الجزيرة:
2025-12-13@22:08:52 GMT

خطاب الاستشراق والقابلية للاستعمار

تاريخ النشر: 31st, August 2025 GMT

خطاب الاستشراق والقابلية للاستعمار

في مشهد أعاد إلى أذهان اللبنانيين حقبة الانتداب، وقف المبعوث الأميركي إلى لبنان، توم براك، على منبر قصر الرئاسة اللبنانية مخاطبا الصحفيين بلهجة آمرة ومهينة واستعلائية: "سنضع قواعد مختلفة… كونوا هادئين للحظة… في اللحظة التي يبدأ فيها الأمر بالفوضوية والسلوك الحيواني سنرحل. تصرفوا بتحضر، بلطف، بتسامح، لأن هذه هي المشكلة وراء ما يحدث في المنطقة".

وضعت حادثة قصر بعبدا الإصبع على جرح عميق في واقعنا العربي، فالمسألة ليست في الإهانة ذاتها بقدر ما تكمن في خلفياتها الذهنية والمدلولات السياسية التي تستبطنها، وفي ردود الفعل تجاهها.

عبارة "سلوك حيواني" التي تفوه بها براك لم تكن زلة لسان منعزلة، بل هي جزء من نمط أوسع يُعرف باسم نزع الإنسانية (Dehumanization).

هذا النمط يقوم على تشبيه شعوب كاملة بصفات غير آدمية، بما يجردهم من صفاتهم البشرية ويجعل التعاطي معهم خاليا من الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية.

ذات العبارة استخدمها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، أكتوبر/تشرين الأول 2023 لوصف الفلسطينيين في غزة بأنهم "حيوانات بشرية"، وأعلن فرض حصار كامل عليهم: "لا كهرباء، لا طعام، لا ماء". كانت هذه العبارة مؤشرا على النية لاقتراف جرائم حرب وفظائع إنسانية، وهو ما حصل ويحصل بالفعل.

إن هذه النزعة ليست بدعة في التجربة التاريخية، بل هي استمرار لنهج رسخته القوى الاستعمارية الغربية منذ قرون، كما في تجربة الولايات المتحدة مع السكان الأصليين، أو الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وفي المذابح التي نُفذت ضد أقلية التوتسي في رواندا، أو ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وحتى اليهود أنفسهم كانوا ضحية الدعاية النازية ضدهم.

المشترك في هذه التجارب هو خطاب نزع الإنسانية عن الجماعات، عبر وصفهم بالمتوحشين والمتخلفين بيولوجيا أو بالجرذان والصراصير والذباب والثعابين والبرابرة، هكذا حرفيا، واستخدام هذا الخطاب كتهيئة ذهنية تبرر الهيمنة، أو تسبق المجزرة، وتمهد لتبرير فظائعها.

إعلان

ولا يخرج عن هذا الإطار خطاب "نشر الديمقراطية" و"نشر التحضر" و"محاربة الإرهاب"؛ ذلك الخطاب الذي يستبطن وصاية أخلاقية استعلائية شوفينية، استُخدم أيضا لتبرير غزو العراق، وأفغانستان وارتكاب المجازر فيهما، بل وللهيمنة على المنطقة سياسيا وعسكريا، ونهب ثرواتها لعقود لاحقة.

تشبيه البشر بالحيوانات أو ربطهم بصفات دون بشرية أو أقل تحضرا، يزيد قابلية الجمهور لتقبل العنف بل وتأييده، باعتباره وسيلة "ضرورية" لتحقيق هدف ما، مهما كان وحشيا.

بمعنى آخر، تُسقط لغة "الحيوَنة" الضوابط الأخلاقية، فلا يعود قتل المدنيين أو تجويعهم أو تعذيب الأسرى أمرا مرفوضا بالكامل، بل قد يراه البعض مبررا، لأن الضحايا المصوَرين هم من فصيلة أدنى لا يستحقون التعاطف نفسه.

