في كل مرة أجدد فيها جواز سفري، أضع القديم بجوار ما سبقته، أتأمل تلك الصور الشاحبة. في هذا الصمت، يتردد صدى قصيدة الشاعر الكبير فاروق جويدة "وضاعت ملامح وجهي القديم" تطاردني بكلماتها، وتلاحقني بمعانيها، وكأنها استوطنت أعماق الذاكرة، فأصبحت وشمًا يتسرب داخل تجاعيد الزمن. لا تكتفي هذه القصيدة بمراجعة صوري المثبتة في جوازات السفر، بل تنحت في صميم الجسد كافة خيوط الحنين إلى براءة الأمس، وتصلها بمخاوف صورة جواز السفر القادم، والتي ربما لن أراها.
يرسم جويدة أيقونة للحلم الذى أصبح بقايا رماد. فمحاولاته المتكررة للصراخ ترتطم باعترافه" فما عدت أنطق شيئا جديدا "وتقف عاجزة بين حقيقة " ترى أين وجهي؟" وبين وهم "وقالوا سمعناك بعد الحياة". هذا الحلم الذي يختفى فى الكهوف الصغيرة وبحار الأمل وخلف الزمان حيث تموت العصافير بين جوانحنا، وترقد بذور البدايات بداخلنا. وهنا تبدأ اللحظة المقدسة التي تسعى بلا هوادة لطمس معالم الماضي، وتأكيد ما كان جويدة يجرى منه خائفا "وأصرخ في الناس: هل من دليل؟".
“تذكرت وجهي، كل الملامح، كل الخطوط " هى لحظة استرخاء تعكس ذلك الشعور العميق بالاغتراب الذي يسري كظل قاتم في شرايين القصيدة، لتصطدم بلعنة الاكتشاف "ولكن وجهي ما عاد وجهي". إجابة جويدة تصل بنا إلى النهاية، فقد تحولنا إلى مسافرين غرباء عن تلك النسخة النقية التي حملناها يومًا في أعماقنا، فمع تراكم سنوات العمر وتغير الملامح أصبحنا لا نعرف أنفسنا. إنها ليست مجرد إجابة لسؤاله الحائر "ترى أين وجهي؟"، بل هي الشبح الذي يلازمنا جميعا في لحظات البحث عن اللون وفرشاة الرسم واللحن القديم.
لا شك أن قصيدة "وضاعت ملامح وجهي القديم" تحمل رسالة إنسانية مرسومة بذكريات باهتة. إنها تذكير موجع بقيمة تلك اللحظات الأولى، بصفاء الطفولة الذي تحلل بزيف الكلام، وبحطام الوجوه التى لازلنا نبحث عن بقاياها. إنها دعوة حالمة للتأمل في رحلة العمر القصيرة التي حاول فاروق جويد أن يرسم ملامحها على كل باب، وفوق المآذن، وفوق المفارق، وبين التراب.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المثبتة في
إقرأ أيضاً:
نصر أكتوبر.. فرحة العمر وكرامة وطن
كل عامٍ يمر على السادس من أكتوبر، أجد نفسي أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام الخالدة التي لا تُنسى، إلى زمنٍ إستعاد فيه الوطن روحه، وعاد إلينا الفخر والكرامة بعد سنواتٍ من الحزن والانكسار.
نصر أكتوبر بالنسبة لي ليس مجرد ذكرى وطنية تمر في التقويم، بل هو نبض حياة، ودفء إنتماء، وشعور لا يوصف بالعزة والفخر.
أنا ابنة بورسعيد، المدينة الباسلة التي عرفت طعم الألم قبل الفرح، ودفعت الثمن الغالي من أجل أن تبقى مصر مرفوعة الرأس. شاهدتُ بعيني دمار حرب ١٩٦٧، ورأيت الشوارع الخالية والبيوت المهدمة، والعيون التي غابت عنها الابتسامة. كنا نحيا على أمل العودة، أمل أن تشرق شمسٌ جديدة تمحو ما خلفته الهزيمة من وجعٍ وجراح.
