7 أيام في ألماتي الكازاخية جوهرة آسيا الوسطى
تاريخ النشر: 11th, August 2025 GMT
ألماتي – ما الذي يجعل مدينة ألماتي الكازاخية تحديدا وجهة تستحق الزيارة دون غيرها من مدن آسيا الوسطى؟ ببساطة، لأنها مدينة تجمع بين الحداثة والتطور، وأبهى صور الطبيعة من جبال خضراء وسهول ومراع. وفضلا عن ذلك فإن المدينة نظيفة وأسعارها جيدة جدا بالنسبة لمعظم الوجهات السياحية المماثلة.
قد يتصور البعض أن كازاخستان كسائر البلاد التي ينتهي اسمها بـ"ستان" مثل باكستان وأفغانستان وطاجيكستان وقيرغيستان، وما يتبادر في الأذهان من صورة نمطية عن تلك البلدان، وهذا تصور خاطئ وتحديدا عن كازاخستان وبالأخص مدينة ألماتي.
كانت ألماتي (Alma‑Ata) في السابق عاصمة كازاخستان من عام 1929 حتى 1997، حين انتقلت العاصمة إلى "أستانا"، وطيلة تلك الحقبة كانت ألماتي مركزا حضاريا وسياسيا للبلاد.
وتتميز المدينة بتعدد عرقي ولغوي، حيث تُستخدم اللغتان الكازاخية والروسية رسميا، وتضم المنطقة إرثا ثقافيا غنيا من متاحف وفنون، تعكس تاريخا من الاتصال بشرق آسيا والشرق الأوروبي عبر طريق الحرير القديم.
بين أستانا وألماتيصحيح أن أستانا هي العاصمة الحالية، ولكن ألماتي تعد أجمل منها من الناحية السياحية، فعند التجول في شوارع المدينة يلاحظ الزائر الأبراج المنتصبة ومن ورائها الجبال الخضراء، وكأنها خلفية خُلقت خصوصا لالتقاط صور بانورامية خلابة.
ويلاحَظ أن شوارع المدينة نظيفة، والمواصلات متميزة تصل كل أنحاء ألماتي، وهي من أفضل شبكات الحافلات الكهربائية في البلاد، كما أن الغاز الطبيعي موصول لجميع البيوت.
وعلى المستوى الاجتماعي فإن سكان ألماتي يتّسمون بالطيبوبة، فضلا عن أن المنطقة غير مكتظة بالسياح.
ونادرا ما تجتمع كل هذه الصفات في مدينة واحدة، فضلا عن الأمان والأسعار المناسبة بالنسبة إلى المسافر العربي، وكل ذلك يجعل من ألماتي وجهة لها قيمة عالية وعادلة مقارنة بالمال المدفوع في الرحلة إليها.
كيفية الوصولأصبح الوصول إلى ألماتي انطلاقا من الوطن العربي أسهل مما مضى، إذ تتوفر رحلات مباشرة من مدن خليجية، مثل دبي والدوحة وأبو ظبي عبر شركات مثل الخطوط القطرية وفلاي دبي، وتستغرق الرحلة بين 5 إلى 7 ساعات تقريبا حسب نقطة الانطلاق، وتبدأ أسعار التذاكر عادة من 300 دولار إلى 500 دولار ذهابا وإيابا في الموسم المنخفض.
مزارات وأنشطةاليوم الأول: يبدأ من جبال ميديو وشيمبولاق ونشاط التزحلق الهوائي "زيب لاين"، بعد فطور خفيف في الفندق، انطلقت مجموعتنا إلى منطقة ميديو الجبلية، حيث تقع أعلى حلبة تزلج في العالم (في فصل الشتاء) على ارتفاع يقارب 1700 متر.
إعلانالطريق إلى المكان كان بانوراميا، والهواء البارد المنعش يلامس الوجوه مع كل ارتفاع نصل إليه حتى في فصل الصيف.
بعد هذه الجولة في المنطقة، ركبنا التلفريك إلى منتجع شيمبولاق، وهو من أفضل منتجعات التزلج في آسيا الوسطى، ويمتد من 2200 متر إلى 3200 متر في فصل الشتاء، وأما في الصيف فيكسوه الأخضر.