يكفي أن نستحضر رد فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تعليقه على فيديو يُظهر أسيرا إسرائيليا لدى حماس بدا في حالة هزال شديد؛ فقد أعرب علنا عن الأسى والحزن والتعاطف مع معاناة ذلك الأسير، واصفا ما شاهده بأنه "أمر فظيع".

غير أن هذا التعاطف الانتقائي يقابله صمت مطبق تجاه معاناة أكثر من مليوني غزي يتعرضون للإبادة والتجويع على مدار أكثر من 22 شهرا. حتى عندما اعترفت جهات أممية بوجود مجاعة في غزة، لزمت إدارته الصمت من دون أي تعليق.

تكشف هذه الازدواجية في الاستجابة الإنسانية عن نزعة متجذرة لنزع الإنسانية عن العرب في الخطاب السياسي الغربي. وضمن هذه الرؤية، تُعتبر حياة غير الغربي أدنى قيمة- وربما "غير بشرية"- ولا تستحق حتى التعاطف.

هكذا تتحول الإهانة اللفظية أو الخطاب التفاضلي بين الغربي وغير الغربي إلى ما هو أعمق من مجرد موقف عنصري، ولا يمكن قراءته بمعزل عن حمولته الفكرية؛ فهو يستحضر دون وعي إرثا ثقيلا من الاستشراق، الذي فضحه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، بوصفه بنية معرفية سلطوية قام عبرها الغربي بتشكيل صورة نمطية عن الشرق تخدم مصالح الهيمنة.

لقد صور المستشرقون الأوائل الشرق بأنه غير عقلاني وفوضوي ومنحط أخلاقيا، مقابل صورة أوروبا العقلانية القوية المتحضرة. هذا التصوير لم يكن بريئا؛ بل حاجة استعمارية لاختلاق تباين جوهري بين شرق متخلف وغرب متحضر.

فعندما يقول مبعوث أميركي في بيروت: "تصرفوا بتحضر… هذه هي مشكلة المنطقة"، فهو عمليا يعيد إنتاج تلك المعادلة الاستشراقية القديمة: نحن الغرب نمثل قمة التحضر وضبط النفس، بينما أنتم الشرق (العرب) تمثلون الفوضى والنقصان الحضاري، وتحتاجون إلينا لإعادة تأهيلكم حضاريا.

والأخطر أن مثل هذه اللغة الاستعلائية والممعنة في نزع الإنسانية، تتخذ أحيانا لبوسا دينيا يمنحها شرعية في عيون أصحابها. رأينا مثل ذلك حين لجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نصوص التوراة لتبرير الإبادة، حيث اقتبس من سفر التثنية قائلا: "اذكر ما فعله بك عماليق".

والعماليق في الذاكرة اليهودية هم عدو أبدي لبني إسرائيل، أمر الرب بإبادتهم في العهد القديم، رجالا ونساء وأطفالا وحتى البهائم.
لم يكن اختيار نتنياهو لهذا الاقتباس اعتباطيا، فهو يعلم وقع هذه الاستعارة على جمهوره وعلى جنوده، بحيث يضفي على حربه صبغة مقدسة، وتنفيذا لأمر إلهي ضد عدو مطلق الشر يجب استئصاله بالكامل، أي رفع مستوى العملية العسكرية من فعل دنيوي قابل للنقد، إلى رسالة إلهية لا تُمس.

إعلان

ويكفي لنفهم وقع هذا الخطاب على المجتمع الإسرائيلي أن نشير إلى استطلاع رأي إسرائيلي أجراه مركز (أكورد) مؤخرا، أظهر أن 76% من اليهود في "إسرائيل" يوافقون على "نزع إنسانية سكان قطاع غزة"، وعلى الادعاء أنه "لا يوجد أبرياء في غزة".

