحه عاهل البلاد المفدى مِن استقلال المحافظات في رؤيتها لما يحقق الصالح العام للشعب في الولايات؛ بكافة مدنها وقراها وواحاتها، وتخصيص البنود المالية اللازمة لتنفيذ هذه الرؤية.
خميس العدوي كاتب عماني