وصلنا عبر التلفريك إلى أعلى نقطة، وهناك مارس البعض نشاط "زيب لاين" فوق الوديان، بينما اكتفى آخرون بالجلوس في المقاهي المرتفعة ومشاهدة الجبال الممتدة من كل جانب.
بعد الغذاء عدنا إلى ألماتي وزرنا حديقة بانفيلوف، حيث تقع كاتدرائية زينكوف الخشبية الشهيرة، ثم تجولنا في شارع أربات، وهو من أشهر شوارع المدينة للمشي، بما يحتويه من مقاهٍ ومحلات عصرية، قبل أن نعود للفندق مع غروب الشمس.
اليوم الثاني: كان شلال تورغن ووادي بوتاكوفكا والينابيع الحار هي الوجهة، حيث اتجهنا نحو الشرق من ألماتي قاصدين منطقة تورغن الطبيعية، وهي واحدة من أجمل وديان جبال "زايلييسكي ألاتاو" (Zailiyskiy Alatau).
وبعد مسيرة قصيرة وسط الغابات، وصلنا إلى شلال الدب (Medvezhiy Waterfall)، الذي ينحدر بقوة من ارتفاع 30 مترا وسط الصخور والأشجار الكثيفة.
أكملنا الطريق إلى وادي بوتاكوفكا، وهو واد مخفي نسبيا لكنه من الأماكن الطبيعية التي يفضلها السكان المحليون لهدوئه وينابيعه الجبلية.
بعد الاستراحة والغذاء في جلسة هادئة على ضفاف النهر، ذهبنا إلى منطقة الماراسان حيث تقع مجموعة من الينابيع الساخنة، وجلسات الراحة على النهر في أجواء صحية مثالية.
اليوم الثالث: بدأنا صباحنا بالاتجاه إلى منطقة آق بولاق الجبلية، حيث أقمنا في أكواخ خشبية وسط الطبيعة الهادئة.
توقفنا أولا في مزرعة للفراولة والتفاح، ثم وصلنا إلى المنتجع الذي يضم أحد أطول تلفريكات آسيا الوسطى (4.5 كلم). بعد وجبة الغذاء، كانت المغامرة على ظهور الخيل، حيث مررنا بالمراعي المفتوحة التي تحيط بنا من كل جانب.
في طريق العودة، كان منتجع ليسنايا سكازكا، وهو منتجع جبلي ساحر يقع وسط غابات الصنوبر، ويضم نُزلا خشبيا ومتنزها صغيرا، استرحنا فيه قليلا قبل العودة.
اليوم الرابع: كان عرض الطيور والقرية الكازاخية وبحيرة كايندي هي أنشطة اليوم، ففي الصباح كان الاستمتاع بعرض شيق للطيور الجارحة والتدريب التقليدي للصقور، وهي من أهم مظاهر التراث الكازاخي.
بعدها، كانت الوجهة هي مركز "هانس" للثقافة، وهو نموذج لقرية كازاخية تقليدية حيث تعرفنا على اللباس الشعبي، وأسلوب الحياة البدوية، وطقوس الشاي والعروض الفنية.
بعد الغذاء، كان السفر إلى بحيرة كايندي، الواقعة على ارتفاع 200 متر، والمشهورة بالأشجار الغارقة التي تتوسط المياه الفيروزية، جلسنا على ضفاف البحيرة وسط مناظر مهيبة للجبال إلى غاية مغيب الشمس.
إعلاناليوم الخامس: بدأت الجولة بزيارة وادي كاسكليين، الذي يُعد من أجمل الأودية القريبة من ألماتي، ويتميز بشلالات صغيرة متفرقة ومسارات للمشي وسط الطبيعة، ثم كان الانتقال نحو قمة كوك تيوبي عبر التلفريك.
في الأعلى، ينفتح الأفق على مدينة ألماتي من منصة بانورامية خلابة، جلسنا في مطاعم تطل على الأفق ويوجد في المنطقة برج التلفزيون الشهير وتمثال البيتلز، ومرافق ترفيهية مثل الملاهي البسيطة المناسبة للعائلات. وكانت لحظات غروب لا تنسى من "كوك تيوبي"، تم توثيقها بصور التقطتها كاميرات الهواتف تحبس الأنفاس.