إذا وضعنا هذا التداخل التوراتي- السياسي في إطار الاستشراق الذي تحدثنا عنه، نجد مفارقة مثيرة؛ فالصهاينة وبعض المتطرفين الغربيين يصورون ثقافة منطقة "الشرق الأوسط" بأنها "دينية متعصبة" أو "قبلية همجية"، لكنهم لا يتورعون عن استدعاء أكثر النصوص الدينية تعصبا لتبرير البطش الهمجي بنا!

من جهة أخرى، وإزاء تصريحات المبعوث الأميركي المهينة، كان لافتا العدد الكبير للأصوات المستلبة أو تلك التي تعيش عقدة الخواجة، والتي دعت إلى عدم تضخيم الأمر وإلى "تفهم السياق"، ومنهم من اجتهد لنفي الكلام أو تأويله، بل وحتى لوم الصحفيين أنفسهم على انفعالهم!

وهذا يحيلنا إلى طرح المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي سماه "القابلية للاستعمار"، وهو مفهوم لا يزال شديد الراهنية لفهم معضلاتنا المعاصرة، إذ يحملنا جزءا من المسؤولية التاريخية لما آلت إليه ظروف منطقتنا.

فمالك بن نبي يرى أن الاستعمار ما كان لينجح ويطول أمده ما لم يزرع في نفوس المحتلين والمستعمَرين قابلية نفسية لتقبل الذل، فإذا كان الوسط الاجتماعي مشبعا بقابلية الخنوع تلك، فستأتي حكومات ونخب تمارس دور الوكيل للاستعمار من داخل المجتمع نفسه.

على مستوى أوسع، عربيا، نرى تجليات لهذه القابلية للهيمنة في تعاطي بعض النخب مع المشاريع الصهيونية والاستعمارية الجارية. فعندما يعلن قادة إسرائيليون صراحة عن أطماعهم التوسعية- كحديثهم عن "إسرائيل الكبرى" أو خطط تقسيم دول عربية أو إسلامية أو تغيير أنظمتها بالقوة- ينبري محللون وسياسيون عرب لإقناع جماهيرهم بأن "كل ذلك أوهام ودعايات فارغة"، وعلينا فقط أن نطبّع ونطوي صفحة الماضي، ونركز على التنمية!

نحن أمام حالة من الإنكار المريح الذي يغذي القابلية للاستعمار، إنها آلية نفسية للهروب من المسؤولية، فبدلا من مواجهة الخطر، يتم إنكاره أو التقليل منه، لأن الاعتراف به يتطلب موقفا فيه تضحية وخروج من منطقة الراحة- مع أنها قاتلة!

المشكلة تكمن في أن هذا الخطاب الانهزامي يتناسى عمدا أن جوهر الصراع في الاستعمار والاحتلال، وسرقة الأرض، وتهجير السكان، وقمع أي مشروع نهضوي عربي مهما كلف الأمر.

المشكلة في أن هذا الخطاب يصور المقاومة المشروعة على أنها عقبة أمام "الازدهار الاقتصادي" الموهوم، ويتعامل مع التطبيع كشرط لازم للتنمية وتحقيق الرخاء، رغم أنه ثبت مرارا أنه لا ازدهار ولا تنمية حقيقية للشعوب الواقعة تحت نفوذ الاحتلال، أو التي تدور في فلكه. ومع ذلك يواصل مروجو هذا النهج تسويق الأوهام.

هذا المنطق الخطابي أقرب إلى ما يسميه المفكر الإيراني علي شريعتي بالاستحمار، وهو استعارة تشير إلى تزييف وعي الإنسان وإلهائه عن قضاياه الأساسية. فأي دافع يَحرف وعي الإنسان عن اليقظة هو دافع استحماري، ولو كان مقدسا.

بمعنى آخر، قد يُشغل المجتمع بخطابات براقة في ظاهرها- قد تكون علمية أو دينية أو اقتصادية – لكنها في الجوهر تؤدي إلى إبعاده عن معركة الحرية الحقيقية.