ثم جاء السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، اليوم الذي عبرت فيه مصر من الهزيمة إلى النصر، ومن الانكسار إلى الكبرياء. كان يوماً لا يُشبه أي يومٍ آخر ،لحظة انتصارٍ للكرامة قبل أن تكون للأرض
رأيت الجيش المصرى يعبر القناة كأنهم يعبرون إلى الخلود، وجموع المصريين تبكي وتضحك في آنٍ واحد، وكأن الروح التي فقدناها منذ ٦٧ قد عادت إلينا من جديد.
نصر أكتوبر أعاد فينا الروح، كنت أشتاق إلى بورسعيد بشوارعها وقناتها، إلى رائحة البحر وأصوات المراكب، إلى ضحكة الناس التي غابت لسنوات. ورغم أن بيتنا لم يكن موجوداً بعد الحرب، إلا أن العودة إلى المدينة كانت كأننا نعود إلى حضن الوطن نفسه، لم نكن نملك الكثير، لكننا كنا نملك الفخر، وكنا نحس أن تراب بورسعيد وحده قادر على أن يضمد الجراح ويعيد للحياة طعمها الجميل
كانت بورسعيد دائماً رمزاً للصمود، مدينة لا تعرف الخوف ولا الاستسلام. قاومت العدوان في ١٩٥٦، ووقفت شامخة رغم الدمار. لذلك كان نصر أكتوبر بالنسبة لنا عيدين في يومٍ واحد: عيد العودة وعيد الانتصار.
كل شارعٍ فيها له قصة، وكل حجرٍ يشهد على بطولة، وكل نسمة بحرٍ تحمل في طياتها أسماء من رحلوا من أجل أن تبقى مصر حرّة
وفي يوم ذكرى النصر، أستعيد بصوتٍ مبحوح تلك الأغاني الوطنية التي حفرت في وجداننا:
"بسم الله… الله أكبر… على الربابة… أحلف بسماها وبترابها" — أغانٍ لا تُنسى لأنها خرجت من قلب الأمة وقت كان القلب ينبض بالأمل والدموع.
أجلس لأشاهد الأفلام التسجيلية عن الحرب، تلك المشاهد التي تُعيد لنا ملامح الأبطال ودموع الفرح في لحظة العبور.
لكنني أتمنى، من قلبي، أن نرى في سينمانا اليوم إنتاجاً جديداً عن نصر أكتوبر، أفلاماً تليق بما حدث، وتروي للأجيال الجديدة ما لم يعيشوه. ما يُعرض اليوم لا يكفي، فجيل السوشيال ميديا بحاجة إلى أن يتعرف على بطولات جيشه وشعبه من خلال الصورة والكلمة والفن،فهو متعطش للمزيد بعد نجاح مسلسل الإختيار وكيف تعارفنا معه
وعلينا أن نمنحهم جرعة وطنية صادقة تُعيد تعريف معنى الإنتماء، وأن نعرّفهم بالشخصيات التي حمت الوطن وصنعت المعجزة بدمائها وإيمانها.
ونصر أكتوبر سيظل بالنسبة لي فرحة العمر التي لا تعادلها فرحة، لأنه لم يُعد لنا الأرض فقط، بل أعاد لمصر كرامتها، ولنا نحن أبناءها الثقة في أنفسنا. سيبقى هذا اليوم شاهداً على أن مصر لا تُهزم، وأن أبناءها حين يتوحدون، يصنعون المعجزات مهما كانت التحديات.
وختاماً، تحية إجلالٍ وإكبارٍ لجيشنا العظيم، درع الوطن وسيفه، الذي كتب بدماء أبطاله صفحة النور في تاريخنا الحديث. سيبقى جيش مصر دائماً حصن الأمان ورمز القوة والعزة.
وكما قال الرئيس أنور السادات يوم النصر:
"إن التاريخ سوف يسجل بأحرفٍ من نور أن أبطال مصر قد أعادوا للعسكرية المصرية شرفها وللوطن كرامته."
ولكي تبقى هذه البطولات حيةً في وجدان الأجيال القادمة، أتمنى أن نرى في شوارعنا ومياديننا تماثيل لأبطال أكتوبر، قادةً وجنودًا، تُخلد تضحياتهم وتُعيد الإعتبار إلى سيرتهم العطرة. لتظل صورهم ماثلةً أمام الأعين، تُذكّر الجميع أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وأن الوطن لا يُصان إلا بالإخلاص والفداء.