اليوم السادس: خُصص هذا اليوم لاستكشاف الأجواء الشعبية والتسوق، بدأنا بالسوق الأخضر، حيث تذوقنا المربى والفواكه المجففة، وشممنا التوابل الغنية، واشترينا الهدايا التذكارية المصنوعة يدويا، ثم مررنا بحديقة الشهداء، وهي مكان هادئ يحمل طابعا تاريخيا يخلد رموز المقاومة في البلاد.
بعدها تجولنا في أهم المراكز التجارية في ألماتي، ومنها مراكز حديثة بشارع أباي، واستمتعنا بالثقافة الحضرية للمدينة. اليوم كان خفيفا نسبيا، وأتاح لكل فرد فرصة اختيار ما يناسبه من مشغولات وهدايا.
الطعام المحليلا تكتمل زيارة ألماتي دون الغوص في المطبخ الكازاخي الذي يعكس تاريخ البداوة والضيافة، حيث تشكل اللحوم، خصوصا لحوم الخيل ولحم الضأن (الغنم)، جوهر معظم الأطباق.
ومن أبرز ما يجب تجربته في المنطقة هو طبق "بِلوف"، وهو أرز مطبوخ مع قطع من لحم الخيل أو الضأن، يُطهى ببطء مع الجزر والبصل والثوم، ويُقدم في صحن جماعي تقليدي.
أما الطبق الوطني الأشهر فهو "بيشبارماك"، ويعني اسمه "خمسة أصابع" في اللغة الكازاخية، ويُؤكل تقليديا باليد، ويتكون من شرائح لحم مسلوق -غالبًا من الخيل أو البقر- مع عجين مسلوق على شكل شرائط، وتُغمر جميعها بمرق غني مع البصل.
وتتراوح أسعار الوجبات في المطاعم المحلية بين 2500 و6000 تينغ (حوالي 5 إلى 12 دولارا)، وأما في المطاعم السياحية الراقية فيتراوح سعر الوجبة ما بين 15 و25 دولارا.
ولمن يرغب بتجربة أصيلة، ننصح بالأسواق المفتوحة مثل البازار الأخضر، حيث يمكن تذوق الطعام الشعبي الطازج بأسعار رمزية.
خيارات الإقامةتوفر ألماتي طيفا واسعا من خيارات الإقامة، بدءا من الفنادق الفخمة ذات الإطلالات الجبلية، إلى الأكواخ الجبلية الهادئة، مرورا بالأنزال الشبابية الاقتصادية.
في حين تتراوح أسعار الفنادق العالمية ذات النجوم الـ5 بين 180 دولارا إلى 250 دولارا في الليلة.
وللباحثين عن الراحة والتوفير، تُعد فنادق الفئة المتوسطة خيارا مناسبا، حيث تتراوح الأسعار بين 40 و80 دولارا لليلة الواحدة، مع مستوى جيد من ناحية الخدمة والموقع.
وأما الراغبون في الهدوء التام وسط الطبيعة، فيمكنهم اختيار منتجعات ريفية، حيث تتوفر أكواخ خشبية مجهزة بالكامل، وبأسعار تتراوح بين 50 و100 دولار لليلة، حسب الموسم والموقع.
كما تنتشر شقق "إيربنب" (Airbnb) المفروشة في المدينة، وتبدأ أسعارها من 25 دولارا، وهي مناسبة جدا للعائلات أو الرحالة اللذين سيقضوا فترات إقامة أطول.
خيارات التنقلضمن خيارات التنقل في ألماتي المترو والحافلات، وسيارات الأجرة، وحتى التلفريكات، وتغطي شبكة المترو الحديثة أهم مناطق المدينة، وتبلغ قيمة التذكرة الواحدة نحو 100 تينغ فقط (0.2 دولار)، كما أن المحطات نظيفة وآمنة ومزودة بإرشادات باللغتين الروسية والإنجليزية.
إعلانوتتوفر أيضا شبكة الحافلات، التي تغطي أغلب أحياء المدينة، وتعمل على مدار اليوم، لكنها أبطأ قليلًا من المترو. فيما يوجد كذلك تطبيق "ياندكس تاكسي" (Yandex Taxi) الروسي، وهو شائع في ألماتي يستخدم كبديل لأوبر (Uber)، ولا تتجاوز تسعيرة رحلة متوسطة المسافة (5 إلى 8 كيلومترات) دولارين إلى أربعة دولارات.