وأخطر أدوات الاستحمار في عصرنا الحديث هي تلك التي ترتدي قناع التحديث والتنمية والسلام؛ لتخدير الشعوب وسط بحر من الهيمنة والظلم والتهديد المتربص بالمنطقة، وفي القلب منها فلسطين.

فكل خطاب لامع ليس إلا أداة تضليل كبرى ما دام لم يقترن بشرطَي الحرية والكرامة، وبنفي القابلية لاحتقار الذات، وهذه الأخيرة عدها شريعتي مقدمة لتقبل الاستعباد؛ فقبل أن يُستعبد أي شعب، عليه أن يقتنع بأنه أدنى وأضعف، عندها يتقبل المقهور الذل والعبودية برحابة صدر ودون مقاومة.

إعلان

أليس هذا ما نراه أحيانا في إعلامنا ومناهجنا بل وفي أبسط تفاصيل حياتنا اليومية؟ الصور النمطية التي تسخر من العربي وتحقره، وتمجد كل ما هو غربي، في النكات وفي الإعلام وفي السينما والفن وغيرها، التي تصور العربي غبيا شهوانيا أقل تحضرا، وتُصور الغربي ذكيا نبيلا وأكثر تحضرا.

هذه السموم البسيطة في ظاهرها هي التي تخلق تراكما نفسيا يسهل قبول الهيمنة. فحين يأتي سياسي غربي ويقول "سنجلب لكم الاستقرار" سنهرع وراءه شاكرين، لأننا مقتنعون في أعماقنا أننا عاجزون عن حل مشاكلنا بأنفسنا. وحين يقول لنا "التطبيع طريق الازدهار" نصفق له، لأننا أصلا فقدنا الثقة بأنفسنا وصار عدونا معيارا للتقدم!

إن مقاومة هذا الاستحمار الجديد تتطلب نباهة فردية واجتماعية- كما أسماها شريعتي- أي وعيا ثاقبا ويقظة دائمة، تعيد ترتيب أولوياتنا، بحيث نميز بين العدو والصديق، وبين القاتل والضحية، وألا ننخدع بمعسول الكلام عن الاستقرار الاقتصادي، فيما تُزهق الأرواح وتُهدم الأوطان من حولنا، ويزحف العدو عند أسوارنا.

التنمية الحقيقية لا تأتي على دبابة محتل، ولا بقرار من سفارة أجنبية؛ إنها تنبع من التحرر الوطني، ومن المقاومة، ومن السيادة على قرارنا وثرواتنا.

تنبع أولا من قناعة راسخة أنه لا نهضة ولا استقلال بدون حسم الصراع على فلسطين، وقبل كل ذلك، من الإيمان بأننا نستحق أفضل من موقع التابع المهان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات نزع الإنسانیة هذا الخطاب

إقرأ أيضاً:

تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد

ترتفع الأصوات في تونس في نهاية العام 2025 ضد قيس سعيد إلى حد استعادة الشعار العظيم "الشعب يريد إسقاط النظام"، لكن مع أصوات الداخل نرى عيون المعارضة ترنو إلى الغرب وتنتظر خيرا من مقال هنا وتصريح هناك، فقيادة الصف الأول الغربية لم تنبس بكلمة. وهذا الأمل في إسناد غربي نسميه بلا مورابة" العاهة السياسية المستديمة للمعارضة. فكلما عجزت المعارضة عن خلق التغيير من الداخل، رفعت رأسها نحو الخارج، نحو الغرب تحديدا، طلبا للخلاص. هذا السلوك ليس طارئا ولا وليد لحظة قيس سعيّد، بل هو متجذر في عقل المعارضة تجذر العادة. فالمعارضة حين ترغب في ربح الوقت ترنو خارج الحدود، كأنّ الديمقراطية وجبة جاهزة يأتي بها "ديلفيري".

ما نراه في تونس هذه الأيام هو فصل جديد من هذه الرواية القديمة، رواية التعويل على الضمير الغربي المتخيّل، الذي تُعزى إليه صفات لم يثبت يوما أنه تبناها فعلا (نصير الديمقراطية وحامي الحريات والداعم لانتقال سياسي متوازن). غير أن الوقائع تكشف دوما عن مفارقة مدهشة، هذا الغرب الذي تراهن عليه المعارضة التونسية هو ذاته الذي يُبقي قيس سعيد في موقعه، لا تعاطفا مع مشروعه السياسي، بل لأن له فائدة وظيفية محددة في زمن عولمي تتقدّم فيه الحدود على الإنسان، والأمن على الحرية، والمصلحة على المبادئ. لقد أصبح سعيد بعد ترتيباته مع إيطاليا حارسا أمينا لبوابة أوروبا الجنوبية؛ رجلا يُقدّم للغرب ما يريده من مثله (لن يعبر الأفارقة البحر)، وما دام هذا الالتزام قائما، سيظل الرجُل مقبولا، مهما ارتجّت المؤسسات الديمقراطية وتداعى البناء من الداخل.

المعارضة التونسية: وهن القدرة ورومانسية الاستعاضة.

إن السؤال المركزي هنا ليس حول مواقف الغرب، بل في بنية المعارضة نفسها؛ لماذا تلجأ إلى الخارج كلّما عجزت عن الفعل الداخلي؟ يبدو أنّ المشكلة أعمق من اللحظة السياسية الراهنة، إنها مشكلة القدرة على التنظيم الاجتماعي لا القدرة على الخطابة. لقد عايشتُ المعارضة التونسية فوجدتها بارعة في البيانات، تتقن صياغة التوسل والرجاء، لكنها لم تملك أبدا القدرة على بناء شبكات اجتماعية تعبّئ الجمهور المسكين، فتحوّل غضبه وخيباته إلى وقود معركة سياسية منصفة. إنّها معارضة تتقن الكلام في المصادح أكثر مما تتحرك في الشارع، معارضة تُنتج مواقف ولا تصنع وقائع، تُقيم حجتها على النص لا على القوة الاجتماعية.

وهنا تتجلى المفارقة، المعارضة تطلب دعما خارجيا بينما لم تقم بواجبها الداخلي، وكأنها تجهل الوظيفة الأولى للسياسة أن تبني كتلة اجتماعية حيّة قبل أن تطلب شرعية أو دعما من الخارج. لدينا قناعة تزداد رسوخا ونحن نتابع تحركات المعارضة التونسية المشتتة، إن السياسة ليست خطابة وشعارات في مظاهرات ميكروسكوبية بل توازن قوة على الأرض. من لا يمتلك الناس، لن يمتلك التاريخ، ولن يسمعه الغرب إلا بقدر ما يخدم مصالحه. وامتلاك الناس/ الشارع طريقه مكشوفة، ولكن المعارضة تتعامى عنها وتنتظر النجدة.

التاريخ يعيد نفسه بلا خجل

من حقبة بورقيبة إلى حقبة بن علي والآن مع قيس سعيد؛ يتشابه المشهد وإن تغيّرت الوجوه. هذا لا يشير فقط إلى فشل سياسي، بل إلى عجز بنيوي في الخيال الاستراتيجي للمعارضة؛ وكأنها لا تتعلم من التاريخ لأنها لا تعتبره مصدر معرفة، بل خزانا للندب والعويل. إنّ السلوك السياسي الذي لا يتغير أمام الخيبة المستمرة، لا يسمى إصرارا أو مبدأ، بل يسمى مرضا معرفيا. المعارضة التونسية لا تكفّ عن تكرار الرواية نفسها بانتظار نتيجة مختلفة؛ وهذه علامة كلاسيكية على أن الوعي السياسي لم يُجرِ نقدا جذريا لذاته، النقد الذي يتجاوز التكتيك إلى سؤال البنية لماذا لا نُنتج قوة؟ لماذا نُعلّق فشلنا على الخارج ثم ننتظر منه النجدة؟