وأما سعر تذكرة التلفريك ذهابا وإيابا فيبدأ من 3 آلاف تينغي (قرابة 6 دولارات).
في حين تبدأ سعر تأجير السيارات من 25 دولارا في اليوم دون سائق، وقد تصل إلى 60 دولارا مع سائق ومصاريف وقود.
أفضل وقت للزيارةتُعتبر الفترة بين مايو/أيار وسبتمبر/أيلول أفضل وقت لزيارة ألماتي، حيث يكون الطقس معتدلا، وتتراوح درجات الحرارة فيها بين 18 و28 درجة مئوية، وتكتسي الجبال بالخضرة، وتفتح البحيرات أبوابها للنزهات والمغامرات.
أما فصل الشتاء (ديسمبر/كانون الأول إلى مارس/آذار)، فيناسب عشاق التزلج في منطقة شيمبولاق وباقي المناطق الجبلية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات وسط الطبیعة آسیا الوسطى فی المنطقة فی ألماتی إلى منطقة
إقرأ أيضاً:
أوقاف المغاربة في القدس كتاب يعرض تاريخ المغاربة ودورهم في المدينة المقدسة
الرباط – يقدم كتاب "أوقاف المغاربة في القدس: وثيقة تاريخية سياسية قانونية" للعلامة والدبلوماسي المغربي الدكتور عبد الهادي التازي (1926 – 2015) رؤية متكاملة، يرصد من خلالها تاريخ الأوقاف التي أسسها المغاربة حول المسجد الأقصى، والتي شكلت أساسا لوجودهم الروحي والعمراني في المدينة على مدى قرون.
صدر هذا العمل المرجعي لأول مرة عام 1981 عن مطبعة فضالة بالمحمدية، لكن أُعيد طبعه سنة 2013 بعد تنقيحه وتطعيمه بصور حصرية ووثائق توثيقية لحارة المغاربة وتصميم غلاف جديد، بمبادرة من "المبادرة المغربية للدعم والنصر"، وبإذن ومراجعة من الكاتب رحمه الله.
طبع بعد ذلك مرات عدة آخرها سنة 2020، وهو يعتبر وثيقة توثيقية نادرة تجمع بين المعطى التاريخي والتحليل القانوني والسياسي.
أوقاف المغاربة كانت البدايةلا يكتفي الكتاب بتوثيق الأوقاف المغربية المحيطة بالمسجد الأقصى، بل يكشف من خلال تحليل دقيق كيف "أن الحروب المتوالية بين العرب وإسرائيل بدأت في الواقع في القدس من منطقة أوقاف المغاربة وبالذات من حائط البراق الذي يتصل بمنازل المغاربة"، على غرار ما حدث في كنيسة القيامة التي أشعل التنافس على ترميمها فتيل حرب القرم بين العثمانيين وروسيا عام 1856.
ويستعيد التازي هذا القياس التاريخي ليؤكد أن الاصطدام بين المشروع الصهيوني والوجود العربي لم يبدأ فقط في ساحات القتال أو مؤتمرات التقسيم، بل انطلق فعليا من القدس، وبالذات من أوقاف المغاربة، حيث بدأ النزاع حول هوية المكان ورمزيته الدينية.
الدكتور عبد الهادي التازي شخصية مغربية بارزة، ولد في فاس عام 1921، شارك في الحركة الوطنية منذ صغره، وتعرض للاعتقال والنفي.
يتمتع بمسيرة أكاديمية حافلة، فقد حصل على شهادة العالمية من جامعة القرويين عام 1947، ودبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس عام 1963، ودكتوراه الدولة من جامعة الإسكندرية عام 1971.
إعلانوعلى الصعيد المهني، عمل أستاذا جامعيا ومحاضرا في العديد من المعاهد والكليات، كما شغل مناصب دبلوماسية منها سفير المغرب في دول عدة مثل العراق، وليبيا، والإمارات العربية المتحدة وإيران، كما تولى أيضا إدارة المعهد الجامعي للبحث العلمي لمدة 20 عاما.
هو كاتب ومترجم غزير الإنتاج، نشر أكثر من 700 مقال وألف عشرات الكتب، وكان عضوا فاعلا في العديد من المجامع اللغوية والعلمية العربية والدولية، مثل مجمع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق، والمجمع العلمي العراقي، وأكاديمية المملكة المغربية، وحصل على أوسمة تقديرية عدة من المغرب ودول أخرى.
محتويات الكتابالكتاب هو أطروحة رئيسية تتناول أوقاف المغاربة في القدس من الجوانب التاريخية والسياسية والقانونية، و10 ملاحق وثائقية توضح الأوقاف الأصلية، ومراسلات، وقرارات إدارية، واحتجاجات قانونية، ومراسلات دبلوماسية تعكس الموقف الرسمي تجاه الأوقاف.
يقول الباحث المغربي المتخصص في شؤون القدس محمد رضوان للجزيرة نت إن الكتاب بالرغم من صغر حجمه، واختصار مادته، يعد مرجعا مهما للتعرف على تاريخ علاقة المغاربة بالقدس وأوقافهم بهذه المدينة المباركة التي شدوا الرحال إليها للجهاد والعبادة والتعلم ونشر العلم والتصوف منذ زمن بعيد.
ويضيف "مع أن عبد الهادي التازي يوضح أن صفحات هذا الكتاب مقتبسة من كتابه المعروف "تاريخ المغرب الدبلوماسي"، إلا أنه يمثل فعلا وثيقة أساسية في موضوع أوقاف المغاربة بالقدس، لأنها تضم إيضاحات وإفادات جمة حول أبرز الأوقاف المغربية، ووظائفها والمستهدفين بريعها ومنافعها.
يعتمد الكاتب منهجا وثائقيا تاريخيا تحليليا يجمع بين دراسة الأرشيف العثماني، والمراسلات الرسمية، والوقفية الإسلامية، مع تتبع الأحداث السياسية التي أثرت على هذه الأوقاف.
ويمزج بين التوثيق القانوني والسياسي لتحليل دور الوقف في حماية الهوية الإسلامية للقدس، ويسلط الضوء على التداخل بين البعد الديني والاجتماعي والسياسي لهذه الأوقاف.
يتميز منهجه بالربط المتقن بين نصوص الوقف والتطورات السياسية التي مرت بها المدينة، مع إبراز دور المغاربة كحراس لهذه الأوقاف عبر القرون.
كما يولي أهمية خاصة للتفاصيل القانونية في حفظ حقوق الوقف وممتلكاته، ويظهر كيف استخدم الوقف أداة للحفاظ على الوجود الإسلامي في مواجهة التوسع الصهيوني.
القدس قبلة المغاربةيركز الدكتور عبد الهادي التازي على أن العلاقة بين المغاربة والقدس بدأت من ارتباط روحي قوي، يتمثل في "شد الرحال" إلى المسجد الأقصى، الذي يعتبر من المساجد الثلاثة الكبرى في الإسلام، قبل أن تتطور العلاقة لاحقا لتشمل طلب العلم والمشاركة في الجهاد.
ويستعرض التازي من خلال وثائق نادرة مرور عدد كبير من الأعلام المغاربة الذين عرجوا على القدس طلبا للعلم ونقل المعرفة، مثل القاضي أبو بكر ابن العربي الذي رافق والده الإمام عبد الله في سفارته عام 490 هـ (1097م)، والقاضي بدر الدين محمد بن إبراهيم الذي شهد مجلسه الرحالة النقاد العبدري عام 686 هـ (1290-1291م)، وصولا إلى الرحالة ابن بطوطة وغيره من العلماء الذين ربطوا المغرب بمدينة القدس، مؤكدا بذلك أن العلم كان جسرا ثقافيا قويا.
إعلانويشير التازي كذلك إلى بُعد جهادي مهم، إذ يذكر أن صلاح الدين الأيوبي بعد فتح بيت المقدس عام 583هـ (1187-1188م)، طلب المساعدة من السلطان يعقوب المنصور عبر إرسال أسطول مغربي لدعم جهاد الشام ضد الصليبيين، رافق ذلك هدية ثمينة من صلاح الدين تضمنت مصحفين كريمين وعطور ا فاخرة، ما يعكس عمق الروابط الدبلوماسية.
واستقبل السلطان المنصور الوفد المغربي، وعلى رأسه السفير ابن منقذ، بحفاوة بالغة، معبرا عن تقديره للدور الذي يلعبه المغرب في الدفاع عن القدس، يعكس مستوى التعاون المتين بين السلطتين، والذي تخطى الجانب الثقافي ليشمل الأبعاد السياسية والعسكرية.