الغرب ليس نبيا ديمقراطيا بل قوة مصلحة

تُهمل المعارضة التونسية معادلة بسيطة في وضوحها مفادها أنّ الغرب ليس ذاتا أخلاقية بل جهاز مصلحي، والديمقراطية ليست مبدأ مطلقا عنده، بل سلعة، وأداة، وخطاب جاهز للاستخدام حين تنسجم نتائجه مع مصالحه الاستراتيجية. وما دامت تونس اليوم تؤدي وظيفة حراسة الحدود، فهي شريك لا عبء، وشريك لا يزعج إلا عندما يتجاوز دوره. بل يمكن القول بوضوح، تونس في هذه اللحظة ليست دولة، بل سياج بشري يحمي أوروبا من الجنوب. هذه الحقيقة التي تعرفها المعارضة جيدا، لكنها تتغافل عنها لأنها تفضّل التعلّق بأمل خارجي هلامي بدل مواجهة سؤالها الأصعب: كيف تصنع قوة في الداخل؟

الغرب لا يتدخّل لإسقاط سعيّد لأن إسقاطه يفتح حدودا، يعيد حركة الأفارقة نحو البحر، يخلق فوضى سياسية قد تجبر أوروبا على تحمل ما لا تريد. لذلك، فدعم الديمقراطية في تونس بلغة المصالح ليس أولوية، الأولوية الغربية هي الاستقرار الأمني ومنع الهجرة غير النظامية، وهي أدوار يقوم بها قيس سعيد دون كلفة كبيرة على الشركاء الأوروبيين. لماذا يتخلى الغرب عنه إذن؟ ومقابل ماذا؟

إنّ السياسة في النسخة الغربية ما بعد 2015 واضحة جدا، الحدود أولا، ثم نرى. ومن يضمن الحدود يضمن الدعم، ومن لا يضمنها، لن تنفعه الصور في مؤتمرات المعارضة ولا المقالات التي تُنشر في جريدة لوموند.

التواكل السياسي: بنية نفسية قبل أن يكون خيارا استراتيجيا

يمكن فهم هذا التواكل من زاوية سوسيولوجية أيضا المعارضة التونسية (كغيرها من معارضات عربية يقيم كثير منها في عواصم الغرب نفسه ويحظى باللجوء السياسي) لم تتربّ في حضن الثقة الشعبية، بل في حضن المثقفين والصحافيين والدوائر النخبوية. إنها تعيش داخل الفضاء الرمزي أكثر من الفضاء الاجتماعي، لذلك، حين تكتشف عجزها عن التعبئة، تبحث عن سند بديل. الخارج هنا ليس فقط خيارا سياسيا، بل تعويضٌ نفسي عن غياب القدرة الداخلية. الخارج يُشعرها بأنها لا تزال فاعلا، حتى ولو كان الفعل ورقيا، لغويا، رمزيا.

هذا ما يفسّر ازدهار البيانات، والندوات، والرسائل الموجهة للأصدقاء الديمقراطيين ولمنظمات حقوق الإنسان. المعارضة تصنع حدثا لغويا، لا حدثا سياسيا، تكوّن حضورا خطابيا بديلا عن حضورها الميداني، إنها تُراكم الكلمات لأنها لا تملك الأرض.