يرصد الدكتور عبد الهادي التازي أن أصل تسمية "حارة المغاربة" يعود إلى الدور النشيط للمقاتلين المغاربة الذين شاركوا في جيوش نور الدين الشهيد خلال الحملات ضد الصليبيين في أواخر القرن السادس الهجري (حوالي 578-581 هـ)، فهؤلاء المغاربة، كما يؤكد الرحالة ابن جبير، كانوا يدفعون ضرائب خاصة مستثنين من العوام، وهم لا يبالون بذلك نكاية في العدو، وهذا يؤشر على تميزهم ووجودهم الواضح في الأرض المقدسة.
وبعد الفتح الصلاحي، وفي عهد الملك الأفضل (589هـ)، خُصِّصت بقعة سكنية لهم قرب الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى، تأسست فيها مدرسة حملت اسمه، وهذا أدى إلى توسع الأوقاف المغربية في القدس وتحديد حدود واضحة لـ"حارة المغاربة".
وقد شهدت هذه الأوقاف وثائق رسمية متعددة، تم تجديد تسجيلها في القرون التالية، ما يعكس حرص المغاربة على تثبيت حضورهم العمراني والروحي.
في هذا السياق يقول الأكاديمي محمد رضوان "بعد أن تطرق التازي إلى الوقف المشهور المتمثل في البقعة التي حبسها الملك الأفضل في سنة 589هـ لفائدة المغاربة، وهي البقعة التي اعتادوا أن يجاوروها عند بيت المقدس قرب الزاوية الجنوبية الغربية لحائط الحرم وفي أقرب مكان للمسجد الأقصى، يعرض عبد الهادي التازي للأوقاف التي حبسها المغاربة أنفسهم بالقدس ليستفيد منها أبناء طائفتهم المقيمون والوافدون من بلاد المغرب الكبير.
وفي الكتاب إشارة مهمة إلى أن المغاربة كانوا حريصين بصورة مبكرة على تملك العقارات في القدس وبجوارها أيضا، وتوقيف بعض تلك العقارات التي كانوا يشترونها من أصحابها، مما يدل على تعلقهم بهذه الديار منذ العصور الأولى.
ويضيف ما يتميز به كتاب التازي بهذا الخصوص، توقفه عند أبرز الأوقاف المغربية بالقدس، والمتمثلة في قرية عين كارم، وهي من قرى قضاء القدس، والتي حبسها العالم المتصوف أبو مدين شعيب، تلميذ سيدي صالح حرازم ودفين تلمسان، وأوقاف الشيخ العابد المجاهد عمر المجرد المصمودي بحارة المغاربة، وهي 3 دور، بالإضافة إلى زاوية تشتمل على 10 حجرات بجميع مرافقها، كذلك لم يغفل التازي وقفيات أفراد آخرين، وكذلك أوقاف بعض الملوك المغاربة تعبيرا عن تعلقه بتلك الرحاب.
ارتباط متين
وعلاوة على ذلك، فقد وثق التازي أن هذه الأوقاف تحوي نصوصا دقيقة تنظم شروط السكن والانتفاع وتمنع التفويت، مع تخصيص موارد للعبادة والكسوة والطعام خلال المواسم الدينية.
كما تظهر استمرار الدعم الرسمي الملكي المغربي، فخلال الحكم المريني في القرن الـ14 الميلادي (738 هـ/1337م)، خصص السلطان أبو الحسن علي بن عثمان مبالغ ضخمة لشراء أراض في القدس والحرمين الشريفين، مؤكدا إستراتيجية حماية الأراضي الإسلامية المقدسة من الاستحواذ الأجنبي.
كما نسخ الملوك المغاربة مصاحف يدوية فخمة ووقفوها في المسجد الأقصى، أبرزها "الربعة المغربية" التي كانت محفوظة بالمتحف الإسلامي حتى منتصف القرن الـ20.
إعلانكما تشدد الوثائق على استمرار العلاقة الروحية العميقة بين المغاربة والقدس، حيث مثّل المسجد الأقصى مزارا بارزا للمغاربة، على غرار المراتب الدينية والروحية في المغرب نفسه، كما توضح قصائد وشهادات علماء مغاربة، مثل الفقيه إمام الدين البطائحي، الذين عبروا عن شوقهم وحبهم للقدس رغم بعد المسافات.
بالإضافة إلى ذلك، حافظ المغاربة على تقاليدهم وهويتهم في القدس عبر الأجيال، رغم امتزاجهم مع السكان المحليين، فقد ظل حي المغاربة مركزا نابضا بالحياة الإسلامية والثقافية في المدينة، محافظا على خصائصه وأوقافه، ومحاطا بالحائط الغربي (حائط البراق).
جذور النكسةيبرز التازي أن "النكسة" بدأت ملامحها مع احتلال محمد علي باشا لمدينة القدس سنة 1831م، وهو حدث تاريخي مهم غيّر مسار الحكم العثماني وأتاح فرصا جديدة لتدخل القوى الأجنبية، إذ يشير إلى تأسيس أول قنصلية بريطانية في القدس، والتي لعبت دورا في حماية بعض اليهود، مما شكل نقطة تحول ديمغرافية وسياسية في المدينة.
واعتمد الكاتب في تحليله على توثيق هذه المرحلة من خلال الأمثلة الدقيقة، مثل محاولات بعض اليهود التوسع على حساب الأوقاف المغربية، مثل طلب تبليط ما يسمى في عقديتهم "المبكى" قرب حائط البراق، وكيف رفض مجلس الشورى ذلك حفاظا على حرمة الوقف الإسلامي، مشيرا إلى صدور أوامر رسمية تنص على منع تغيير الواقع المعهود.
كما بين الكاتب كيف أن تكاثر اليهود وظهور الصهاينة على الأرض المقدسية أدى إلى تعديات متكررة على أوقاف المغاربة، فقد وثق شكاوى وجهت إلى المفتي والمحكمة الشرعية، وأشار إلى القرارات الإدارية التي صدرت لمنع هذه التجاوزات.
في مقابل هذه الاعتداءات، بيّن الكاتب جهود المغاربة في الدفاع عن حقوقهم وأوقافهم عبر وسائل متعددة، بدءا من المرافعات الشرعية والقانونية، وصولا إلى التواصل الدبلوماسي مع الدولة المغربية التي أسست لجنة القدس عام 1975، لتعزيز الحماية السياسية والقانونية لأوقافهم في وجه التهديدات الإسرائيلية.
تحتوي هذه الملاحق العشرة على مجموعة ثمينة من الوثائق الرسمية والتاريخية التي تشكل دليلا واضحا على أبعاد الوقفية الخاصة بحي المغاربة في القدس، وهي تعكس تاريخا متجذرا يمتد لقرون، ويربط بين الجوانب الدينية والاجتماعية والقانونية لمكانة هذا الوقف.
تتراوح الملاحق بين نصوص أصلية للوقف، وأوامر رسمية في العصر العثماني والانتداب البريطاني، إلى اعتراضات المتولين الشرعيين في فترة الاحتلال الإسرائيلي. وتهدف هذه الملاحق إلى توثيق امتداد الوقف، وحمايته، والمخاطر التي تعرض لها عبر العقود.
يقول الأكاديمي محمد رضوان إن هذه الملاحق جاءت لتعزيز الجانب التوثيقي في هذا الموضوع، وهي عبارة عن رسوم (عقود) ونصوص لتلك الوقفيات، من بينها نص وثيقة وقف أبي مدين، ونص وثيقة المصمودي، والوثيقة المتضمنة لأمر حاكم الشام بعد تغيير وقفية أبي مدين، وقرار متولي أوقاف المغاربة بعدم الخضوع لتغيير المعهود.
لكن من أهم ملاحق هذا الكتاب الملحق السابع الذي يتضمن العقارات التي هُدّمت في حي المغاربة (وهو من أكبر أوقافهم) في صيف 1967م، وفي هذا الملحق بيان في وصف العقار، واسم ساكنه، وعدد غرفه.
معلومات عن الكتابالعنوان: أوقاف المغاربة في القدس وثيقة تاريخية سياسية قانونية
المؤلف: الدكتور عبد الهادي التازي
الناشر: المبادرة المغربية للدعم والنصرة
تاريخ الطبع: 2020 عن شمس برينت – سلا
اللغة: العربية
الحجم: متوسط، عدد الصفحات 110