الأسباب التي جاءت بسعيّد لا تزال قائمة

لا يبدو المشهد التونسي اليوم غريبا إذا ما استُحضر عمق الانقسام التاريخي داخل المعارضة نفسها. فالأسباب التي جاءت بقيس سعيّد إلى الحكم لم تتغير، بل ما تزال تُنتج أثرها بهدوء. هذه معارضة ممزقة على أسس استئصالية، تحكمها ذاكرة الصراع أكثر مما يحكمها وعي المصلحة العامة. إنّ التيار الحداثي أو اليساري لا يزال يعتبر الإسلاميين كيانا رجعيا ظلاميا لا يُعقد معه ميثاق ولا تُكتب معه صفحة جديدة، حتى وإن كان هذا الرفض يكلّف البلاد انسدادا سياسيا طويلا. لقد أسقطوا حكومة النهضة حين كانت فرصة التعايش ممكنة، ثم شكرهم الغرب بجائزة نوبل للسلام مكافأة على تحويل الخصومة السياسية إلى قاعدة استقرار شكلي. لكن الثمن الحقيقي لهذا الانتصار كان غياب القدرة على الحكم بعد ذلك، وغياب القدرة على المعارضة أيضا.

إنّ الخلل لا يكمن فقط في قصر نظر الغرب أو مصلحته، بل في عجز النخبة التونسية عن تجاوز ثنائيات ما قبل الدولة الحديثة. فالمعارضة التي أطاحت بالإسلاميين بالأمس -بدل أن تُفاوضهم وتُهذّبهم داخل اللعبة الديمقراطية- هي المعارضة نفسها التي تحاول اليوم إسقاط قيس سعيّد دون أن تغيّر أدواتها ولا تصورها للآخر السياسي. إنها تخوض معركة جديدة بذات المنطق القديم (استبعادٌ بدل ائتلاف، قطيعة بدل بناء، إقصاء بدل تعلّم من التاريخ). وهكذا يستمر الوضع من عاش على الاستئصال مات به، ومن رفض الشريك اليوم لا يجد من يشترك معه غدا.

لذلك يمكن القول إنّ سعيّد ليس شذوذا في المسار السياسي، بل نتيجة طبيعية لانكسار توافقي لم يلتئم. هو ابن الفراغ، ابن القطيعة، ابن تلك اللحظة التي فضّل فيها الجميع الانتصار الأيديولوجي على الحلّ السياسي. وما لم تتغير بنية الوعي داخل المعارضة أي داخل المجتمع فإنّ تونس لن تنتج بديلا، بل ستبدّل ألوان الأزمة فقط. فالحكم قد يتغيّر، لكن المنطق المُنتِج للأزمة باقٍ كما هو.

ربما لا تحتاج البلاد اليوم إلى بيانات جديدة بقدر حاجتها إلى عين نقدية تُبصر الجرح لا السكين فقط، إلى معارضة تُصلح ذات بينها قبل أن تحلم بإصلاح السلطة. فإنّ من لم يُجد صياغة تحالف يُحسن فقط صياغة عريضة احتجاج، وإن لم يحدث التحوّل في بنية التفكير، فسيتغيّر الأشخاص وسيبقى الجوهر كما هو يعيد إنتاج نفسه بثبات هندسي لا يفاجئ إلا من لا يقرأ التاريخ.

مقالات مشابهة

  • الحباشنة يكتب..مجلس النواب أمام اختبار ضبط الخطاب وحماية استقرار الدولة
  • تصعيد خطير في بحر الفلبين الغربي.. سفن صينية تهاجم قوارب صيد وتوقع جرحى
  • حفل زفاف في سوريا يتحول إلى مأساة كبرى في ريف درعا الغربي.. ماذا حدث؟
  • 33 إصابة بجروح جراء انفجار وقع خلال حفل زفاف في ريف درعا الغربي
  • موسكو تدعو برلين إلى تخفيف حدة الخطاب "المناهض" لروسيا
  • تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد
  • المحللون الحزبيون على الشاشات… من يمثل من؟ واقع إعلامي بلا اسمنت مهني
  • 10 غارات إسرائيلية تستهدف الجنوب والبقاع الغربي في لبنان
  • البذاءة بوصفها إستراتيجية جمالية للمقاومة وتفكيك السلطة
  • مدرسة عمر بن الخطاب تحصد لقب بطولة المملكة لتنس الطاولة لطلاب دور القرآن